تقديم
هذه رباعية في إسلام ما بعد الحداثة أو كما أكتبه الإ-سلام، تأكيدا على أهم ما فيه، ألا وهو السلام مع المؤمن والسكينة لأمر الله في جهاد أكبر متواصل مع النفس لأجل تزكيتها.
فهذا هو الإسلام الذي يحتمه الزمن، لأن دين محمد دين علمي التعاليم، عالميها، كان ثورة عقلية ولا يزال ويبقى كذلك أبد الآبدين.
إنها مجموع مقالات نشرت سابقا، ارتأيت تحيينها وجمعها هنا لتعميم الفائدة. وسأبدأ فيها برسالة إلى من غوى من إخوتنا المدعين الأخذ بالسلفية، مبينا لهم أنه لا سلفية إلا في التصوف والأخذ بصوفية الحقائق. وهذه الفاتحة أكتبها هنا باسم أخينا السلفي وهي طبعا وفي نفس الآن، حسب قواعد العربية التي تسمح بذلك، موجهة أيضا لأختنا السلفية التي التبس عليها دينها في لباس وغطاء رأس تحسبهما من الإسلام وليس هما منه بتاتا.
ثم إنى أثني بفصل المقال في الفرق بين الإسلام العربي، الإسلام الصحيح كما عرفه وعرّف به أهل التصوف، وإسلام الأعراب كما ندد به الدين الحنيف. وطبعا، لست هنا أفرق البتة بين أهل الوبر وأهل المدر في نمط حياتهم، بل فقط أبين الفرق الكبار بين فهم القرآن على قاعدة، حسب نصه وروحه، كما عرفته شعوبنا هنا بالمغرب العربي، والفهم الخاطيء الذي شاع اليوم بالجزيرة العربية فأنتج أفضع ما يكون من التزمت والفحش في ما لا يمكن أن يكون من الدين عامة ومن الإسلام خاصة.
وفي مقالة ثالثة، أعرض بأكثر تفصيل هذا الإسلام الما بعد حداثي المنتظر، قبل أن أختم هذه الرباعية مبينا ماهية الفتوحات المكية المابعد حداثية المنتظرة للإسلام التي بإمكان بلادنا المغربية الإتيان بها لصد الهجمة الشرسة على الإسلام التي نراها بشرق تهافت الدين فيه وغوى أهله؛ ولا شك أنه لا يسمح بصدها إلا الإ-سلام، إسلام زمن مابعد الحداثة.
والحديث يرتكر هنا على السلفية دون ما طرأ عليها من تشويهات خاصة عند التيار الجهادي، إلا أنه يبقى من روافدها فلا يمثل إلا مسخا فاحشا لتعاليمها ولا مجال للتخلص مع فحش الجهادية إلا بالقطع مع الفهم الخاطيء للسلفية.
فهذه محاولة في العودة بالإسلام إلى صفائه الأصلي الأصيل دون أن تكون عودتنا هذه كرة إلى الوراء بل هي قفزة نوعية إلى الأمام !
رباعية الإ-سلام، إسلام ما بعد الحداثة
(1)
رسالة إلى أخي الظالم نفسه وظـالم غيره : ما أنت بسلفي، يا هذا !
أخي السلفي،
أليست سنة السلف الصالح هي المثل الأعلى والخلق الأكرم؟ فحتام وإلام هذا التشويه للإسلام منك ومن رفاقك وكأنكم أعداء له ألداء؟ هل الإسلام إفساد في الأرض أم بناء وإعمار؟ وحتى لو افترضنا صحة للتعريف الخاطيء للجهاد الساري بين صفوفكم على أنه جهاد الأعداء، فأليس الثابت عن السلف الصالح أن الجهاد جهادان أعظمهما وأجلهما قدرا جهاد النفس لقهر نزعاتها نحو الخسيس من الأفعال ونزوعها الدؤوب إلى الوضيع من الأْعمال لما فيها مضرة بالغير ومعرة للإسلام؟
الأصول اليهودية والمسيحية في سلفية اليوم :
إنكم بتصرفاتكم الخرقاء هذه الأيام لا تدافعون عن الإسلام بل تشوهونه؛ وأنتم لا تمشون على هدي السلف الصالح وسنته السمحاء، بل تحاكون الأصول اليهودية والعادات المسيحية كما كانت زمنا طويلا تعادي الحريات واحترام الذات البشرية وقد كرسها الإسلام بلا منازع؛ بل هي تبقى من أبرز سماته ومميزاته!
لقد جاء الإسلام بهدم الأصنام، كل الأصنام، سواء كانت مادية أو معنوية؛ فما هذه الأصنام التي تشيدونها وتقدسون لها؟ إن أصنامكم اليوم في جاهليتكم الجديدة هي صنم المظهر وصنم الغرور بامتلاك الحقيقة وصنم المراءات في ما يسمى بالدفاع المتزمت عن دين لا يمت إلى الإسلام بصلة، وصنم التسلط على أولي الأمر وصنم الإفساد في الأرض والحرابة التي يعاقبها الإسلام أشد عقاب. أفليس المسلم الحق من سلم الناس من يده ولسانه؟ أليس جهاد السلف الصالح الأكبر هو جهاد النفس قبل أي جهاد آخر؟
إن السلفي الحق لا يسمح لنفسه بالاعتداء على الغير وعلى متاعه أيا كانت قيمته ومظهره؛ وكيف يفعل ذلك وقد امتنع من هو أشرف مني ومنك، الخليفة عمر بن الخطاب، من إقامة الحد على شاربي الخمرة لما تفطن أنه لم يعلم ذلك إلا بالتسرق عليهم ليلا وأن هذا كان منه مخالفة صارخة لمبدأ من أهم مباديء ديننا الحنيف، ألا وهو الحرية الشخصية واحترامها في نطاق ضمان الحياة الخاصة لكل البشر والدفاع عنها !
إن الإسلام دين محبة وإخاء، لا يعترف للمسلم بأعداء إلا من أراد ذلك لنفسه بالتسلط عليه والإضرار به صراحة؛ وها أنتم أولاء تزعمون له الأعداء، بل وأنتم تتمارون لتكونوا أولى طلائع الشر، بينما تزعمون أن ديدنكم هو أن تكونوا طلائع خير! فكيف تحاولون إخماد نور الإسلام الساطع من جديد في هذه البلاد بجهالة تصرفاتكم؟
نعم، هناك من يتقمص شخصكم ويستغل رفضكم لواقع معين ليزيد الطين بلة؛ ولكنكم لهم ردفاء وأعوان إذ أنتم زادهم ووقودهم في التشويه المتعمد لسماحة الإسلام الذي يبقى دين المحبة والتسامح ما بل بحر صوفة. فلو عدتم إلى المفهوم الصحيح للسلفية، لكنتم أول من يحارب هؤلاء الانتهازيين المفسدين في الأرض!
فهل يعقل أن ترفع المسيحية اليوم مثل التسامح والحرية، فنراها تدعي تميزها بها، ولا نجد لها أثرا بينكم وأنتم تريدون نصرة الإسلام؟ وأي فرق اليوم بين السلفي المسلم الغيور على دينه وذاك المارق عنه وعن القانون؟ أي إسلام هذا الذي تدعون إليه أو تقبلون به والإسلام سلام وأمان لا حرابة ولا حرب؟ كيف تعملون مع أعداء الإسلام يدا في يد على إجهاض كل تجربة رائدة في البلاد العربية، تجربة إرساء إسلام نير سمح، عالمي وعلمي، تحترم فيه الذات الإنسانية والحريات جميعها؟ فأليس الإسلام دين البشرية قاطبة، خاتم الأديان السماوية ورسالة المحبة الإلاهية لخلقه الذين هم بحاجة دوما لعفوه ورحمته لعظيم خطاياهم وتواترها؛ ومغفرته لهم مضمونة في إسلامنا؟
السلفية وقناع الجاهلية الحديثة :
أخي العربي السلفي،
أكتب إليك باسم المحبة التي تربطنا، محبة الأخوة العربية والرابطة الإسلامية، رغم كل الشائبات التي تعتريها والجرائم المرتكبة باسم الدين الذي يجمعنا دون أن يوحد صفوفنا.
أكتب إليك مستنيرا بهدي رسولنا الأكرم وسنته المجيدة إذ هي تكرس أنبل ما في الإنسان من محبة ونصرة لأخيه، ظالما كان أو مظلوما. فأنت اليوم من الظلمة، وأشد ما في ظلمك النكاية بإخوتك المسلمين وبالدين الذي تدعي الدفاع عنه.
أفعل ذلك بالرغم من الهوة العميقة التي تفصل بعضنا عن بعض، بل ولأجلها أيضا، لأن من مباديء ديننا الحنيف نبذ التباغض ورعاية مشاعر المودة والمحية؛ فكيف نرعى حقوق الله علينا إذا لم نمتحن قدرتنا عليها فنلتمس مدى فاعلية قيمنا مع أبعد الناس عنا، أو بالأحرى من نخالهم أعداء لنا وهم أحباب، على الأقل من زاوية النظر الدينية المبدئية؟
إن قناعني اليوم، وقد كانت نفسها بالأمس وتبقي هي هي غدا رغم الزوابع العاطفية والتشنجات الإيديولوجية والتصرفات الخرقاء، قناعتي هي أن السلفي هو المسلم الحق الغيور على دينه، المتمسك بأعز ما في ديننا الحنيف، ألا وهو روحه الثورية على التقاليد البالية ونزعته الإنسانية التي هي أولا وقبل كل شيء علمية وكونية. هذه قناعتي التي لا تزعزعها البتة تصرفات النوكى السلفيين ممن يحملون قناع الجاهلية الجهلاء دون دراية.
إن السلفي الحق عندي هو ذاك الذي جسده الإمام ابن حنبل في ورعه وعلمه، وبالأخص نبل أخلاقه وعلمية رسالته ونزاهتها، حيث كان لا يبعد عن الحق، فكان حريصا على أن تكون كلمته دوما كلمة السواء التي يراد بها القسطاس، لا كما علمنا تاريخنا في سرعة الانزلاق إلى متاهات وزيف المظاهر مما يحمل بعض أعداء الدين الإسلامي السمح استعمال كلمة الحق باطلا فلا يراد بها إلا الباطل!
كيف تكون سلفيا، أخي، وأنت لا تحترم أخاك المسلم وقد دعاك إلى ذلك شرعك، فأمرك بأن يسلم أخاك من يدك ولسانك؟ نعم، إنك تشكك في إسلامه، بل وتكفره؛ ولكن ما هذه الجرأة الفظيعة والله رحمان رحيم، عفوّ غفور؟ ألا تمنع بذلك إلاهك من إكرام عبده، الظالم لنفسه، بالمغفرة؛ وباب المغفرة في إسلامنا دوما على مصراعيه مفتوحا، أنسيت ذلك أو تناسيته؟
فما هذا الإسلام الدعي الذي نراه في ربوع بلادنا الجميلة، أرض التسامح والإخاء في حياة شعبها اليومية؟ ما هذه التصرفات منك ومن إخوتك التي هي أقرب إلى تلبيس إبليس منها إلى سماحة الدعوة المحمدية، دعوة المحبة والرحمة؟
منذ متى أمر إسلامنا الاعتداء على من لا يعتدي على المسلم بيده أو بلسانه، وقد حرض على الخلق الحسن وعلى إيثار غض النظر عن الإساءة طالما لم تطل منا السلامة؟ منذ متى أمر الإسلام، دين الحضارة، الإفساد في الأرض وطمس أي معلم ثقافي حتى وإن تجاهر بالمس بالمقدسات، لأن المقدس الحق في ديننا هو المقدس بالقلب والنية الصادقة لا بالشكل والمراءات؛ وهو المقدس بالاحترام والعمل على إعلاء حسنه ونبله وقداسته بالمثل الطيب لا بإضفاء مسحة من الجمود عليه مما تجعله من تلك الأصنام الحديثة التي تكمن قداستها في ظاهرها فيمنع المساس بشكلها وطقوسها.
ثم ما هذه الدعوة الجاهلية التي تجعل القدسات وشخص الرسول الكريم عرضة للتهكم لأجل أبسط البلاهات وتحط من سمو التعاليم الإسلامية فتعرضها لأتفه التصرفات وأخسها؟ هل انحطت قيمة الإسلام إلى هذه الدرجة حتى يمكن الاستخفاف به على النحو الذي نراه لأخس الأسباب؟ هل ديننا إسلام قواريرو أي شيء يهمه؟ ثم هل يتحدد الاحترام الذي يفرضه كل ما علا فسما بتصرفات البلهاء وترهاتهم؟ ثم متى عارض الإسلام حرية الفنان وعبقرية الشاعر وقد اعترف لهما بهما ودافع عنهما حتى وإن أدى ذلك بهما إلى الغي والغباوة؟
لعمري، إن تصرفاتكم الأخيرة ضد قداسة الروح لمن أفضع وأوضع ما تقومون به لتمجيد ديننا ورسوله! إن الإسلام أعلى من أن يدنسه أي تصرف أحمق؛ وإن تعاليمه لمن العلو والسمو ما لا يحط من الاحترام الواجب لها أي شيء، خاصة التظاهر بتطبيقها بحذافيرها مع اغتيال روحها، لأن مثل هذا التصرف لا يشين إلا صاحبه ولا أثر البتة له على براءة الإسلام منه وحفاظه على هيبته وسمو قدره. بل إن الإسلام لأعلى قدرا من أن يحقر أو يهان كما تفعلون، إذ يتعالى عن كل تصرف رذيل.
فكل تصرف مرتذل، في ديننا الحنيف، لا يجب أن يجابه إلا بالإزدراء والاحتقار، لأن في مثل رد الفعل هذا عين الحكمة، والإسلام حكمة الله. أما إذا تصرفنا بحمق، فتحمسنا باطلا لقدر الرسول المصون ومقدسات ديننا المحفوظة من طرف الله، فلا نكون إلا أكثر حمقا وأعلى قدرا في النوك ممن ندعي إساءتهم إلى الإسلام، لأن إساءتنا عندها أعظم، إذ هي إساءة لسماحة الإسلام. فمتى كان الإسلام يأبه لإساءات من لا يعلو إلى مقامه ولا يرتفع إلي مستوى رسالته؟ أليس الاحتقار أكبر وقعا علي المحتقر من الوقوع في فخ الإثارة الذي تنصبه كل إهاجة أوتحد من طرفه؟ هل أضر النبي أن قيل له مجنون وشاعر؟ أيضر السحاب نبح الكلاب، إذا جازفت ترضية لكم فقلت معكم أن ما يأتيه خصومكم العلمانيين من نوعية نباح خير رفيق للإنسان؟
أنا لا أشك في أن أخلصكم نية يحلم بأرض عربية لا شر فيها؛ ولكن قولوا لي : متى انعدم الشر من الحياة الدنيا؟ إن بلادنا لا تخلو من الشر كسائر بلاد العالم، بل حتى المدينة في عهد الرسول الأكرم كان فيها من الشطار شر ودعارة! فهلا تكونوا حقا خير خلق لخير سلف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمثل الطيب ومكارم الأخلاق لا بالإفساد في الأرض ومحاكاة الظالمي غيرهم وأنفسهم، المتجنين على روح الدين!
لقد علما الرسول الأكرم أن الإسلام في مثل هذه الحالات يقابل الإساءة بالإحتقار على أسوأ تقدير، بل ويعمل جاهدا على الإتيان بالحسنى لبيان الخطأ ولفت الإنتباه إلى ما يجدر الركون إليه، وذلك بالمجادلة وتبادل الرأي والصبر على بلاهة البلهاء حتى يرحمهم الله لبلوغ الصواب إن أراد لهم ذلك.
إن الإسلام لعلو كعبه ونبل رسالته لا يسطر أي خط أحمر لاحترام الناس له، لأن واجب الإحترام لدين مثله كوني وعلمي لهو واجب يفرضه العقل والتصرف الرصين لا بأمر من الحاكم أو بأي سلطة قهرية؛ إذ الإسلام يضمن الحرية كاملة، خاصة في ميدان الإبداع الثقافي الحر، وهو من الميادين التي ترفع من قدر الإنسان الحامل للأمانة الإلاهية.
الإسلام حداثة قبل أوانها :
إن السلفية الحقة هي جماعة فكرية قبل أن تكون عصبة مذهبية أو طائفة حزبية. ورسالتها، وإن علت في قدمها إلى عهد الرسول، متواترة ومستمرة، فلا تزال ظاهرة على الحق إلى قيام الساعة إذا التزمت به واحترمت أصوله وقواعده كما بناها إسلامنا. فالإسلام جاء ثورة عقلية، فكان جديدا وحديثا قبل حداثة الغير (وذلك ما أنعته بالحداثة التراجعية)، وهو يبقي دوما متجددا وثورة بروحه الأزلية؛ بل هو بحق خاتم الأديان في زمن ما بعد الحداثة الذي نحن بصدده.
فما هي الأصول والقواعد التي يفرضها على سلفيي زماننا الذي أظل وتدعو إليها تلك الحقيقة الثابتة؟
باديء ذى بدء، على السلفي اليوم التنصل من المعنى المتعارف عليه للسلفية الذي لا يمت بشيء إلي الصحة حتى عند من ادعى ذلك وتبجح بسلفيته، إذ هو كمن أراد الجمع بين الضب والنون، أي يأتي بالمستحيل في الموافقة بين دواب الصحراء ودواب البحر، ولا يمكن ذلك. فهو يجمع بين نار الجحيم المعدة للمفسدين في الأرض وماء الجنة الزلال الذي لا يرتوي منه إلا المسلم الأمين حقا على دينه المسالم الذي لا إكراه فيه ولا تمييز، إذ الإيمان في الإسلام يأتي عن قناعة وحرية.
فسلفي اليوم يجمع بين ظلالات ترهاته ومناهج غريبة عن الإسلام ذات أصول يهودية ومسيحية؛ ويعظم خطأه بأن يفعل ذلك باسم الإسلام الذي هو منه بريء.
نعم، لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها؛ فما الذي أصلح أولها؟ لم يكن إصلاح الإسلام إلا بالثورة على الجمود وجحود آلاء الله في نعمته على عباده بالعقل لأجل الاستنارة به في شؤون هذه الحياة الدنيا على هدي روح الدين ومقاصده لا على التقيد بنصوص أرادها الله فضلى لكونها تقدمية على الدوام، متدرجة في البيان وفي الأخذ بعلوم الآن.
أليس مدلول السلفية كما يقول، في الصفات الإلهية، الشيخ محمد أمان الجامي : «يطلق على طريقة الرعيل الأول ومن يقتدون بهم في تلقي العلم، وطريقة فهمه وبطبيعة الدعوة إليه . فلم يعد إذا محصورا في دور تاريخي معين. بل يجب أن يفهم على أنه مدلول مستمر استمرار الحياة وضرورة انحصار الفرقة الناجية في علماء الحديث والسنة وهم أصحاب هذا المنهج وهي لا تزال باقية إلى يوم القيامة من قوله صلى الله عليه وسلم : {لاتزال طائفة من أمتى منصورين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم}»؟
فهذه الطائفة، بصريح عبارة الرسول، لا يضرها من خالفها ولا من خذلها، لأنها تصبر على الحق وتداوم العمل على إعلاء كلمته بالتي هي أحسن دون إفساد في الأرض. أفليس الصبر على المصائب من أوكد وأسمى صفات المسلم الحق، لا مسلم الزجاج، ذلك الذي يفتخر بلمعان البلور ولا يأبه بما يحتويه مما فسد بداخله ولا بهشاشته إذ يتصدع أو ينكسر لأدنى هزة؟ أهذا إسلامك، أخي السلفي، ونحن اليوم في زمن ما بعد الحداثة، زمن عودة الوعي إلى عظمة خالق هذا الكون، وعصر عودة الروحانيات؛ وديننا من أفضل الممثلين لها؟
إن السلفبين هم أهل الأثر، اتبعوا الكتاب وسنة الرسول وأقوال الصحابة، وقد اتبعوا تلك الأثار بذكاء وفطنة، لا بجهالة، فلم يقتفوا الآثار كآثار، كأصنام وأنصاب لا تُمس ولا تُغير، بل اتبعوها كتشخيص لفكر وعلو مقاصد؛ فإذا تغيرت الظروف واقتضت تعديل الأثر للحفاظ على روحه السنية، كان ذلك جائزا وإلا أصبح الأثر صنما لا نورا يهتدى به.
والنور يتنوع حسب الزمان والمكان، أما الصنم فلا! خذ على ذلك مثلا في ابتداع السلف تحريم العبودية اليوم ولم ينص عليها الأثر؟ أفكان ذلك من باب البدعة أم التمسك بسنة السلف في روحها؟ ذلك هو احترام روح الأثر لا الأثر نفسه؛ ذلك هو حقا التمسك بسنة السلف الصالح والتزام طريقهم!
الإسلام ما بعد الحداثي :
إخوتي السلفيين،
متى استعبدتم الناس بنظرتكم إلى الإسلام وقد جعلهم الإسلام أحرارا، لا يؤمنون به قهرا بل بدافع علمي ووازع منطقي؟ متى كفرتم الناس وقد جعلهم الله مستحقين لرحمته الواسعة بعد محنة الشك وتيه الظلال؟ متى دفعتم بالناس بعضهم ضد بعض وقد جعلهم الله شعوبا وقبائل، مختلفي الرؤى والمشارب ليدفع بعضهم ببعض بحسن الخلق والمثل الطيب للاهتداء بأنفسهم إلى محجة الحق عن قناعة وطواعية. فالإيمان بالحنيفية السمحة هو إيمان دون وجل ولا رهبة، دون تعنيف ولاإكراه!
إني أحلم بالإسلام كدين للبشرية، فهو خاتم الأديان؛ ولا يكون ذلك إلا بإسلام سمح، علمي تأمر نزعته العقلانية بالأخد بروح نصوصه لا بحرفها، فذلك بحق التوحيد الذي هو أولا وقبل كل شيء الاعتراف بقدرة الله العليا في خدمة مصلحة الإنسان حتى وإن غربت على أفهام هؤلاء الذي يدعون الانتماء إليه وهمهم الإساءة والتشويه!
إن الإسلام دين صالح لكل الأزمان؛ وهذا لا يكون إلا بنص جاء في بلاغته ثائرا على وضع شائن، وهو في نفس الوقت متأقلم مع المحيط البشري الذي دعاه للتسليم لله. فهو يبقى أزليا ببقائه متأقلما مع الأوضاع الراهنة للبشرية بالتفعيل الدائم لروح الله التي تتجلى من خلال كلامه.
أفيحق لنا إذا، باسم قدسية الوحي، التمسك بنص كلام الله والتنصل من روحه؟ ألا يعلمنا الإسلام أن الروح، وهي من أمر الله، أعلى شأنا من كل شيء في مخلوقاته؟ فكيف نتجاهل روح الإسلام بدعوى احترام نصه؟
إن السلفي الحق اليوم، ذلك الذي يقدر نضال ابن حنبل في سمو غايته، لهو المسلم الذي يتمسك بروح الإسلام لا بنصه، بظاهر وباطن أهدافه التي تتناغم مع روحه كما تبينها مقاصده، لا بباطل ما ظهر منه فخالف باطنه وأهدر روحه!
إن المسلم اليوم في بلاد الإسلام ما بعد الحداثي هو المثال والقدوة للعالم أجمع من أجل دين يكون رحمة وسلامة للعالمين.
فهل أنت بحق ممن يؤمن بالسلفية هذه، أخي، فلا ينساق إلى ما يسمعه حوله من دعاة العنف، والعنف المعنوي أشد أحيانا من العنف المادي، لأنه يمهد له!
إن الأمر بيدك، أخي! فلا تقطع اليد الأخوية التي تمتد إليك، بل صافحها باسم الأخوة الإسلامية، وإسلامنا تتسع ظلاله لكل النوايا الطيبة حتى وإن اختلفت الرؤى والمشارب والتصرفات؛ فالحرية واحترام الآخر في ذاته البشرية، أيا كانت صفتها، من المباديء الإسلامية التي لا مناص من التقيد بها.
فلتعمل على أن تكون بحق مسلما في بلاد تساعد فيها على بروز الإسلام الما بعد حداثي، الإسلام العلمي والكوني، خاتم الأديان ورسالة المحبة الإلاهية للبشرية جمعاء، يغمرها برحمة الله الواسعة؛ وهو الغفور الرحيم!
أما إن تجاهلت روح الإسلام، فواصلت أنت ومن شايعك العمل باسم الدين على تشويه رسالته والإضرار به، فلن تفلحوا إلا في المروق عن هذا الدين، إذ عملكم لهو مما تثلج له صدور أعداء الإسلام؛ فأنتم بتصرفكم الأخرق في الإفساد في الأرض مجرد بيادق بأيديهم تنفذ مخططاتهم الرامية إلى شيطنة الإسلام وتقويض حضارته. أفلا تفقهون؟
ها أنذا، أخي السلفي، في هذه الرسالة إليك، فتحت لك قلبي وصارحتك بما يختلج فيه. فهل من تصرف مماثل من طرفك، إذ المسلم، كما علمنا سيد الآنام، هو الذي يرد التحية بخير منها؟ فهلا تحية أحسن من لدنك؟
إني لا أريد الشك في ذلك إلا إذا لم تكن بحق سلفيا ولا كنت تونسيا؛ وأنا أنأى بك عن هذا وذاك، لأن السلفي الحق في تونس ما بعد الحداثة هو المتمسك بالعروة الوثقي؛ وهي اليوم، أكثر من أي وقت مضى، روح الدين الإسلامي!
أخي السلفي الغيور حقا على دينه،
هل لي، في الختام، أن أوصيك وصية تحفظ بها دينك ودنياك؟
التزم الجادة، وإياك وبنيات الطريق، فإنها الظلالة الحقة! إياك أن تدخل في أعمال التخريب الجهادية وظلمات التكفير الجاهلية فتهلك! إني أعيذك بالله أن تقع في حبائل من همه إخماد نور الإسلام أو تسمع لقيلهم، وهو قول زور! عليك بالأمر الحق الذي رضيه السابقون الأولون والتابعون لهم بإحسان والأئمة الأخيار، وهو نصرة الإسلام في سماحته ودعم روحه النيرة ونزعته العلمية والكونية، واحترامه التام للذات البشرية وحقها في الرحمة الإلاهية أيا كان ذنبها، فإنه سبيل الحق!
وإياك إياك التجاهل أن رأفة الله بعباده، كل عباده، هي مثل كلماته، فلو كان البحر المحيط مدادا لها لنفذ البحر قبل أن تنفذ رحمة ربنا الرحمان الرحيم!
رباعية الإ-سلام، إسلام ما بعد الحداثة
(2)
فصل الكلام في ما بين العربي والأعرابي من اختلاف في فهم الإسلام
لقد بينت، في مقالات سبقت لي هنا وهناك، أن ما نراه اليوم بشوارعنا وفي عموم البلاد الإسلامية ممن يدعي السلفية ليس في شيء من السلفية الحقة؛ إذ تلك حقا سلفية مزعومة، تتقول على الإسلام ما ليس فيه، وتفعل به ما ليس منه.
تلك هي سلفية الأكاذيب؛ وهي كالمسيح الدجال، علامة عودة الإسلام الحق، الإسلام التنويري كما كان وجاء به الرسول الأكرم، وكما سيعود، الإسلام الثوري على كل ما تحنط في أنفسنا، إسلام ما بعد الحداثة.
والجميع يعلم أني أطلق هذا النعت على الإسلام الذي يبقي تلك الثورة التي عهدناها منه على الأوضاع القائمة، إذا الإسلام ثورة أو لا يكون؛ وذلك لأننا في زمن ما بعد الحداثة وقد عوض فترة الحداثة المنقضية.
ولا بأس أن نذكر أن السلفية الحقة في زمننا المابعد حداثي هذا هي صوفية الحقائق حسب تعبير الشيخ ابن تيمية نفسه، سائرا في ذلك على نهج الإمام ابن حنبل؛ وقد صدق الإثنان، والشيء من مأتاه لا يُستغرب!
فالصوفية، صوفية الجنيد مثلا كما سار على دربه وسلك مسلكه إسلامنا المتسامح بربوع بلادنا الآمنة بالمغرب الأمازيغي العربي، هي التي فهمت الإسلام على حقيقته، فتمسكت بالقرآن والسنة وتقيدت بمقاصده متجاوزة الرسم إلى الروح، والروح أعلى ما في خلق الله.
فكلام الله العزيز العلي لا يمكن أن يكون نصا بلا روح وإلا كان صنما، وقد جاء الإسلام بهدم كل الأصنام، بما فيها تلك التي بأنفسنا، هذي الأصنام التي نعبدها ولا نشعر كما تفعل سلفية الأكاذيب اليوم، فتحي دين الجاهلية ولا تشعر!
ولعله حان الوقت اليوم في مغربنا الحبيب لفصل المقال في هذا الموضوع بتذكير هذه الحقائق وزيادة لمن نسيها أو تناساها ممن يدعي نصرة الإسلام على الساحة السياسية، فيتقمص دور المهرج دون أن يعلم، وليس في الدين لا تهريج ولا عربدة ولا مجون.
لقد حان الوقت لهذا العود على البدء اللامتناهي لديننا الحنيف المتجدد دوما، لأن الإسلام في نشأة مستمرة، تراه وقد أحاطت به الظلمات من كل ناحية، فتظنه هلك بعد أو أوشك ولا محالة، فإذا نوره الساطع يتألق من جديد، يبهر الأنظار ويطهّر أنفس الأخيار ويعمي أبصار من مرضت سريرته فصار بلا بصيرة في ظلمات الجهالة يعمه معربدا ماجنا؛ ولا قصف ولا مجون ولا جنون في ظلال الإسلام، لأن ديننا السمح يُذكي العقول ويُنمي الحس المرهف والحلم والمروءة.
لا جهاد اليوم إلا الجهاد الأكبر :
لذا، نقول اليوم، ونحن نفصل الكلام في فهم الإسلام، إن ديننا هو تلك المعجزة الحضارية التي لا تنالها أحلام العصافير التي عشعشت في الأنفس المريضة فتجاهلت الجهاد الأكبر جهاد النفس، وتعاطت أضعف ما في الإيمان، ذلك الجهاد الأصغر خاصة بعد أن ولّى وقته وانقضى.
وليس هناك أدنى شك في أن هذا التصرف من هؤلاء لمن باب التضليل والتدجيل على جهالتهم في تعاطيهم لمصلحتهم الخاصة دون مصلحة ديننا العظيم، خاتم الأديان، الذي يقضي بالسماحة والتفتح على العالمين.
إنها الكلمة الفصل لبيان وتبيين ما فات كل من ادعى خدمة الدين من ضرورة إعمال عقل طريف وظريف في إسلام حنيف، لأن المؤمن فيه مرهف الحس، كريم النفس، دقيق التصرف، جليل الحلم، عالي الهمة، صافي النية، نقي اليد والضمير.
فأنا أقول إذا لكل من ادعى ويدعي الإسلام اليوم ولكل من تبجح بسلفية هو ليس منها في ربوع مغربنا حيث يستأنف ديننا نشأته المستمرة، أقول كما قال الله في كتابه العزيز وجاءت به الآية 14 من سورة الحجرات : ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم).
فالسلفية اليوم، وخاصة الجهادية منها، تدّعي مقام الإسلام ولم يحصل لها ذلك بعد، لأن أعمالها وتصرفاتها، تصرفات النوكى، وهي أنكى من تصرفات الجاهلية، تنقض فعلها؛ فهي في ذلك، كما قال تعالى في سورة النحل، الآية 92 (كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا).
الربيع العربي يحمل ربيعا إسلاميا :
وأقول أيضا لاستيفاء المقالة لأهل الجهالة : إن العرب منذ الانقلاب الشعبي على الديكتاتورية المعشعشة في العقول مع ربيعها تكتشف نفسها يوما بعد يوم وتحاول أن تستعيد ذاتيتها وقد امتُحنت طويلا بأن حاول البعض سلبها منها أو حملها على إضاعتها.
ومنذ صعود أحزاب إسلامية إلى سدة الحكم في بعض الأرضون، بدا للبعض أنه يمثل عودة الوعي للعربي المسلم واسترجاعه لذاته؛ وغاب عنهم أن أغلب تلك الأحزاب الإسلامية، أو تلك التي تبني نشاطها على مرجعيتها الإسلامية، ليست إلا تيارات تدّعي الانتماء إلى الإسلام بينما ليست هي إسلامية في شيء، إذ لا تمثل إلا قراءة معينة للإسلام ظهرت وطغت في فترة من التاريخ دون أن تمثل الإسلام كله أو تعطي أفضل صورة عنه.
فهي ليست في الدين إلا نزعة بدت في فترة من فترات المحن التي مرت بها البلاد العربية ملخصا لذاتيته، بينما لم تكن كذلك إلا للظروف التاريخية التي جعلت منها تحمى حمى الإسلام وتذب عنه وهو يتعرض لهجمات حاولت محوه من فوق البسيطة. لذا، فرضت نفسها كأفضل مدافع عن الدين رغم هشاشة أخذها بالدين في لب لبابه وقراءتها له قراءة سطحية تمسخ روحه وتفسد تعالي تعاليمه في علميتها وكونيتها.
إن نظرة العديد من العرب اليوم لدين الإسلام نظرة أعرابية، إذ ليست هي عربية بالمرة؛ ولا يخفى علينا، وحتى على غير اللبيب منا، الفرق الكبير بين ما يميّز العربي من فكر متوقد فذهن متفتح وعلم بضرورة التفتح على العالم وعلى الآخر المختلف، وما يختص به الأعرابي من عجرفة وفهم ضيق للأشياء وصلف وتكبر، بل وإساءة صرفة للدين.
ولنذكّر ما يقول الله في محكم كتابه العزيز عن إسلام الأعراب في الآية 97 من سورة التوبة : (الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم).
ولعله من الغريب أن يكون الشأن كذلك ونحن نعلم أن العربية الفصحى، كما جاء بها القرآن وتفتقت فيها بلاغته، هي أولا وقبل كل شيء لغة هذا الأعرابي البدوي الأجلف. وقد كان عرب المدن والقرى يبعثون بأطفالهم للعيش عند القبائل البدوية حتى يتعلموا اللغة العربية الفصحى ويحذقونها. وهكذا كان شأن الرسول. ثم رأينا علماء اللغة، عندما جاء الوقت لتقنين العربية كعلم قائم الذات، يرحلون من قبيلة إلى قبيلة لتعلم العربية الفصحى، التي كانت العربية القحة، عربية البادية، أي عربية الأعراب.
ورغم هذا، رغم أن العربي الفصيح هو البدوي، فالإسلام لم يكن بدويا بالمرة؛ وقد أكد ما بينه وبين عقلية البدوي من اختلاف. فهو وإن أخذ عنه لغة القرآن، لم يعتمد على عقليته ونظرته للأشياء بالمرة؛ بل هو نبذها تمام النبذ كما رأينا.
ولا شك أن الشأن هو نفسه اليوم مع من ينادي بتطبيق الإسلام في نصه وظاهره دون العودة إلى مقاصده وروحه، فهو في تصرفه هذا كالأعرابي الجلف لا العربي اللبق.
إن فهمه للدين، وإن كان ظاهريا صحيحا، مفحما، فهو فقط كذلك لأعمش البصر، قاصر الفكر، عديم البصيرة، لأنه من الغلط لبمكان، مفحشا في إدارة ظهره للحق، إذ لا يفهم الفهم الصحيح تعاليم دينه فلا يقدر بلاغته وروعته وقد رفض الأخذ بمقاصده ملتزما روحه كما جاءت بها حكمة الله السنيّة؛ وأنّى للعقول البشرية أن تطالها !
ومن المفيد التذكير هنا أن المجالس الأدبية، وقد تعددت في العهد العباسي الأول الزاهر إبان أوج حضارة الإسلام، كانت كثيرا ما تحتكم إلى الأعراب في قضايا تشغل علماء اللغة. ولعله من الطريف الإشارة، إذ التاريخ يعيد نفسه، إلى أن بعض الأحكام التي كانت تصدر، وإن فرضت نفسها في تلك المجالس، لم تكن صحيحة بالمرة لما كان يطرأ عليها، لأسباب سياسية، من غش واحتيال.
وقضية الزنبور مشهورة، وقد ذهب ضحيتها سيبويه رغم علو كعبه في العلم وجلال قدره، إذ حكم ضده أعرابي بغير الصحيح لرشوة نالها من خصيم عالمنا الجليل لأجل الحظوة السياسية والغرور الزائف.
وإن كان الغش في الأدب معروف ومشهور، إذ لعل الكثير من الشعر الجاهلي من المنحول وقع نظمه في العهد العباسي، كما بين ذلك طه حسين، فلم يسلم الدين منه، ومن الكذب خاصة.
ولست أبتدع بدعة إذا قلت أن هناك العديد من الأحاديث الغير صحيحة، المنحولة، مما أدى بعلماء الحديث إلى استنباط الوسائل للتفريق بين نوعية الحديث وفرزها.
ولعله من الضروري التذكير أن نزعة الغش والكذب هذه كانت تُستحسن عند البعض لأجل غايتها في الوعظ، فتجعلهم يتقوّلون على الرسول باسم فعل الخير وعمل البر، ويتسامحون في ذلك مع الوسائل وإن كانت خسيسة وضيعة. والشأن هو نفسه اليوم في أفضل الحالات، إذ هذا ما لا نزال نراه عند بعض رجالات الدين؛ ودعك ممن أخذ في السياسة فخبط فيها خبط عشواء.
الإسلام بالشرق الذي غوى دعي أعرابي :
هكذا إذا كان تاريخنا العربي الإسلامي مشحونا بمغالطات عدة وجب علينا التنبه إليها إذا أردنا حقا النزاهة والموضوعية، والإسلام نزاهة أو لا يكون.
فقد سجل لنا التاريخ، منذ البداية، كيف كان التلاعب بلغتنا وبديننا رياضة يومية، حتى وإن أدى الحال في ذلك إلى شراء الذمم، كما رأينا في موضوع الفصل بين الخصوم في مواضيع اللغة أو في استنباط أحاديث لم يروها الرسول بتاتا.
ودار لقمان على حالها في هذا الشأن، وها هي السياسة تمعن غي إفسادها. ولكن ما يزيد الطين بلة في عصرنا الحاضر، هو أن العربي الذي يجهل دينه لجهله للغته يأخذها من أصحاب اللغة، وهم الأعراب، أي سلفية الأكاذيب، فيأخذ معها فهمهم للدين وقد بيّن الله صراحة في محكم كتابه العزيز أنه لا يجب أخذ تعاليم الدين عنهم !
ألا فليعلم الجميع أن سلفية الأكاذيب ببلادنا ومثلهم الأعلى بشرق غوى هم أعراب الدين، لا يفقهون فيه شيئا؛ فهم، كما قال التوحيدي، ممن يقلب الدرة بعرة. حاشى الله أن يسقط ديننا الكريم إلى حضيض ما يريدون له!
لقد جاء الإسلام رحمة للعالمين ونقمة على الجاهلين، فإذا سلفية الأكاذيب وجهادية اللاإسلام، التي هي بحق جهالية لا جهادية، تقلب الآية فتجعله نقمة على العالمين، رحمة للجاهلين؛ أفهكذا يكون الإسلام، يا أهل الإسلام؟
إن الإسلام ثورة عارمة على كل ما فسد في الدنيا، وأهم ما يفسد فيها وأوله أنفسنا الضعيفة عندما يتمكن منها الشيطان فيجعلنا نتصرف كالطاغوت، نُرغي ونُزبد وننسى أن إسلامنا يفرض علينا الحسنى وإعطاء المثل الطيب، أيا كان تصرف غيرنا وغيه.
نعم، إن الإسلام حرب، ولكنها حرب على ما في أنفسنا لكبح نوازعها للأسوأ وانصرافها عن حب الآخر، كل آخر، أيا كان وأيا كانت أهواؤه، حتى لا يكون تصرفنا معه موضوعيا فقط، بل ومتقيدا بروح ديننا.
وروح هذا الدين السمح تقتضي محبة كل مخالف لنا، حتى المذنب منهم في عرفنا، لأن الله يحب المذنب العاصي له تماما كما يحب المؤمن المتبتّل؛ بل لعله يحبه أكثر، لأن الله بحق الرؤوف الرحيم.
إن ربّنا لا يغلق أبدا أبواب الرحمة والمغفوة والتوبة، وقد خلق الإنسان ضعيفا فجعل له الإسلام محجة. ولا شك أن الإنسان لا يُولد على قدميه ماشيا، إذ عليه أن يتعلم، فيقوم ليسقط ليقوم فيسقط ويقوم وينتصب أخيرا واقفا على قدميه.
إلا أنه لا يحل لهذا الإنسان عندما يقف أخيرا على رجليه الانتصاب كالصنم بين من لم يصل بعد إلى ما وصل إليه هو، وإلا كان كأنصاب الجاهلية لهؤلاء، ظالما لهم الظلم الكبار في مسلكهم نحو الله، مريدين رحمته وهدايته؛ فهل هي عودة إلى الجاهلية اليوم بالمغرب الأمازيغي العربي بعد أن هوى الشرق في الجاهلية النكراء مجددا؟
خلاصة القول إن من يدّعي السلفية اليوم، السلفية الجهالية المدعية الجهادية خاصة، لا ينتمي إلى سلفية الإسلام الحقيقية بتصرفاته الخرقاء وجرائمه النكراء التي تناقض الإسلام في صفوة ما فيه، روح تعاليمه؛ ولهو أيضا بالدخيل على أخلاقية العربي إذ لا يعدو أن يكون أعرابيا جلفا.
إنها عبرة لمن يعتبر! والله لا يهدى إلا من شاء؛ أما من أبى، فله دوما الأمل في رحمته التي هي كالبحر المحيط، لا نفاذ لها. هدى الله الجميع إلى محجة الإسلام، وهو اليوم بلا أدنى شك إسلام ما بعد الحداثة، الدين العلمي التعاليم، الكونيها، لأنه خاتم الأديان كلها !
هذا فصل الكلام في من يفقه بحق الإسلام، فليقل غيره من يدّعي في الدين معرفة، ونحن له من السامعين!
رباعية الإ-سلام، إسلام ما بعد الحداثة
(3)
في الإسلام ما بعد الحديث : من التزمت السلفي إلى الصفاء الصوفي
إن ما يحدث هذه الأيام على الساحة العربية الإسلامية يؤشر على اشتداد وتيرة الانزلاق الخطير الذي تعرفه منطقتنا نحو التزمت والتفسخ باسم الدين الحنيف، مما يضع أي حزب حاكم بمرجعية إسلامية أمام مسؤولياته في اختيار سياسته التي تأرجحت حتى يومنا هذا عند الكثير ممن صعد سدة الكم بين المداهنة في التفتح على الديمقراطية الحقة والتمسك بمرجعية إسلامية ظلامية. بل مع ما نرى بالشرق الذي غوى، هدم صرح الدين باسم الإسلام. والأحزاب الإسلامية بمغربنا اعتمدت إلى الآن سياسة من يقدم رجلا إلى الأمام ويؤخر الأخرى خطوات إلى الوراء، ولم يعد لها المجال للتمادي في هذا النمط من السياسة الذي من شأنه أن يذهب بالأخضر واليابس بمغربنا كما هو الحال بالشرق اليوم.
لقد حان الوقت بتحدياته الجمة على أن تقف الأحزاب الإسلامية على رجليها معا أو، على الأقل، أن تختار على أي منهما تعتمد : على الرجل الديمقراطية أو تلك الرجل التي يحافظ عليها بين جموع السلفية الظلامية مع ما فيها من ميولات جهادية مجرمة.
إن السلفية اليوم كما نراها في شوارعنا المغربية ليست بالسلفية الحقة التي تعني العودة إلى مثال سلفنا الصالح، لأن هذا السلف ما كان يوما متزمتا وظلاميا، بل أخلاقه كانت التسامح والعفو والمغفرة حتى على الإساءة وإن جارت فكانت من الظلم والتعسف. فالمس الحق بقداسة أخلاق التسامح في الإسلام هو المساس بتسامحه وعدم التجافي عن كل ما فيه إفساد في الأرض، وإن كان بسبب إفساد أكبر؛ إذ لا إصلاح البتة بإفساد في الإسلام الحق!
إن السلفية الحقة اليوم لهي ما عرفناه في تعاليم الصوفية الأوائل، فقط أعطوا للإسلام حق قدره وأعلوا رسالته وأحكام دعوته التنويرية. وحدث ولا حرج عن السلفية الجهادية وقد فتحت أبواب الجحيم مدعية أنة جنة الملسمين كما يحدث ذلك تحت أعيننا بالشرق الذي غوى. فلتختر أحزاب الإسلام السياسي بالمغرب الأمازيغي العربي صفها ولتقطع علنا بالحزم الكافي والفعل الشافي كل صلة مشبوهة مع من يشين مباديء الدين الإسلامي ويشوه صورة مغربنا الجديدة، علاوة على إفساد سياسة حكامه وإحباط إثمارها لأجل صالح المغرب الكبير ومواطنيه!
عود على بدء :
لعل ما يبني للسلفية صرحا مشيدا في النفوس هو انعدام مثل ذلك الصرح في الحاضر. لذا، فليس من النوك القول أنه إذا تراءت إمكانية تشييده، تضاءلت حظوظ الهرع إلى أحضان السلفية، وإلا انعدمت الهمة والفتوة، وهما الأس فيها ولب اللباب منها.
فقد ظهر السلفيون في فترة انهيار حضارة الإسلام، فكان وازعهم، وهو العودة إلى أمجاد الماضي، من باب التعلق بما هو أغلى بعد النفس وحتى قبلها، ألا هو الدين بصفته الذات نفسها. فلا مبالغة إن قلنا أن ظهور السلفية كان صرخة فزع من التلاشي والضياع وردة فعل من يرفض الموت، متعلقا بالحياة. فهي إذا في بدايتها تعلق بالحاضر، وهو البقاء، أكثر منها بالماضي، لأنها رغبة في الحياة ورفض للزوال.
أما وقد أصبحت بعد ذلك، واليوم خاصة، هذا النزوع المنكر إلى الماضي السحيق، فذلك لا يعدو أن يكون أيضا من باب الدفاع عن النفس ورفض الآخر، هذا الآخر الذي يراه السلفي ينسف ماضيه بما فيه من ثراء مما يدفعه إلى تمجيد الماضي، كل الماضي، حتى وإن أدى ذلك إلى تعمد التصرف الأحمق من باب التحدي والإثارة. كل ذلك من أجل التعلق بمثل وأخلاق عالية، عُدّت أعلى ما يوجد.
ونحن إذ تفرسنا في الواقع الإسلامي وتمعنا في المتخيل العربي، نجد أن ممن رفع عاليا مثل تلك الأخلاقية هم بلا منازع أهل التصوف حيث جعلوا منها رايتهم بالإضافة إلى تعلقهم المتين بالقرآن والسنة. فكان لهم في ذلك السبق وكانت السلفية من اللاحقين.
ونحن طبعا في حديثنا هذا عن الصوفية لا نعرض إلى المشعوذين وأرباب التحيل، بل نتحدث عن أعلام الصوفية من فقهاء أجلاء كالجنيد والغزالي وعبد القادر الجزائري مثلا.
فكل مقاربة بين الإثنين تؤدي بالتأكيد إلى القول أن التعلق بالإسلام أكبر وأصدق بالنسبة للصوفية التي هي أولا وقبل كل شيء مجاهدة للنفس كبرى لبلوغ الصفاء، فهي حكر على صفوة المؤمنين بالله وعلى رأسهم المسلم بالمعنى الذي جاء به الأثر : المسلم من سلم الناس من يده ولسانه.
إلا أن الفارق بين الصوفي والسلفي في تعلق كل واحد منهما بالدين هو كتعلق الإنسان بالحياة، يرى الأول أنها تنتهي مع الموت ولا تكون إلا مع حياة البدن فتجهل الروح ومستلزماتها، بينما يرى الثاني الروح التي لا تموت مع البدن والتي بها قوام حياة الجسم المادي، بل هي أساس كل شيء.
فالإسلام، ونراه للإيمان بمثابة الوضوء للصلاة، هو أولا وقبل كل شيء في تعاطي الخير ومحبة الغير على هناته قبل أن يكون شعائر وعبادات؛ فأليس الإسلام دين ومعاملات؟ أليست المعاملات فيه أهم من العبادات؟ ذلك أن العبادة مدارها علاقة العبد بالله، لا نظر فيها إلا لله، أما المعاملات فهي تخص البشر بعضهم ببعض، ولذلك أهميتها قصوى، بل هي أكثر أهمية من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والحج بالرغم من أن ذلك يعتبر من بين القواعد الإسلامية الأساسية. وجمهور المسلمين على هذا الرأي وإن لم ينعدم الخلاف بين الشاذ منهم عن سنة الرسول.
ولاغرو أن الهمة للنشاط والابداع تتطلب وجود الحافز النفساني أولا ثم البدني والمادي ثانيا ثم الإطار الأمثل حتى تأخذ حظها فترتفع من مجرد الرغبة والأمل إلى خير العمل والنشاط الدؤوب. ولاشك أن اليوم، في بلادنا، توفرت كل هذه العوامل دفعة واحدة بالنقلة النوعية التي سمحت بها ثورة الشعب _ أو ما أسميته بالإنقلاب الشعبي _ على نظام الإستبداد وكبح الحريات.
لذا، ليس من باب التبجح بهذه الثورة أو من باب البلاهة التأكيد على أن الفرصة سانحة اليوم في بلاد المغرب، مع ما يأتينا من فظاعة من الشرق الذي غاص في أسفل الافلين، للارتقاء بالممارسة الاسلامية إلى تعامل أسمى يأخذ بظاهر الدين وباطنه، سواء بكليهما أو على حدة، وذلك بكل حرية ومسؤولية، فينجح في ذلك بالارتفاع بالإسلام إلى المرتبة التي تليق به كدين وكحضارة، إذ لا ينحصر أخد المسلم منه بحرفه بل يرتوي من نصه ومن روحه حيث يكون ديدنه في ذلك مقاصد الشريعة التي تتلخص، كما قلنا في مقالات سابقة، في كونية الإسلام وعلميته.
فبهذه الطريقة، وبها وحدها، نضمن للإسلام في عصر ما بعد الحداثة الذي نحن فيه محوريته في التاريخ البشري بمثابة العهد الأخير من الله إلى عباده بعد العهد القديم والعهد الحديث (اليهودية والمسيحية) ونعترف بحداثيته السابقة لأوانها، وذلك ما أسميته بالتراجع الحداثي Rétromodernité في مصطلح جديد يفرضه مصطلح ما بعد الحداثة. ولا شك أن مثل هذا المنظور لما تعتبره السلفية كركيزة أساسية لمفهومها الديني يجدد إطارها المعرفي وكامل فلسفتها دون المساس بلب لبابها ألا وهو الاعتراف بعلوية الدين الإسلامي والسنة المحمدية.
إلا أن الطريف في توجهنا هذا هو أننا لا نفعل ذلك على طريقة السلفية الحالية التي أخطأت في مفهوم التوحيد الإسلامي إذ أفاضته على كل شيء حتى على الآراء والممارسات الدينية، بينما التوحيد في الإسلام لا يتعلق إلا بتوحيد الإلاه. وها هي الجهادية من السلفية تجعل من الإسلام مطية لدولة تمارس الشيطنة وأفظع مظاهر الطاغوت. بينما يبقى المبدأ الذي يسّير سائر مظاهر الدين في الإسلام هو حرية الرأي وطلاقة التأويل؛ ولعل نزول القرآن على سبعة أحرف لأكبر دليل على هذه الحرية التي لا غنى عنها في الإسلام.
نعم، لقد سادت في التاريخ الإسلامي نزعة التأويل الأوحد للقرآن والقراءة المثلى، وأبطلت تلك الحرية التي تعلق بها المسلمون الأوائل بما فيهم صفوة الصحابة من تعدد القراءات والمصاحف، وكان ذلك أساسا من منطلق سياسي لا ديني. ولا نشك أن هذا الذي تم خاصة في عهد الخليفة الراشد الثالث كان ضروريا لما وصلت إليه حالة الإسلام آنذاك من الخلاف والإختلاف مما أذن بالفتنة الكبرى التي لم يرتق صدعها مثل ذلك العمل، بل لعله بدوره كان في إذكائها أدهى وأنكى. أما اليوم والإسلام بخلاف الأديان الكتابية الأخرى في قلوب الناس، فلا شك أن العودة إلى روحه الأصلية والاعتراف بتعدد منابع الايمان به وتنوع تجلياتها لا يزيده إلا منعة وقوة.
نحو بدء بعد بدء !
إن التمسك بمفهوم السلفية كما نعرفه إلى اليوم، أي وحدة المفهوم الديني ومرجعية سلطة السلف العليا، لهو تمسك بتقليد غريب عن الدين الإسلامي حيث تعود أصوله إلى اليهودية والمسيحية وكانتا سباقتين إلى فرض مفهوم خاطيء لدين موسى وعيسى لإقامة نفوذ رجال الدين من أحبار وربيين وقساوسة وباباوات.
وقد عمل منظرو السلفية المسلمون على استنساخ مثل هذا التوجه، فوحدوا مفهوم الدين حول سلطة مرجعية لا وجود لها في دين قوامه العلاقة المباشرة بين الله وعبده، فجعلوا لهذه السلطة حق التكفير بينما يبقى الله عند المسلم الأصيل السلطة العليا التي لها وحدها حق العقاب والثواب وحتى الغفران لأدهى وأكبر الذنوب، إذ الله أساسا غفور رحيم!
وهكذا، وبدون أن تشعر، تنكرت السلفية لدينها وأدخلت فيه ما ليس منه وتطاولت على الله حيث جهلت أعظم مميزاته، وذلك كله من باب التلبيس والتقليد لما حاكته من الدينين اليهودي والمسيحي وقد أساء أهلهما إليهما حبا للرئاسة والنفوذ.
فلنعد للإسلام الحق، دين العقل والحرية، دين التسامح والصفاء، الدين الكوني الذي يجمع التقاليد الدينية كلها، يهودية كانت أو مسيحية أو إسلامية، في عهد الله الأخير لعباده، القرآن الكريم! لقد آن الأوان للسلفية أن تعاود النظر في مسلماتها فتنتبه إلى أن أطرها النظرية الحالية تعمل فعلا على تحقيق ما رآه الرسول ولا محالة، ولكن ليس في إعلاء كلمة الإسلام بل في التعجيل بإعادته غريبا كما بدأ؛ فبئس ما تريد سلفية اليوم ! وبئس ما تفعله باسم الدين جهادية الجاهلية الجهلاء !
أما إذا أرادت حقا هذه وتلك العمل على نصرة الإسلام والدفاع عنه، فلا يكون ذلك إلا بالنهل من منبعه الأصح في العمل بالعقل كما حث عليه القرآن، مما يقتضي حرية التفسير والتأويل وطلاقة العبادات ومحبة المسلم لأخيه المسلم وغير المسلم، مؤمنا كان أو غير مؤمن، ونصرة الأخ ظالما كان أو مظلوما؛ ويكون هذا لا بالاعتداء عليه ومكافحته بل بهدايته إلى الأصلح بالنقاش وتلاقح الآراء والأفكار وبالتزام التصرف الأمثل للوصول للصالح العام. أما أن نرفع السلاح باسم الإسلام، فذلك نسف للسلام الذي هو عماد الإسلام حتى بالأمس في زمن الجهاد الأصغر، فما بالك اليوم في زمن الجهاد الأوحد، الجهاد الأكبر الذي هو جهاد النفس ولا غير.
في ذلك فقط المصلحة للبشر الي تسهر عليها الشريعة. على أن لا تكون المصلحة العامة مستمدة من مرجعية معينة إسلامية المنطوق بالمعنى الموروث، بل نابعة بحق من واقع الشعب كما يعيشه اليوم؛ حتى وإن خالف ذلك ما تعودنا عليه من تلك المرجعية لأجل التراكمات الإرثية وثرائها مما أفرد الريادة لبعضها على البعض الآخر وإن كان أقل نفاسة وصدق تعبير عن روح الدين الحقة.
ولعل أدهى ما صدر عن السلفية أنهم، إن ضلوا عن المفهوم الصحيح للشريعة وشوهوه، أظلوا بأن كفّروا مخالفيهم؛ وذلك عين الكفر في الإسلام كما أسلفنا. أقول هذا لأن «النفس، كما كتب ابن رشد في آخر فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، مما تخلل هذه الشريعة من الأهواء الفاسدة والاعتقادات المحرفة في غاية الحزن والتألم» خاصة والإسلام «إلى طريق وسط ارتفع عن حضيض المقلدين وانحط عن تشغيب المتكلمين ونية الخواص على وجوب النظر التام في أصل الشريعة».
ولا غرو أن مفهومنا في رد الإسلام إلى لب لبابه يعود إلى مبدئي الكونية والعلمية، فهما من أشد الأقاويل الشرعية صحة ولا يوجد أتم إقناعا وتصديقا للجميع منهما لا كمثل تأويل السلفية وغيرها، فتأويلهم، بعبارة ابن رشد، «لا يقبل النصرة (بطبعها) ولا يتضمن التنبيه على (التأويل) الحق ولا هو الحق».
ولسائل أن يسأل : أيعني ذلك، وبالاعتبار بما سبق قوله، إحياء للصوفية في الإسلام؟ عندها نقول : إذا كان مفهوم الصوفية ذلك الذي تأسست عليه عند روادها اللأوئل الذين كانوا من أجل علماء الدين، أمثال من ذكرت آنفا كالجنيد و تابعيه القشيري وعبد القادر الجزائري، مناضل العصر الحديث، فالإجابة ولا شك بنعم.
أما أن نفهم من الصوفية ما آلت إليه عند العديد من المدعين عليها من شعوذة ومروق عن الدين الحق، فلا. ولعله من المفيد هنا التذكير بما كان يقوله أحد أعلام الإسلام المحافظ الذي لا يمكن الشك في سلفية مرجعيته الإسلامية، وهو في ذلك لا يتجاوز ما كان سبقه إليه الإمام أحمد بن حنبل الذي زامن وعاشر بعض أقطاب الصوفية وعرف مبلغ علمهم وحسن إسلامهم. فقد بين الشيخ ابن تيمية في مجموع الفتاوى (ج 11 ص 18) أن صوفية الحقائق هم قوم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أصحاب اليمين. وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطيء.
ولنذكر هنا أن أعلام الصوفية الذين ذكرت كانوا أئمة في مذاهب معروفة، فالجنيد بن محمد البغدادي درس الفقه على مذهب الإمام أبي ثور، وعبد القادر الجيلاني على مذهب الإمام ابن حنبل، والغزالي على مذهب الإمام الشافعي. ولا تفوتنا الإشارة أيضا إلى أن من المحدثين الأجلاء، أمثال الشيخ أبو الحسن الندوي في كتابه ربانية لا رهبانية أو الشيخ محمد الغزالي في الجانب العاطفي من الإسلام، من دعى إلى تقديم هؤلاء الصوفية كمسلمين حقيقيين لأن تصوفهم موافق للكتاب والسنة تمام الموافقة ومطبق لمبادى الإسلام حق تطبيق. فهم أولى بالإنتساب إلى الإسلام الحنيف ممن يشوهه، ولا حاجة لدعوتهم باسم غير اسم الإسلام!
الإسلام كلمة سواء :
فأي إسلام ندعو إليه في عالمنا اليوم، عالم ما بعد الحداثة؟ إن الإسلام سلام، كما أن دار الحرب تبقى دار سلام طالما لم يأذن العدو المسلمين بحرب، فتكون حرب المسلم دفاعية بعد أن انقضى عهد الفتوحات وهو زمن الجهاد الأصغر؛ إذ فتح تمام الرسالة المحمدية عهد الجهاد الأكبر، وهو مجاهدة النفس أساسا. وهذا الجهاد هو الذي يمكّن أولا وقبل كل شيء من تمالك النفس وردعها عن الانسياق إلى المحظورات حتى وإن كانت لسبب يبدو لأول وهلة مما يحلل منطقيا وشرعيا المحظورات؛ ولكن لا تحليل لها البتة في الإسلام.
ولاشك أن الجهادية من السلفية يغلطون شنيع الغلط عندما يتعللون بأن الحرب واجبة بما أن العدو آذن بحرب في العراق مثلا أو بالشام. فالحرب أولا تستوجب الإذن بها، وهذا يعني في هذا الزمن استنفاد كل الوسائل القانونية لمنع حصولها؛ وكيف لا نركن إليها بما أن الإسلام سلام؟ ثم إنه يتوجب أن يكون الإذن بالحرب على الإسلام كدين، لا على نظام سياسي قائم باسم الإسلام؛ فلا خلط في دين محمد بين الدين والنظام السياسي؛ فهذا الأخير من المعاملات تديرها أحكام بشرية، إذ البشر أدرى بما يصلح لدنياهم، أما الأول فمن الدين الذي لا يجب أن تشوب صفاءه ما يعكر طباع البشر وأخلاقهم. فلكل ميدانه ولا مجال للخلط بينهما.
والإسلام هو كلمة سواء، أي كلمة عدل وهي توحيد الله فلا يُعبد غيره، ويتبرأ المؤمن، أيا كان دينه، من كل معبود سواه، لا يشرك به شيئا، ولا يدين بعض المؤمنين لبعض بالطاعة فيعظمه بالسجود له كما يسجد لربّه.
بهذا المفهوم الحقيقي للإسلام، المفهوم الذي يفرضه العقل وتتطلبه سماحته، وهو الدين القيّم، دين الحنيفية، نرى الإسلام على حقيقته كعهد ختامي يكمل ويتمم العهد القديم والجديد، وفي هذا تكمن كونيّته؛ ونكتشفه مجددا كدين حرية وتسامح، وفي هذا تتجلى نزعته العلمية. ويكون هذا بالاعتراف بالدينين اليهودي والمسيحي كما هما اليوم عند أتباعهما، لا كما يراهما المسلم من زاويته الضيقة وإن بدت له صحيحة. فأما ما يخص التحريف، فهذا لا يعني إلا المسلم أو المؤمن الذي يود العودة إلى الحنيفية المسلمة، وهي تمام الإسلام؛ أما من كان مؤمنا ممن تعلق بدينه المسيحي أو اليهودي، فلا مجال لنفي حقه في ذلك من باب احترام حرية المعتقد، مع التذكير بأن النص القرآني يبقى من المنظور الإسلامي النص الإلاهي الصحيح لوحده، وذلك لمن أراد التبحر في علوم الدين.
فبالرجوع إلى هذين المبدأين، يكون الإسلام أزليا كدين ودنيا. أما كدين، فهو دين كل مؤمن، مسلما كان أو مسيحيا أو يهوديا، بما أنه يؤمن بالله ويوحده، أيا كانت شعائره، إذ هي لا تهم إلا التصرف الفردي للمؤمن الذي يبقى حرا، لأن المؤمن لا عبودية له إلا لخالقه ولا حساب له أو عليه إلا من الله وحده لا شريك له. وأما كدنيا، فذلك بحرية التصرف في كل ما يعدو نطاق العبادات ويخص حياة البشر وتعاملهم؛ ويكون هذا باعتماد قاعدة المصلحة التي تقرها الأغلبية المنتخبة حسب النواميس الديمقراطية تطبيقا للمبدأ الديني في العمل بالعقل وإحكامه في كل ما يخص شؤون البشر، على أن يكون بالإحترام المتبادل، إذ المسلم من سلم الناس من يده ولسانه، و بالتأسي بالقرآن و قواعده مثل الرجوع إلى المصلحة العامة والعمل بمقاصد الشريعة وحرية النقض والنسخ، بعدم العمل بالأحكام التي لا تتعلق بجوهر الدين بل بحياة البشر.
اعتمادا على ما سبق، وفي ما يخص تعاملنا مع بعض المشاكل اليومية التي أفرزتها الإرهاصات الراهنة، لنقل أن القاعدة تبقى دوما إحكام العقل في شؤون الدنيا، تماما كما يريده الله، حتى إذا بدا ذلك للبعض ممن ضاق حسهم عن بلاغة دينهم مخالفة لما جرت العادة به، إذ العقل يجبّ العادة ويعلو عليها. وبالطبع، لا يكون إحكام العقل هذا بليغا إلا في جو من حرية الرأي والتصرف في حدود الإحترام المتبادل وعدم ردع الرأي المخالف.
فمثلا، بخصوص موضوع الحجاب، بغض النظر عن شرعيته وعدم شرعيته، ولا شرعية له عندنا كما نبينه في فرصة أخرى، نقول : طالما وجدت طائفة تتعلق بمشروعيته الدينية (حتى وإن كانت مخطئة في ذلك لأنها جهلت عنصرين هامين : مقصد الشريعة والتأسي بمبدأ النسخ عملا بضرورة إحكام العقل) فيجب إحترام قناعتها، ولكن يكون ذلك في حدود القانون. إلا أن هذا القانون ليس ذلك الذي سُن اعتباطيا تقليدا لما يجري في بلاد أخر، بل هو قانون الحرية الذاتية ما دامت لا تتعارض مع مصلحة من المصالح العامة كالأمن مثلا.
لذا، كما يجب التنصيص على حرية كل من ارتأى السفور في حدود احترام الغير (لأن من السفور الحق المبدئي المشروع في العراء، مثلا، وليس من الواقعي المطالبة به اليوم، وهذا ليس فقط في مجتمع إسلامي)، يجب قبول الحرية المعاكسة وهي التحجب إلا في الحالات التي تقتضي فيها ضرورة أمنية رفع الحجاب (مثل ذلك عندما يجب التدليل على الهوية مثلما يحدث عند عبور حدود أو اجتياز امتحان)، ولكن لا يكون هذا إلا في حدود تلك الضرورة إذ بعد استيفائها يعود حق الحجاب إلى صاحبه أو صاحبته.
فليس من العدل أن نفرض باسم الحرية أن ترفع المتحجبة حجابها في قاعة درس مثلا، فأين المنطق في ذلك ولأي غاية؟ أليس من باب التعسف فرض ذلك باسم قانون داخلي لمؤسسة علمية أخطأ في فهم موضوع الحرية الشخصية بمقتصياته؟ أقول هذا دون أن يكون ذلك بالضرورة من قناعاتي، لأن موضع التحجب والسفور حساس والحرية فيه شخصية تأتي عن قناعة وعن وازع ذاتي بعد التحرر من المركبات ومن قيود العادات؛ وهذا يتطلب من الوقت الكثير، وخاصة القسط الأكبر من الوعي وصفاء الرؤيا، وهو من الثورة على النفس، وهي أقوى من الإسقاطات الإيديولوجية، بما فيها الدينية.
وسق على ذلك أيضا موضوع الصلاة بالشارع. فالمبدأ ليس الصلاة بأي مكان كان، بل الصلاة؛ لذا، فإذا انعدم المكان الكافي لذلك ينعدم السبيل لإنكار مثل هذا التصرف. أما إذا توفرت النية وتبعتها الأعمال بتوفير الأمكنة الكافية، فيمكن عندها وباسم الدين التنديد بتصرف مشين بالملة ومخل بالنظام العام. ولا غرو أن الساهر على راحة العموم، طالما أثبت أنه يسهر على المصلحة العامة وعلى توفير مزايا النظام للجميع، يحصل على تكاتف كل النزعات للحفاظ على ذلك النظام بما أنه للجميع عملا بمبدأ العمل بالمعروف والنهي عن المنكر.
عندها، نطور مفهوم مثل هذا المبدأ الأساسي في الإسلام لأننا بالتمسك به في نطاق الحرية للجميع نضمن للمعتقدات السامية الرواج بدخول الناس إليها بحرية وعن قناعة وليس بالقوة، أيا كانت هذه المعتقدات : دينية أو علمانية. ففي مثل هذا الجو من حرية الرأي والمعتقد يكتشف كل ضمير ما يعتلج بحق في ضميره ويعمل كل واحد حسب أخلاقيته لا بطريقة عشوائية كإنسان آلي أفرزه خليط من ترهات بعض المنظرين للكراهية ودعاة الفتنة؛ والكل يعرف أن الفنتة أشد من القتل. فالفتنة اليوم ليست في التفرق وتعدد الرؤى، لأن ذلك من الديمقراطية وتعدد الآراء واختلاف المشارب، إذ خلقنا أمما وقبائل لنتعاروف ونتحابب ونتعاون، ليس أكرمنا إلا أتقانا.
والتقوى ليست الخوف من الله، وكيف يكون ذلك والله حبيب المؤمن، غفور رحيم حتى بأكبر المذنبين، ما دام موحدا؟ بل ويمكن اليوم القول أن الله عفو أيضا بالعبد حتى وإن لم يكن موحدا، لأن الأمل يبقى في الإسلام أن يصبح ذلك المذنب موحدا نتيجة لنجاح المسلم في تقمص دوره الأساسي كأفضل ممثل لمكارم الأخلاق! فالتقوى هي أساسا ترك الذنوب كلها، وأي ذنب أكبر من التوسط بين الله وعبده المذنب لعقابه فنحرمه من أمل التوبة، والله يضمنه إلى آخر رمق في الحياة؟ أليس مثل هذا التصرف منا تألها نتجاوز به حق الله في الغفران، وهو من أخص ميزاته، عوض رعاية حقوق الرحمان الرحيم؟
فليتعظ سلفيو اليوم وجهاديو الجهالة العمياء وهم جاهاليو الدين بما قال بعض الصوفية من أن التقوى الحقة هي مجانبة ما يُبعد عن الله، ولتكن تقواه العمل بطاعة الله على نور الله، ونور الله هو القرآن، والقران صالح لكل زمان ومكان بالمعنى الذي أشرنا إليه آنفا، أي بأعظم خاصيتيه : الكونية والعلمية، وإلا كانت تقواه ظاهرة لا باطنة. والأدهى أنها تكون بذلك تقوى المعاصي، بل وتقوى الشرك كما بيّناه !
ولتكن تقوى السلفيين الحقيقيين، الصادقي النفس والفؤاد، الأحرار الضمير، تقوى التوسل لله بالأفعال، وخير الإيمان الحسنى في كل تصرفاتنا! عندها، يكونون بحق أتقياء، سادة الناس في الدنيا والآخرة. وعندها يكون شعار المسلم الحقيقي، مؤمنا مسلما كان أو مؤمنا يهوديا أو مسيحيا، تلك العلامة العربية المضيئة، ألا وهي الفتوة التي هي كمال الخلق أساسا وقبل كل شيء. فأصل الفتوة كما يقول القشيري أن يكون العبد دائما في أمر غيره، وتكون فتوّته في الصفح عن عثرات الإخوان بمفهوم الأخوّة الواسع، أي الأخوّة في البشرية، وعندها يكون الله في حاجة العبد ما دام العبد في حاجة أخيه.
إذا، حتى نكون من زمرة الفتوة، علينا ألا نرى لأنفسنا فضلا على غيرنا، فلا يكون لنا خصم ولا نكون خصما لأحد، بل نحرص على أن نكون خصما لربنا على أنفسنا؛ والنفس دوما أمارة بالسوء! وإنها لصنم لكل إنسان؛ ومن خالف هواه فهو فتى على الحقيقة. لقد حان الأوان، في زمن الجاهلية هذه الذي تقمصها الشرق خير تقمص أن تكسّر الأصنام، خاصة عند إخوتنا من السلفية ومن غوغاء الجهادية !
الصوفية سلفية اليوم الحقة :
إن إسلام السلفية اليوم لهو إسلام من قوارير، ذلك الزجاج الذي يتشقق ويتهشم لأدنى هزة؛ أما إسلام صوفية الحقائق فهو الإسلام النير الحق الذي لا ينقص من قوته أي شيء كما لا يحط من عليائه أي خور.
وطبعا لا مجال للخلط بين صوفية الحقائق وصوفية الشعوذة، لأن الفرق بينهما هو نفس الفرق بين سلفية ابن حنبل وسلفية العربدة، وهي سلفية اليوم، التي لا تمت له بأي صلة، خاصة حين تتسربل بقناع الجهادية التي ليست هي إلا من تلبيس إبليس.
فابن حنبل عُرف بتقديره للسلفيين الحقيقيين، ولعله اليوم يكون من هؤلاء الصوفية لأن من ينتسب إليه بمثابة المشعوذين الصوفيين الذين قاومهم أشد مقاومة لأجل إسلام حقيقي هو الإسلام السمح، أي الحنيفية المؤمنة بكونية الرسالة المحمدية كرسالة محبة وسلم وسلام لكل خلق الله بلا تفريق بين مؤمن وكافر إلا بالمثل الطيب والالتزام بالحسنى والإيمان برحمة الله اللامتناهية لكل الذنوب.
أما هذه التي تتسمى بالسلفية، كما نراها اليوم بالمغرب وغيرها من البلاد الإسلامية، وتلك التي تنعت نفسها بالجهادية وتدعي الخلافة والدولة الإسلامية، فعلاقتها بالإسلام كعلاقة الأبجد بالعلوم، فإن هي كانت منها شكلا، فهي حقا بمحتواها لا تمت لها بصلة، إذ لا تكفي معرفة الحروف الأبجدية للتبحر في العلوم؛ فما أدراك بعلوم القرآن!
إن الصوفية تاريخيا، كمنظومة موازية للسلفية في قوة البيان وحجية البراهين لتاريخيتها وتأصلها في المنبع الإسلامي الذي كون أفقها الرحب، معاكسة تماما للأفق الضيق السلفي؛ فهما مرآة واحدة لنفس الحقيقة، تنعكس من وجه السلفية مـضخّمة إلى حد المغالاة والتشويه، أما من الوجه الآخر، وجه التصوف، فتبدو على حقيقتها : إنسانية إلى حد الإفراط، متسامحة بلا قيد ولا شرط، عالمة إلى أبعد ما يقصر عنه العقل البشري، كونية بدون مركبات.
ولنأخذ مثالا على ذلك، ولا فائدة في أن يكون من الفجور الذي نراه اليوم بالشرق، ففظاعته تحكم عليه أصلا بانعدام مجرد مقومات الانسانية، فما بالك بقواعد الدين الإسلامي، وهي إنسانية بالأساس؟ ليكن مثلنا بسيطا، من الواقع اليومي المعاش الذي تغلغل في عاداتنا فلم نعد ننتبه إليه، وفي هذا الخطر، وهو يخص الآذان.
لقد تفشت عادة إقامة الصلاة باستعمال مكبرات الصوت. فالسلفي اليوم لا يرى حرجا في ذلك، بل ويقر مثل هذا الاستعمال للتقنيات الحديثة رغم ما فيها من مضرة، حيث لا يخفى أن مكبرات الصوت، خاصة عندما تكثر المساجد في مكان ما، من شأنها إزعاج راحة مريض أو صغير بحاجة للراحة في أولى ساعات الفجر مثلا أو قرب مصحة. أما السلفي الحق، أي الصوفي، فمن شأنه في مثل هذه المسألة أن يراعي روح الدين الإسلامي ومقاصده حيث احترام راحة الغير من مباديء الإسلام الأساسية، وفي نفس الوقت يحترم الأصول والسلف الصالح فيقرر إلغاء إستعمال مكبرات الصوت في الأوقات التي ثبت فيها أن ضررها أكبر من نفعها للاكتفاء بالصوت المجرد كما دأب عليه السالف الصالح.
فالعبرة في الآذان ليس النداء للصلاة، فمن يحرص عليها يبادر بنفسه إلى التوجه إلى الجامع أو إلى مصلاه قبل سماع النداء، بل هي في إقامة الفرض، والإقامة لا تحتاج إلى جلبة زائدة التي يمكن عدها من باب المراءاة. ولعلنا لا نحتاج هنا إلى التذكير أن الصلاة هي أولا وقبل كل شيء مناجاة لله، وبالتالي فهي تحتاج إلى السكينة والوقار؛ فليست الصلاة كما غدت اليوم مجرد حركات تقام في أي مكان وفي جلبة كأنها عرس أو أدهى وفي ظرف هو أقرب إلى حلبة السيرك منه إلى مصلى تحترم فيه قداسة الذات الإلاهية.
إن مثل هذه النظرة الجريئة لإقامة الصلاة اليوم، التي تترك على سبيل المثال مكبرات الصوت جانبا باسم الفهم السليم للإسلام أو تستحي من إقامة الصلاة بأي مكان حتى بالشوارع وسط المارة غير عابئة بشي مما أكد على أهميته الإسلام، لهي سلفية حقة في احترامها لسنة السلف الصالح ومصالح المؤمنين وغير المؤمنين ممن يعيش تحت ظلال الإسلام؛ وهي ممكنة تمام الإمكان إذا كنا حقا سلفيين بالمعنى الصوفي للكلمة.
إن مغربنا اليوم يؤسس لغد أفضل، والإسلام بربوعه، خاصة عند البعض _ وهم قلة لا محالة، ولكنها تفسد كثيرا في الأرض بحدة تصرفاتها _ يجب أن يرتقي بمفهومه من السلفية الجاهيلة، التي تكتسح شوارعنا، إلى السلفية التنويرية، وهي صوفية الحقائق.
فكما لا رهبانية في الإسلام، لا رهبة فيه أيضا، إذ في الرهبة إكراه، والإسلام حرية، وفي الرهبانية حرص مكين على مظاهر التعبد، بينما الإسلام روحانية قبل كل شيء. وليس في الإسلام تتبع الغير وظواهر الأشياء بالبصر، فالمسلم إن ساءته مظاهر يغض النظر عنها ويعتني بالبواطن؛ أما من رغب عن الباطن إلى ما ظهر فقد فاتته تزكية باطنه بما يفاتح به من ظاهره؛ فالخداع دوما في ما ظهر لا ما بطن، لأن السريرة الصادقة لا مراءات فيها ولا ومظاهر.
من سلفية الأكاذيب إلى صوفية الحقائق :
لا شك أنه لا بد من بعض الوقت حتى يأتي الزمن على ما أفسده التحجر العقلي وأفرزته عادات الاستبداد بالرأي والتنكيل بالخلاف في المشرب والمعتقد؛ والسلفية الجاهلية اليوم هي من إفرازات ذلك الماضي البغيض الذي لم تتخلص منه بلادنا إلا حديثا. ولعل هذا هو السبب الذي تقدمه الأحزاب الإسلامية الحاكمة في تفسير عدم تشددها مع هؤلاء الذين يفسدون علينا الإسلام ويشوهون سياستها إلى حد إفشال تجربة الإسلامي السياسي بالمغرب الأمازيغي العربي. ولا زلت أعتقد أن بإمكان هذه التجربة أن تكون حقا رائدة، وإن بدأ الشك يدب إلى هذه القناعة والظروف السانحة لها تقل فتنعدم.
أما وقد بلغ السيل الزبى، فعلى الأحزاب الإسلامية الحاكمة اليوم أن تبيّن موقفها وتحدّد خياراتها، فتعلنها بكل جرأة وصراحة وتؤكد عليها بسياسة لا لبس فيها، أن لا إسلام بمغرب الأمازيغ والعرب بدون سلام وأن الإسلام الحق هو الإسلام التنويري. إننا نقول هذا دون أن يخفى علينا ما في الساحة المغاربية من تعقيدات وحسابات يراها البعض من باب تعاطي الفطنة والحس السياسي وهي لا تعدو أن تكون من خزعبلات سياسوية أكل الدهر عليها ولا يزال يشرب، لفظها العربي وبخاصة الأمازيغي في كل ربوع مغربنا. لذا، بغض النظر عما تتميز به ساحتنا السياسية من مزالق، نقول أن عقدة ما يسمّى بالمشكل السلفي السياسي عند أهل الإسلام الحاكم اليوم بتونس والمغرب هي أولا وقبل كل شيء عقدة انعدام الأسس الواضحة والسليمة لحوار بناء هو ممكن دوما إذا انعدمت النوايا الخبيثة من كامل الأطراف المدعوّة للتحاور. وليس الحال كذلك ضرورة وللأسف.
نعم، لقد كانت نظرة الإسلام الحاكم اليوم إلى السلفي على أنه مواطن له رأي، حتى وإن لم نوافقه في ما يذهب إليه، وهذا الرأي يُحترم في دولة القانون ما دام لا يركن للعنف وإن ادعى أن هناك الأيدي الخفية والنوايا المتسترة التي تستغل تظاهراته للتشنيع عليه. وقناعة الإسلام الحاكم تبقى أن أغلبية المحسوبين على هذا التيار، عدا قلة الغلاة التي لا تخلو منها التيارات السياسية لاعتمادها المفهوم القديم للسياسة على أنها خدعة قبل كل شيء، فالأغلبية لا يراها ترفض الحوار إذا كانت قواعده مضبوطة وحسنت النيات في طلب الحل الوسط، كلمة السواء التي يدعو إليها الإسلام في كل شيء. فمن طلبات هذا التيار، في ظنه، ما هي معقولة إذا نظرنا إليها من الزاوية النظرية البحتة، فلا تبدو مستهجنة إلا لغلوّ البعض في شكل المطالبة بها سواء لفظا أو تصرّفا، وذلك من رواسب القهر الفكري الذي تعانيه بلادنا وانعدام الحس الديمقراطي.
إن هذا المنظور وإن كان من الممكن اعتباره كيّسا في بداية التجربة الإسلامية الحاكمة بتونس والمغرب، لم يعد يستقيم البتة لأن التوجه السلفي وضح اليوم؛ وإن بقي بعض الغموض فهو في مواقف الأحزاب الحاكمة؛ فهل هي متناغمة مع المفهوم المتزمت للإسلام أم يعمل على إرساء قواعد الإسلام التنويري في مغرب جديد، مغرب الأمازبع والعرب الآخذين بإسلام الأنوار لا إسلام الظلمات ؟ فاليوم، لم يعد المجال للتساؤل عن مواقف أهل السلف الأدعياء من طبيعة الإسلام بهذا المغرب، بل ما يجب العمل على توضيحه هو مدى تعلق أهل الإسلام الحاكم بالإسلام السلفي الحق، وهو الإسلام التنويري، واستعداده للعمل جادة على إقراره بمغربنا؛ ولعلهم يجدون في ذلك العون والمساندة ممن يرونهم أعداء لهم اليوم أكثر مما ينتظرونه من سلفية الجاهلية.
إن على الإسلام الحاكم أن يخط الحدود الواضحة مع هؤلاء؛ أما ما يسميه البعض منه بالخطوط الحمراء في ما يخص مسائل الدين المحرجة كالمساس بالمقدسات ومواضيع الحريات والمساواة بين الأجناس، فعليه تطوير مفهومه لها للإمتياز عن المفهوم السلفي الخاطيء، وذلك بأن لا تعدو أن تكون عنده هذه الإشارات إلا ومضات لا للمنع وإنما للتيقظ والانتباه. فلا موانع لحرية من الحريات العامة والشخصية ولا حدود، وبالخصوص تلك المتعلقة بالذات، وإنما أخلاقيات لاحترام حرية الجميع، فيكون ذلك مثلا باعتماد بعض القواعد للابتعاد عن الإثارة دون أن يمس هذا من أصل الحرية المعنية. وقس على هذا رفع كل نزعة للتكفير في ميدان حرية التعبير والتفكير ورفضها التام، ويكون ذلك قولا وفعلا، لأن إسلامنا سلامة نفس ونية سلام، والسلام والسلامة ليس فيهما عداء لأي أحد ولا اعتداء على أحد يلتزم باحترام حرية الغير مع التمسك بحرياته كاملة غير منقوصة.
ودعني أقول هنا، في غمزة لمن ادعى أن صعود الإسلام للحكم ببلاد المغرب هو من قبيل إعادة الأمور إلى نصابها، أني أرى أن الحاجة هي إلى إطلاق الأمور من نصابها المعهودة بترك العنان للحريات، لأن الإعادة إلى النصاب هي العودة إلى تلك النصب التي تفرزها عقلية التسلط والاستبداد، وقد جاء الإسلام بهدمها! فلتكن عودتنا لا إلى الوراء بل إلى ما جاء به الإسلام من تقدم قبل أوانه وهو تلك الثورة على الأنصاب، كل الأنصاب، بالتمسك بروحه السنية في علميتها وكونيتها قبل نصه، فلا نجعل من حجية النص وقدسية الوحي كما تفهمه السلفية نصبا جديدا يتوارى خلفه كل ما في الاسلام من مباديء إنسانية سامية وقيم عالمية عالية جعلت بحق من الأمة التي ظهر بها خير أمة أخرجت للناس. فإن هي تأمر بالمعروف، فهو ذلك المعروف المتمثل في الأخلاقية التي لا تنكرها أية حضارة إنسانية ذات أخلاق ومثل عالية، وإن هي تنهى عن المنكر فهو ذاك الذي ينكره كل عقل إنساني حر متعلق بحقوق الإنسان.
هذا وبما أنه لا يفوت أهل الإسلام الحاكم في تونس والمغرب العودة إلى علم الإجتماع والإشارة إلى بعض أعلامه لتبربر ضرورة الدين في المجتمع وخاصة بمجتمعاتنا، أستسمحهم الإشارة إلى أن علم الإجتماع يدعو أيضا، وذلك لا يغيب عنه بلا شك، إلى الأخذ بعين الاعتبار بما يسمى بالجزء الملعون في الإنسان Part maudite، أو المظلم Part d'''''ombre أو الشيطاني Part du diable، وهي كلها ترمز إلى ما هو غير روحاني في الإنسان الذي يجانب أعلى ما في البشر، أي روحانيته، بل هو لا يكتمل إلا بها. ولا شك أن ذلك هو الإنسان الكامل الذي كان ينشده ولا يزال الصوفي الحق.
زد على ذلك كل ما ينضاف إلى هذا مما يسمى بالنزعة الديونيسية في سوسيولوجيا المداعبة حسب ترجمة عبد الله زارو، أو علم الإجتماع المجوني، وهي ترجمتي لسيكولوجية مافيزولي. إن كل ما سبق يحتم اليوم على حزب الغنوشي بتونس وبن كيران بالمغرب، حتى يواكبا مقتضيات العصر فيدوم حكمهما، العمل بكل جرأة على القيام بثورته على النفس باستبعاد كل المتزمتين من حزبهما وتنوير عملهما بتونس وبالمغرب وهما في ثورة فكرية شعبية عارمة لن تهدأ لأنه من فورات ما بعد الحداثة الذي هو عهد الجماهير والأحاسيس والمشاعر الجياشة.
إن الرسالة المحمدية لهي الضامن لأن لا تعبد الأصنام بعدها، إلا أن عمل الشيطان لا ينقطع إلى قيام الساعة، وهو لا ينجح في إعادة عبادة الأصنام على هذه البسيطة، بل أقسى ما يصل إليه هو أن يوحي بإقامة أصنام معنوية في أذهاننا ينجح في حمل البعض من بني آدم على رفعها وذلك من قبل الخفة والعجلة التي تميزان الإنسان. فالمؤسف حقا أن تأخذ هذه الأصنام أحيانا، بل غالبا، هيئة المباديء والقيم التي هي كالسراب الخلب، تبدو كأنها من أفضل الفضائل وأوكد الحسنات وهي إلى الرذائل أقرب، بل ضررها على روح الإسلام السمحة لكبير إذ هدفها طمس نوره من طرف من يدعى السير على هديه.
ولا شك أن هذا من تبليس إبليس وخداعه لبني آدم؛ وتلك لتغدو قاصمة الظهر عندما نرى من يدعي خلافة من اجتباه الله بالورع والذكاء والعدل للذب عن دينه، وعنيت به المناضل الشيخ الجليل ابن تيمية، ينقض فعله وفكره الصرح المشيد الذي أقامه هذا المجاهد الحقيقي لأجل إسلام عادل، يتميز بعقلانية تعاليمه وكونيتها. فالسلفية اليوم كما نراها في بلاد الإسلام، ومنها بلدنا والمملكة المغربية (ولا فائدة في الحديث عما يجري في الخلافة المزعومة التي دشن الشيطان بها حكمه)، لا تمت بصلة إلى روح نضال ابن تيمية الذي تدعي الانتماء إلى مدرسته؛ بل هي تسيء إليه أشد الإساءة. فلتتعظ سلفية اليوم، سلفية الأكاذيب على الاسلام، بما جاء في تعاليم منظريهم وليعودوا إلى الجادة، فالأمر ليس بالهين إذ هم بما يعملون ولا يشعرون به لعلى قدر عظيم من الإساءة لدينهم الذي يبقى أبد الدهر ذلك المعتقد المتعالي، يعلو ولا يعلى عليه.
وحتى نبقى في ميدان علم الإجتماع وخاصة في امتداح العقل الحساس أو الحسي كما في سوسيولوجية صديقي الأستاذ ميشيل مافيزولي، لنختم بهذه المقولة لروني شار التي نعرضها للتمعن والاعتبار بحكمتها لتطابقها مع واقعنا الراهن حيث نرنو بدعوتنا إلى إسلام ما بعد حداثي إلى «ما هو دائم التجدد في قدمه وما هو دائم التقادم في تجدده» حسب عبارة مافيزولي نفسه. وهذه مقولة شار : «نحن نعيش في عالم يحتضر ويجهل أنه يحتضر، ويمعن في الكذب على نفسه لأنه يصر على تزيين غروب شمسه بألوان شروق العصر الذهبي».
رباعية الإ-سلام، إسلام ما بعد الحداثة
(4)
الفتوحات المكية المغربية
في الحراك السياسي الذي يشهده مغربنا، لاحظنا كيف أن الإسلام كان حاضرا بصفة مشهودة، وكأن الدين هو مدار التنافس على الحكم. والحقيقة هي أن الإسلام السياسي، رغم ما قيل عن فشله بعد أحداث مصر، وما هو عليه من حالة عفن بدولة الإسلام المزعومة، لهو في صميم الواقع العربي الإسلامي مما يجعله في قلب المعركة السياسية. ذلك لأن الإسلام دين ودنيا، ولا مناص من العودة إليه بالنسبة للبعض، والانطلاق منه بالنسبة للآخرين.
أما العودة إليه، فقد عشناها مع التجربة السياسية التي قادها ويقودها الإسلام الحاكم بتونس والمغرب والذي بين فشله. ولا أدل على ذلك ما نشاهده يوميا من انسلاخ أهم قادة هذا الإسلام الحاكم عن واقعنا وتقوقعهم في الماضي السحيق، فكأن الإسلام لا حاضر له، وكأن العودة إلى الأيام الأولى بمكة والمدينة هي النسق الأهم في التاريخ الإسلامي الذي يجب أن نعيش على وقعه، لا ما جاء به هذا الدين من فلسفة حياة تعطينا المفتاح الأفضل لفتوحات أكبر وأعظم مما تحقق في الماضي السحيق. وطبعا هذا لا يقلل في شيء من الأحداث الجسيمة الغابرة التي تبقى طبعا في الذاكرة؛ ولكن دون العودة إليها بالضرورة لما في ذلك من خطر الانفصام في الشخصية والانفصال عن الواقع المعاش، وهي من الأمراض، حتى في السياسة؛ عافانا الله منها !
وقد فهم الطرف المقابل الذي يُنعت باللائكي أهمية الدور السياسي للدين فنراه يخصص له الكلام الوافر في التظاهرات التي يقيمها ردا على تظاهرات الإسلامين. فإذا الإسلام والشعارات الدينية غير غائبة في المحفل، وكأنه أراد التدليل على أن اللائكية لا تعني حقيقة القطع بين الديني وغير الديني، بل هي الأخذ بما يميز غالبية الشعب. وهذا هو مفهوم العلمانية الصحيح كما سبق أن بينت ذلك(1).
نعم، إن الدين يبقى بمغربنا مدار كل شيء، لأنه في المتخيل الشعبي، ولأن لا سياسة في بلاد الإسلام بلا موقف واضح ومعتدل من المرجعية الإسلامية.
إلا أن هذه المرجعية في بلداننا التي تؤسس للديمقراطية لا يمكن لها أن تكون كمرجعية الإسلام عند الشيعة مثلا؛ ونظرتنا للدين لا يمكن أن تأتي متزمتة كذلك التزمت الذي نراه في بلدان شقيقة ما نوت يوما اتباع طريق الديمقراطية ولا قامت بثورة لأجل ذلك. وطبعا، لا يمكن البتة أن نهوي إلى تلك الحال التي عليها اليوم حالة الطاغوت المتسمي بهتانا بالخلافة الإسلامية وليست هي إلا خلافة إبليس في الأرض.
إن المرجعية التي يمكن أن تكون للإسلام في ديمقراطيتنا الناشئة هي مرجعية سلطة أخلاقية لها أن تقوم ببلداننا بدور سلطة خامسة، فيكون لها ما للسلط الأربع المعروفة من حقوق، ولكن عليها أيضا نفس الواجبات التي يفرضها انفصال السلط؛ أي هي تساند وتعاضد أحيانا تلك السلط وتناقضها وتعارضها أحيانا أخرى، إذ هي سلطة منها تكون الخامسة، إلى جانب السلطة التنفيذية والسلطة التشريعة والسلطة القضائية وسلطة الإعلام الحر.
ذلك لأن في ديننا الزاد الوافر الذي علينا اكتشافه من جديد لإثراء حياتنا السياسية بروحانية هجرت الممارسة التقليدية للديمقراطيات الغربية العريقة وقد امتلكها هاجس المادية، فإذا به يقتل فيها أحيانا البعض من محاسن الديمقراطية؛ فنرى الأخلاق تنعدم من السياسة فتصبح تصرفات الساسة مجرد سياسوية.
لذا، بإمكاننا حقا بتونس وبالمغرب تحقيق فتح جديد عظيم، ولكن لا ذلك الذي يتكلم عنه عادة الغنوشي بتوني وبنكيران بالمغرب، بل الفتح الديمقراطي الذي ينتظره الشعب، ومن شأنه أن يكون كفتوحات ابن عربي المكية.(2)
لقد سبق لي أن دعوت إلى قراءة باطنية لما جرى في مصر وقلت أن الإسلام السياسي له أن ينجح بتونس وبالمغرب ولاشك إذا اغترف حكامها من منابعه الفيحاء، لا كما يراها المتزمتون من حزب النهضة الحاكم اليوم بتونس، بل كما قرأها المتصوفة وعملوا بها.(3)
فقد ترك لنا ابن عربي في موسوعته الصوفية العظيمة ما يمكنّنا من قراءة جديدة لديننا من شأنها أن تضمن له المشاركة الفعالة على الساحة السياسية كما سبق أن بينت. إن الفتوحات المكية، وهي أعظم موسوعة في التصوف بلغة الضاد على الإطلاق، لزاخرة بالمصطلاحات الهامة كوحدة الوجود والإنسان الكامل، التي وفّق فيها صوفينا الأندلسي بين كنوز القرآن والسنة وعلم الكلام وذخائر الفلسفة الرواقية والمشائية والأفلاطونية المحدثة والغنوصية اليهودية والمسيحية؛ كل ذلك بصبغة صوفية إسلامية كانت حداثة قبل أوانها ولا تزال حداثة ما بعد الحداثة.
لقد أخذت الروحانيات في العالم أجمع بمصطلحات ابن عربي وفتوحاته الدينية ففاضت وأفاضت بمعاني الوحدة الوجودية الشمولية وبالحب الإلاهي الذي هو أساس كل شيء. فالحق هو أصل الوجود وهو الفاعل على الحقيقة لكل شيء في كل شيء؛ وعالم الممكنات يخلق خلقا جديدا في كل لحظة ويفنى في اللحظة التي تليها، كما يرى العلم ذلك اليوم.
نعم، لم يكن ابن عربي في عمق حسه الروحي وبسطة فكره وخياله ممن اتبع منهجا فلسفيا وتحليلا علميا، إذ أهمل منهج العقل إلى منهج التصوير العاطفي والرمز والإشارة؛ ولكنه كان في ذلك أيضا سبّاقا لما يسمى اليوم بالعقل الحسي أو الحساس الذي فرض نفسه في علم الإجتماع الفهيم.(4)
المهم أن ابن عربي أعطى بفتوحاته وفصوص حكمه أكبر دليل على روعة الإسلام وسماحة تعاليمه في كونيتها وانفتاحها على أفضل ما في الإنسان، أيا كان مشربه ونزعته، بما أنها تنشد الإنسان الكامل. وهي بذلك تتناغم تمام التناغم مع التعاطي الفهيم للسياسة الذي نتمناه لتونس.(5)
ولا غرو أن لا كمال للإنسان إذا لم تنتف من النفس البشرية كل ما فيها من تكبر واستعلاء وتميّز وتمييز ورفض للآخر، كل آخر. فلإن كانت أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس، فليس هذا في اعتدادها بنفسها واعتقادها أنها شعب الله المختار؛ بل ذلك في تمسكها بالعروة الوثقى التي مدارها الجهاد الأكبر المتواصل للنفس لتزكيتها وتجاوز هناتها، إذ لا مجال لأن تنتهي ما دمنا على هذه البسطية، التي هي تبقى أبدا دنيا.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو العمل المتواصل للوصول لأفضل معروف وللنهي عما يمنع ذلك فينكره باعتباره بدعة مثلا أو خروجا عن العادة؛ لأن الإسلام ثورة مستدامة، ولا مناص من أن تكون دوما مستأنفة. فلا يكون ذلك إلا بالأخد بالمعروف من قيم البشرية جمعاء في عالمنا وكما تقرّه الأنظمة المتطورة، وترك ما أصبح من المنكر حتى وإن كان معروفا سابقا، قبل أن يصبح من الهجر المهجور؛ إذ تلك سنة الحياة البشرية ونواميس المجتمعات الحية، لا تبقى على حال، فحسن اليوم هو قبح الغد أوالعكس.
إن للسياسة في حياتنا اليوم تقاليد أصبحت عريقة وعادات معروفة يختزلها النظام الديمقراطي الآخد أساسا بالمنظومة العالمية لحقوق الإنسان؛ ولا مناص للإسلام السياسي من تعاطيها كما هي وإلا تنكّر للمعروف وعمل على الأمر بالمنكر.
فالإسلام إذا كان دين عبادات ومعاملات، فجانبه الدنيوي لا يعنى بتاتا خلط الشعائر بالسياسة، بل هو بمعنى تفتح الدين لكل ما ثبتت سلامته في الساحة السياسية العالمية من تصرف حكيم عند الأمم المتقدمة علينا شوطا في هذا الميدان.
ولا شك أن الإسلام إذا أخذ بمثل هذا التوجه له أن يحقق فتوحات كبرى، مثل أن يبتكر نموذجا سياسيا جديدا ينطلق من أفضل ما أفرزه العقل السياسي البشري كما نراه حوالينا ليغذيه بروحانية ديننا وأخلاقياته، فلا ينقص منه شيئا بل يتحفه بما فيه من خير يكون تزكية لكل البشر.
تلك هي الفتوحات المكية الجديدة إن قدّر لها أن ترى النور، فهي سياسية مغربية؛ وهي مما يفتح الله به على الخاصة من عباده لأجل العامة منهم لعالمية دينه. وحتى يقدر لها أن تُتحف الوجود بكنوزها، لا بد للآخذين بزمام الأمور بأحزاب الإسلام الحاكم من الخروج من عقيدة عوام المتزمتين بينهم، المتشبثين بنظرة عقيمة للإسلام. ولا يكون ذلك فقط بالمرور إلى عقيدة الخواص منهم، بل وأيضا إلى الخلاصة أو حتى خلاصة الخاصة من حزبهم؛ وذلك لأن هذه الخاصة لها، خلافا لمتزمتي الحزب وغلاته، من العلم الحق والقول الصدق في فهم الإسلام ما ذهب عن العموم في النهضة ومن لف لفها.
فليت هؤلاء، رغم قلتهم، يعظوا عامتهم ليتّعظوا بمرارة التجربة الماضية وقساوة ما يمكن أن يأتي إذ لم يغترفوا من فلسفة صاحب الفتوحات المكية ومن البعض من فصوص حكمه؛ ومنها أن العين الوجودية واحدة فلا تختلف إلا بالأحكام، والصلة بين الحق والخلق أو الله والعالم كالصلة بين الواحد العددي وما ظهر عنه من أعداد؛ والحقيقة الوجودية وحيدة في جوهرها وذاتها متكثرة بصفاتها، لا تعدد فيها إلا بالاعتبارات والنسب والاضافات.
وكما قال ابن عربي(6) :
سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها : فما نظرت عيني إلى غير وجهه / ولا سمعت أذني خلاف كلامه. وبذلك، فحتى العلم بالسلب هو علم بالله، كما يقول شيخنا في الفتوحات أيضا.(7)
ونحن نعمم هنا مفهوم السلب عمدا، إذ الإسلام محجة الحق، والحق كالأفق لا نصله أبدا، بل نداوم المسير نحوه بعثراتنا وأخطائنا، ولكننا نبقى دائما على السبيل السوي رغم كل ذلك، فلا تكفير ولا تهجير، لأن الأفق دوما أمامنا؛ فالحق دوما نبتغي إن شاء الله وقدّر.
هذا إذا هو الإسلام السياسي الذي نريده لمغربنا، إسلام التسامح والمحبة، الإــــسلام الذي هو أمن وسلام؛ وتلك هي الفتوحات المكية الجديدة، الفتوحات السياسية المغربية !
الهوامش :
1 أنظر مثلا مقالتي بالفرنسية انطلاقا من التجربة التونسية :
2 محي الدين بن عربي : الفتوحات المكية، دار الكتب العلمية، بتحقيق أحمد شمس الدين.
4 العقل الحسي Raison sensible هو تعبير لميشيل مافيزولي Michel Maffesoli عالم الإجتماع الفرنسي ومن المنظرين الكبار لمابعد الحداثة. أنظر ترجمة كتابه إلى العربية Éloge de la raison sensible للصديق المغربي عبد الله زارو : مزايا العقل الحساس. دفاعا عن سوسيولوجيا تفاعلية، إفريقيا الشرق، المغرب.
5 في الدعوة لسياسة فهيمة، راجع مثلا مقالي بخصوص البلاد التونسية :
Pour une politique compréhensive : Réflexions sur l'imaginaire de l'actuel et du quotidien tunisiens
6 الفتوحات المكية، ج 2، ص 604.
7 الفتوحات المكية، ج 1، ص 120.