من وحي الاحتفاء بعيد الجمهورية:
أي سجن كبير بتونس؟
من المؤسف حقّا أن تمرّ ذكرى الاحتفاء بإعلان الجمهورية بالبلاد في لخبطة قيمية فاحشة تفرّق أهل البلد عوض العمل بكل صدق ونزاهة على زيادة الترابط بين بناته وأبنائه، خاصة لما فيه، رغم المظاهر الخادعة، من عديد الميزات الدالة، لكل ملاحظ حصيف، على سلاسة الائتلاف عوض الاختلاف، وبالأخص إن كان من التوحش والعداوة. ذلك لأنه، بالرغم من نشاز الأحكام السريعة المخطئة والخداعة دوما، لا نعتقد جزما أن صفة العداء من أركان هوية البلاد ولا من شخصية مواطنيها. وهذا ما غاب عن فطنة المتمعّنين في خصائص الذات التونسية منذ القدم، إذ هي أقرب ميلا إلى الإمتاع والمؤانسة والعزوف عن المشاكسة والتنافر منها إلى الإسراع إليهما والتلذذ بهما تلذذ المازوخي. وذا، طبعا، شريطة أن تُحترم الذات هذه في خصائصها الرئيسية، فلا تنغّص بالإفحاش والمغالاة، مع الإمعان في التنغيص، إلى حدّ إهدار أهم ما يميّزها، ألا وهما، من نحو، الصبر الطويل والتأقلم المتأنّي مع كل الظروف بإكراهاتها، أيا كانت، ومن نحو آخر، التعلق بالحرية الشخصية كمكوّن رئيس للكرامة الذاتية.
ومن الضروري هنا عدم تجاهل صفة أخرى في التونسي، رديفة للآولى، لصيقة بلاوعيه ولا تتجلى إلا استثنائيا عند بلوغ السيل الزبى، وهي المتمثلة في أن انتفاء كرامته مع تجاوز حدود صبره وتأقلمه مع تعاسة الواقع المعيش وقساوته، من شأنه أن يغير شخصية التونسي رأسا على عقب، فإذا به ينقلب من الحمل الوديع، كما يعرف عادة عنه، إلى صفة القسورة الكامنة فيه والمغذية للاوعيه الدفين، حتى وإن قل تجليها فخيّل انعدامها. وقد بيّنت بالتفصل ملامح هذه الشخصية في الجزء الأول من ثلاثيتي بالفرنسية «تونس الاستثناء» (L’Exception Tunisie T1 : Jeu du jeu : Imaginaire en jeu, méditerranéen enjeu) ، معبّرا عنها بمثل «لعبة الأنا» (Jeu du je) التي يتعاطاها التونسي حسب سليقته توازيا مع تجل إضافي لشخصيته، أنعته بمثل المشربية الذي ليس وليدا فيه بل مكتسبا، لهذا نراه أحيانا ينقلب إلى مركّب فيما يخص علاقته بالحقوق والحريات (Parabole/complexe du moucharabieh) . هذا وغيره حملني على القول أن التونسة (Tunisianité) هي بحق استثناء؛ وقد أتى التعبير في عنوان الثلاثية. على أن تجلي هذه الخاصية لهو كالأهلة، لا يأتي باستمرار ولا ينعدم خسوفا؛ وهو اليوم أقرب إلى الكمون أو الخسوف. والسبب أن الاستثناء ذا بحاجة إلى حقوق محسوسة وحريات مضمونة، ذاتية خاصة، فيها تفتق الشخصية بكل ميزاتها وثرائها.
ولا محالة، ليس بالإمكان القول، حسب المنهجية العلمية الملتزمة بكلمة السواء، أن المواطنة التونسية تتقيّد بالاحترام التام لمكوناتها القاعدية، أي دولة القانون العادل لكل مكونات مجتمع ذات الحقوق الأصلية. فما من بد الاعتراف، أيا كانت الأسباب، أن البلاد لا تزال ما نعتّه دولة شبه القانون État de similidroit؛ ولا شك أن أكبر الدليل على هذه الحقيقة أن لا تزال تطبق بها قوانين عهد الدكتاتورية المخزية، بله نصوص الاحتلال الجائرة، وهي كلها مكبلة للحريات؛ فالمجلة الجزائية مثلا من مخلفات عهد الاستعمار، ورغم أنها حيّنت عديد المرات، فهي لا تزال تردع أبسط تجليات الكرامة، وأولها الحرية الذاتية يوميا وفي أبسط مظاهر الحياة الحميمية للمواطن. طبعا، لا أتحدث هنا عن مـظاهر شبه الحرية في معناها الشعبي المتعارف عليه والتي لا يمكن للتونسي العيش بدونها، وهي ما خصّصت له تحليلا سوسيولوجيا في دراستي «الفتوحات التونسية. ما بعد الحداثة الإسلامية» نـظّرت له كظاهرة/خاصية «تدبير الراس»؛ وهو طرح كان من المفروض تواجده محينا في الجزء الثالث من إعادة نشر كامل الكتاب بعد تحيينه في رباعية؛ إلا أنه لم يصدر منها إلى الآن إلا الجزء الأول «في الهوية». وليس هذا إلا بسبب تقصير ناشر الرباعية، التي تأتي في سداسية نشر منها الجزء الأخير المتعلّق بالصفّية، تعبيري المقترح للصوفية «فلسفة السياسة الصوفية. الإسلام السياسي، إسلام السياسة وسياسة الإسلام». مثل هذا التقصير، الذي سببه، علاوة على الجانب المادّي للناشر، خوفه من تداعيات سياسية لعلها تكون وخيمة لما في كتاباتي من جرأة النقد من باب قيل الحق ولو على النفس لأجل خدمة الصالح الأعمّ في نطاق ما أسمّيه كلمة السواء؛ وهو نموذج حيّ للعبة الأنا آنفة الذكر. لذا، لا تنازع في أن المانع للحقوق والحريات بتونس، أي السجن الكبير، هو أولا وقبل كل شيء ذهنيا، كامنا في عقلية غالب أهل الحل والعقد. كل حسب أهوائه ومعتقداته أو أيديولوجيته.
هذا وغيره ممّا يستشف من الواقع المعيش لكل ملاحظ لبيب، لهو المدخل الأنسب للقول أنه، خلافا لما رفعه البعض ممن تظاهر يوم الاحتفاء بعيد الجمهورية، ليست البلاد سجنا كبيرا، وإن عرفت كغيرها من بلدان العالم المتخلف اقتصاديا وسياسيا مساجين حرموا من حرياتهم بلا سبب أو لأسباب لم تثبت جدّيتها، خاصة وأنها تعتمد القوانين المجحفة لعهدي الدكتاتورية والاستعمار، وهما ممّا لا يختلف أحد بالبلاد على نبذهما؛ فكيف تتغير الأمور ومنظومتهما التشريعية لا تزال تطبّق إلى اليوم؟ فالأغرب عندنا هو أن من نادى وينادي اليوم بالديمقراطية حكم البلاد عشرية كاملة باسمها فأمسك عن إبطال نفس القوانين الزجرية التي يكتوي بها أنصاره اليوم، رغم أننا طالبناه عديد المرات به بذلك بما أنها من مخلفات عهد الدكتاتورية! هذا بخصوص حقيقة انعدام السجن الكبير بالبلاد بصفة منطقية موضوعية. فالسجن الحقيقي هو في متخيّل الساسة بتونس، سواء كانوا في الحكم اليوم أو سابقا، بما أنهم يرفضون تحرير الشعب من قيوده التي أهدر حريته وكرامته، هذا باسم قراءة خاطئة للدين، وذاك اعتمادا على فهم فضفاض للديمقراطية والآخر بمرجعية أخلاقية تنسف الأخلاق الصحيحة من أساسها.
إضافة لما سبق، من المتوجب أيضا التذكير بأن الحقيقة العلمية لهي التي من شأنها الانقلاب إلى باطل حال حدوث ما سمّاه باشلار الحادث الطارئ fait polémique أي ما يأتي بما يعكس مقولتها وبالدليل القاطع. ففيما يخص موضوع السجن الكبير بالبلاد، هذا الفهم الحصيف يأتي منسّبا تماما لردّنا إذا تركّز على واقع الشباب التونسي. فهو عديم الحرية في التنقل بكل حرية وعلى هواه، لا فقط خارج البلاد، بل ويداخلها أيضا، في بعض المناطق بعينها، لأجل أسباب متعلقة بالأمن أو متعلّلة به. من هذه الأسباب الأخيرة، تلك التي تخص ما ينعت جزافا بالهجرة السرية بينما ليست هي إلا تنقلا حرا ممنوعا لأجل خوف في غير محلّه من الاستقرار خارج البلاد، إذ لا يحمل التونسي على الاستقرار خارج بلده إلا المنع الذي أصبح يقاسي منه للسفر جسئة وذهابا، كما كان يفعل قبل فرض التأشيرة. هنا يأتي السؤال: هل يعقل من السلط التونسية، رغم تأكيدها على تعلقها بمبدأ سيادة الشعب واحترام حقوقه وحفظ كرامته، عدم المطالبة بإقرار حرية التنقل لمواطنيها بتعويض التأشيرة الحالية بنمط معروف ومستعمل، ألا وهو تأشيرة التنقل فتضمن حرية التنقل لمدة سنة مع قابلية التمديد، على ألا تصل مدة الإقامة بالبلد المزار ثلاثة أشهر.
إنّ هذا لممكن حقّا وحتما لو توفرت الجرأة لدينا للمطالبة به وربط التنازل الكبّار المتمثل في رفع بصمات التونسيين ببلادهم من طرف سلطات أجنبية، وما فيه من مسّ بالسيادة الوطنية، بتنازل مماثل من طرف السلطات الأجنبية باعتماد تأشيرة المرور المقنّنة لحرية التنقل؛ وهي الآلية المستعملة بصفة استثنائية لصالح صنف مختار من المحظوظين. فليس هذا ممّا يستحيل على ديبلوماسيتنا إذ أنه، لو طالبت بهذه التأشيرة، لا حيلة للسلطات الغربية سوى قبول الطلب لعديد الأسباب، منها القانونية ومنها الأخلاقية والاقتصادية، بل والسياسية إذا رافقه رفض صريح باتّ لمواصلة دعم التوجه الأمني الحالي بسبب كوارثه العديدة ومآسيه الانسانية. هذا ما لا يجهله الغرب، فنراه يناور جاهدا للضغط على بلاد الجنوب حتى تبقى الأمور على حالها، مستعملا كل الوسائل والمبرّرات الممكنة، بما فيها الباطل، وعلى رأسه المحفزات المالية لإسكات حكّام الجنوب على خدمة مصالح مواطنيهم. فإلى متى دوام مثل هذه اللعبة غير الأخلاقية بالمرّة بتونس وحكّامها اليوم يضعون الأخلاق في أعلى هرم العمل السياسي؟ إلى متى تبقى بلادنا سجنا كبيرا لمواطنيها بقبول دكتاتورية التأشيرة الحالية وقد أصبحت السبب الأول للهجرة السرية علاوة على طبيعتها الإجرامية بما أنها تشجع شبكات التهريب وتعدّد من مآسيها؟