في التصحيف السياسي : هل السبسي بتونس هو السيسي بمصر؟
التصحيف في اللغة العربية :
التصحيف في اللغة العربية هو نقل النقاط من حرف إلى آخر، عمدا أو سهوا، مما يؤدي إلى تغيير أو حذف أو تبديل معنى الكلمة، كأن نقرأ مثلا السيسي عوض السبسي بتثنية نقطة الباء عوض توحيدها ،
في الحرف الأول بعد الألف واللام، مما يؤدي إلى إبدالها بالياء، فيعطينا اسم الرئيس المصري.
وقد اشتهرت لغتنا بمثل هذا نظرا لأنها لن تكن تُنقط حروفها حتى بداية العهد الأموي، بل كان ما سمّاه الخليفة المؤمون بالشونيز مستهجنا، إذ يُعتبر من قلة الذوق وعدم المعرفة الدقيقة باللغة العربية وبلاغتها.
ولعل انعدام الشونيز هذا من الأسباب التي أدت إلى تعدد القراءات للقرآن الكريم، وقد سهل ذلك أ يضا نزوله على أحرف. ولا شك أن التصحيف ليس إلا هذا الجزء البسيط من قابلية العربية الفذة للتحرر التام لفهمها ومفهومها لما لها من اتساع وثراء الشيء الذي يسمح بتطويعها. ومن الأدلة على هذه السلاسة تعدد الكلمات الأضداد بها، وهو مما ينتمي أيضا لما يسمّى بها بالبديع اللغوي.
وقد سبق أن بينا هنا ما للبديع في السياسة من مجال وباع عند بعضهم، أمثال راشد الغنوشي (انظر مقالتنا : في البديع السياسي أو متخيل راشد الغنوشي). ففي نفس السياق، نعرض اليوم لموضوع التصحيف السياسي حول مسألة مدى استنساخ النموذج المصري بتونس بعد نجاح السبسي في الرئاسية.
فهل يمكن للرئيس التونسي الجديد أن يكون ببلدنا مثالا للسيسي بمصر، أي هل صحيحة دعوى عودة النظام القديم الذي أطاحت به الثورة التونسية؟
في الثوابت السياسية التونسية :
لا شك أن الإجابة لا يمكن إلا أن تكون بالنفي لعدة أسباب نعرض هنا لبعضها. أولها حجم البلاد وحجم جيشه ودوره بالبلدين. فلا شك أن الجيش التونسي، لو كانت له رغبة في الحكم، لكان له ذلك إذ أن السيناريو بداية بعد الإطاحة ببن علي كان مثمثلا في تكليف الجيش بالحكم في شخص الجنرال عمار إلى القيام بالانتخابات وتغيير القيادات السياسية بالبلاد. وهذا ما رفضه الجيش باسم حيادية المؤسسة العسكرية التي هي من أسس الجمهورية كما قامت منذ الاستقلال.
هذا أول الثوابت التونسية السياسية، الذي ليس له نظيرا ببلاد النيل. فما يميز المؤسستين بالبلدين هو أنها بمصر عنصر مركزي للنظام، بينما ليس لها بتونس أي دور سياسي، إذ هي ببلادنا على الشاكلة المعروفة في الدول الديمقراطية اليوم. ولعل هذا من أكبر دلائل تحضر البلاد التونسية، على المستوى النظري على الأقل.
من ناحية أخرى، ليس هناك أي مقارنة ممكنة بين الحجم الذاتي للبلدين أو التموضع الجغرافي الاستراتيجي. فلا شك أن صغر تونس وضآلة عدد سكانها مع اتحادهم الكبير في الجنس واللغة، وحتى في التوجه الروحاني العام، يسمح بالتعدد دون التجزء والتنوع دون التمزق.
هذا إذن من الميزات للأرض التونسية التي ساعدت سكانها على التجذر في عاداتهم دون الانقطاع عن العالم المحيط بهم في حيوية مستدامة. إنها حيوية تونسية متجذرة، وهي أيضا من الثوابت الهامة للذات التونسية في طرافتها.
ملامح من السياسة العالمية :
هذا في عجالة من زاوية الوضع العام للخاص التونسي. ولنمر إلى الزاوية السياسية التي تهم القوى العظمي والتي لا مناص من أخذها بعين الاعتبار، أيا كانت هوية هذه القوى والزمان الذي تهيمن عليه، إذ لكل زمن قواته العظمي. فمن هذا المنظار، لا شك أن لساسة مصر ضغوطات وخطوط حمراء لا يمكنهم بتاتا تجاهلها ولا تجاوزها لما لبلاد النيل من دور كبار في التوازن الدولي وميزان القوى الجهوي.
وطبعا، ليس الحال بالمماثل في تونس؛ بل بلادنا، على العكس من ذلك، هي في حالة مخاض لنظام جديد يريده لها الحليف الاستراتيجي الكبير أساسا، أي الأمريكي، والحليف الموضوعي، وهو الأوروبي. وهذا الدور المناط بعهده النخبة التونسية يتمثل في العمل على أن تكون بلادنا مخبرا لإرساء منظومة حديثة مستحدثة للحكم ببلاد العرب. والذي يميز هذه التوجه هو المحاولة في هذه التجربة لإيجاد للإسلام السياسي حظه بلعب دوره الذي يفرضه تجذره بالمجتمعات العربية حتى يتم له التطور على شاكلة الديمقراطيات المسيحية. فلا شيء يمنع ذلك خاصة وأن حزب النهضة قبل بقواعد اللعبة الأمريكية مما فتح له أبواب الحكم بالبلاد علي مصراعيها.
لهذه الأسباب، لا يمكن أن ينقلب الباجي قائد السبسي إلى نسخة تونسية من السيسي المصري، ولا أن تعود الديكتاتورية بتونس. وبعد، هذا ما أكده مثلا الزعيم الإسلامي راشد الغنوشي فأصاب؛ وكان أيضا رأي المناضل اليساري حمة الهمامي في قراءة واقعية مصيبة أيضا للوضع الراهن بالبلاد. ذلك لأن كل العملية الديمقراطية التي تمت بتونس ليست إلا جزءا من مخطط شامل بالمنطقة يقضي بتدعيم الديمقراطية بها.
في الإسلام السياسي بتونس:
إلا أنه يتوجب هنا الانتباه إلى أن هذه الديمقراطية ليست تماما على النمط الغربي في جميع مواصفاتها، أي بما فيها النزوع للعدالة الاجتماعية والأخذ بالقوانين المحترمة لحقوق الإنسان> إنها تبقى أساسا ديمقراطية مهجنة، من الدرجة الثانية، تتأقلم في نظر الغرب ومن ينتهج فكره من أبناء البلاد مع ما يُعتقد طابعا خاصا للعقلية العربية ونمطا للسيكولوجية الاسلامية.
إن الغرب ومن لف لفه فكريا يرى أن الإسلام ليست له تماما قابلية للديمقراطية على الشكل الغربي. في هذا يكمن خطأ أمريكا وأوروبا الذان همهما ليس حقيقة الديمقراطية بقدر ما هو آلياتها الشكلية لإقامة سوق جديدة للرأسمالية العالمية بالمغرب العربي ابتداء من تونس.
إن المخطط الأمريكي والغربي عامة ببلادنا - وإن كان أفضل درع لحماية تونس من المزالق التي تعرفها أقطار الربيع العربي الأخرى - لهي أبعد عما يمكن أن تكون من تطلعات الشعب التونسي وما يسمح له به نظجة السياسي ووعية الثقافي، أي ديمقراطية حقيقية بلا نقصان فيها ولا بهتان.
إلا أن هذا يقتضي من النخبة المستنيرة بتونسنا أن تعمل حقا على تطوير فهمها للديمقراطية وعدم القبول بمجرد شكلية الآليات كالانتخابات دون الغور إلى ما هو أهم، أي المرور إلى ما يمثل بيت القصيد السياسي والحضاري. من ذلك إبطال القوانين الجائرة للعهد القديم، كل القوانين بما فيها تلك التي تدّعي أصولا إسلامية ليست إلا إسلاموية، أى هي رواسب للإسرائيليات في الإسلام. فمثل هذه القوانين إن لم يقع حالا نبذها ستواصل نقض الإسلام الحقيقي من الأساس والتمهيد للإسلام الداعشي بالمغرب.
في نضج المجتمع التونسي :
هنا يكمن مربط الفرس، إذ يلتقي الإسلام السياسي التونسي والفكر الليبيرالي الغربي في الاتفاق على عدم المساس بهذه المواضيع الحساسة بدعوى احترام العادات التونسية وما يميز المجتمع حسب دعواهم الباطلة من محافظة وتقليدية؛ إذ لا محافظة وتقليدية إلا في رؤوس النخبة.
إن مثل هذه القراءة لسوسيولوجية المجتع التونسي لهي الخطأ كل الخطأ لأن التونسي في هذه الأمور وغيرها لهو أكثر تحررا وجرأة ممن بزعم قياده. ولا شك أن مثل هذه الثورية الذهنية هي التي تحمل البعض من شبابنا على نسفها على ميادين القتال باداخل والخارج لتعلقهم بحياة أفضل إلى حد التضحية بحياتهم رفضا للعيش المهين !
فنحن مثلا نسجل منذ اندلاع الثورة تنامي حالات الانتحار بين الشباب والأطفال، وهذا يؤشر عن مدى وعيهم، إذ هم لم يعودوا يقبلون حياة الهوان مخييرين عليها الانتحار. وطبيعي أن تختلف طريقة الانتحار، فتكون عند البعض الهلاك الشخصي، وعند الآخر الهلاك جماعيا.
لهذا، وبما أن الرئيس التونسي الجديد لا يمكنه أن يكون كرئيس مصر الساعي لإعادة تركيز المنظومة القديمة، عليه العمل جاهدا على نسف كل ما هو من القديم ببلادنا على جميع المستويات حتى ندعم الديمقراطية التي هي أساسا حياة جماعية آمنه، فيها للجميع كل حقوقه وحرياته، خاصة منها ما يتعلق بحقوق الإنسان في صبغتها المعروفة عالميا دون تقزيم لتعلات واهية.
هذا ما يستحقه - بل ويفرضه - وعي المجتمع التونسي ونضجه؛ وهو أيضا مما يميز السبسي التونسي عن السيسي المصري، إذ ليس بالإمكان تصحيف تونس بخصوصياتها فتكون مصرَ، إلا أن يعني ذلك مصرا، أي بلاد تونس. وليس هذا من التصحيف في البلاغة العربية التي حان لها أن تكون في السياسة مبدعة إبداع الذهنية التونسية.
نشرت على موقع أخبر.كم