من الأمثال الشائعة المعروفة عندنا، وقد تشبعنا بالثقافة الفرنسية إلى حد عدم استغنائنا عنها مع استغنائنا عما فينا من جوهوي أساسي، المثل القائل بأنه من المتوجب عدم رمي المولود مع الماء الذي نطهّره به. ولا شك أن العديد من الأمثلة العربية تقابل هذه الحكمة الغربية، مثل المثل القائل من أكل على مائدتين اختنق أو من أكل السمين أتخم وأيضا كل إناء بالذي فيه ينضح، أو كل زائد ناقص كذلك من هانت عليه نفسه فهو على غيره أهون. كل هذه الأمثلة مما أستحضرها وغيرها تعطي ولا شك نفس المعنى أن النفيس وغير النفيس يتصاحبان كما أنه لا نفس، رغم سموها وعلوها، بدون بدن بالرغم من أن مآله الهوان.
فالحكمة لا دين لها ولا جنسية، إذ هي عاليمة، تختص بها كل الشعوب، أيا كانت درجة تقدمها. فالحضارة الحقيقة غير مادية، إتما هي عقلية ونفسية، لا تعدو أن تكون تجلياتها المادية إلا امتدادا لذلك التقدم على المستوى الشخصي وإلا كانت نقضا له.
مادية الغرب وروحانية الشرق
والحضارة الغربية قامت على تناقض جوهوي بين المادي في الإنسان وغير المادي، أي الروحي أساسا، مما جعلها اليوم في احتضار.
فجوهو الحضارة الغربية مادي، والمادة إذا طغت مآلها الزوال؛ بينما الروحي، وإن طغت عليه المادة، لا يذوب فيها، بل يبقى بعدها، لا يزول .
لقد دالت الحضارة العربية الإسلامية عندما طغى المادي على الروحاني فيها. ولا أقصد بذلك مظاهر الحياة المادية اليومية، بل آليات التفكير، بما أن الفكر الروحاني المحض، وهو ما مثّله خير تمثيل التصوف، فقد المعركة أمام الفكر السلفي الذي تميّز بتعلّقه بالرسم والمظهر. فهذا أهم ما في الفكر المادي، بل هو كل الفكر المادي، إذ المظاهر فيه كل شيء، بينما لا شيء يصح غير الباطن في الفكر الروحاني؛ فكل ما خلاه من التجليات التي لا تدوم.
وبما أن الروح لا تفنى، فهي قائمة فينا بباطننا؛ إنها هذا النور الذي يسطع داخل متخيلنا، ولا نقدر على أخراجه من قمقم المادة التي تسجنه إلا بتغليبه على نوازعنا بواسطة الجهاد الأكبر الذي حث عليه الإسلام أيما حث.
لنأخذ على ذلك المثل البسيط الذي نعاينه كل يوم وهو ما فينا من عواطف وأحاسيس جياشة، هي أصلا من الروحانيات، إلا أن المادة شانتها فأصبحت من المظاهر الخادعة. فمن الوازع الروحاني فينا هذا التماهي مع كل ما يحدث لغيرنا؛ إلا أنه مشوب بما عظم في أنفسنا من مادة، فتحول من التعاطف إلى ذاك التدخل المقيت المعروف في شؤون الغير الذي يفرض البعض به نظرته للأشياء على غيره، بينما لا احترام ومحبة لغيرنا إلا بقبوله كيفما كان، بحسناته وبما يمكن أن نعتبره فيه من سيئات. ولا أكبر من دليل على ذلك من حب الأم.
استغلال الروحانيات لمآرب مقيتة
في هذا الصدد، لنعتبر بما يلي مما نعاينه ونجربه كل يوم، أي هذه النزعة الروحانية فينا التي تجعلنا نضحي بكل شيء حتى بأعز ما فينا، ألا وهي الحياة، لأجل الغير. فمثل هذا التصرف من رابع المستحيلات في الفكر المادي إذ لا يضحي الواحد بنفسه أبدا حتى وإن تملق وخبث فحث غيره على ذلك.
فهذا ما نراه ونعيشه هذه الأيام. إنه، من ناحية، أساس التصرف االغربي الذي يحدثك ليل نهار عن المبادى وحقوق الإنسان، فإذا هو يسارع بعدم احترامها ما إن يضر التعلق بها مصالحه المادية.
ومن ناحية أخرى، نرى مثل هذا التصرف مع الإهابيين الذين يتوجب تقسيمهم إلى قسمين : قسم يتصرف حسب نزعته الروحانية، وهو متمثل في الذين يضحون بأنفسهم وقد تلاعب بعقولهم المجرمون. وهؤلاء الذين ليس فيهم ذرة من الروحانيات، بل كل ما في الأمر أنهم يستغلونها للدفع للموت بمن هي فيه لأجل مصالحهم الدنيوية المادية.
تلك هي الأزمة الحقيقية التي نعيشها اليوم، هذا الصراع الذي لا ينتهي بين الروح والمادة عندما ينعدم التوازن بينهما فتطغى المادة على الروح.
إن الإسلام في هذه المعركة الخاسرة يوظف لأجل الماديات بينما هو أساسا كتاب روحانيات؛ إذ أن من لا يعرف دينه على حقيقته ليغلب ما فيه من دنيا على الدين الذي هو أساسا التسليم بالله وحده؛ فإذا هم يقدسون لعباده، أسيادهم وطغاتهم، ولرسومهم، لا لمقاصد الشريعة وروح نصوصها.
أفق الإسلام الذي أدرنا له ظهورنا
إن مقاصد الإسلام هي في العودة إلي كل ما هو روحاني فيه - فذلك هو الأزلى في الدين - والعمل على تأويل ما فيه من مادي - أي النصوص التشريعية التي لا يمكن أن تخص ألا زمن معين - لصالح البشر، كل البشر حسب، مقتضيات العقل، لأن الإسلام هو الحنيفية المسلمة، أي الدين الصالح لكل زمان ومكان، وإلا فليس هو بخاتم الأديان.
علينا اليوم الكف عن الإساءة إلى ديننا ومواصلة جعله وراء ظهورنا، لأنه يبقى أفقنا النير. وطبعا لا يكون ذلك إلا برفع كل هذه الأصنام المادية والمعنوية التي أقمناها أمامنا فحجبت الأفق الرحب عنا، وهي كل النواميس التي أخذها المسلمون عن العادات والطقوس اليهودية والمسيحية التي تغلغلت في إسلامنا فصارت منه، وقد نبذها أهلها عندما غلبت الديمقراطية ببلادهم وحطمت سيطرة الكنيسة وسلطة الكهنة.
فما فعل الكهان والقساوسة عندها إلا أن دخلوا بلاد الإسلام فارضين سلطانهم فيه كما نرى اليوم بتشريعاتنا غير الإسلامية التي ليس فيها إلا تسلط الحكام، وهو ما يخالف الإسلام أساسا بما أن الأمر شورى في المسلمين. فمن ذلك يأتي نبذ الآخر المختلف، بينما لا فرق بين الناس في الإسلام إلا بالتقوى، والتقوى لا رقيب عليها إلا الله. ومن ذلك أيضا منع شرب الخمر، بينما لا يمنع الإسلام إلا السكر، أو فرض الصوم، الذي لا يفرضه الدين بتاتا، لأن النية الصادقة هي أساس الإيمان، وهي لا تفرض بالقوة.
إننا نعمل بتعاليم ليست من الإسلام، ولكنها عُدّت منه لأنها ترعى مصالح بعض الفقهاء التجار الذين خلقوا في الإسلام كنيسة لا مكان لها فيه، فإذا بها تفتي كما كان الكهان يفعلون رغم أن المسلم حر العقيدة والتصرف لا حساب له إلا من الله الذي يعاقب أو يعفو كما شاء، وأراد وهو العلي القدير الرحمان الرحيم.
لقد حان الوقت للعودة لديننا الصحيح أو الاعتراف بأننا نقوّض صرحه من الأساس بالعمل على ما تسرّب إليه من إسرائيليات. وها نحن نرى كيف يقتل الآخذون بها في الشرق باسم الإسلام الذي هو منها براء، بما أن قتل روح واحدة في الدين الحنيف هي قتل البشرية جمعاء! رغم هذا، كم من حاكم في بلاد الإسلام تبرأ من هذه العصبة المارقة عن الدين وندد بجرائمها؟
لنجعل الإسلام حقا أفقنا رافعين عنه كل هذا الذي شانه ويشينه حتى نخرج من الجاهلية الجديدة التي عدنا إليها فنحطم الأصنام الجديدة وقد أقمناها باسمه في أنفسنا، وهي كل هذه القوانين الجائرة غير الإسلامية ! وإلا كفانا الادعاء بالانتماء باطلا وبهتانا إلى الإسلام، فلسنا عندها منه ولا كذب !
نشر المقال على موقع أخبر.كم