ثمن المرور من التعريب إلى الفرنسية بالمغرب
تمخض أخيرا الصراع الذي احتد منذ أواخر السنة الفارطة بين رئيس الحكومة السيد بنكيران ووزير التربية القومية بلمختار بانتصار كاسح لصالح هذا الأخير أي معنى ذلك إنهاء تجربة التعريب وإعادة إعتبارها إلى الفرنسية، على الأقل كلغة لتدريس العلوم.
ولا شك أن هذه النهاية مؤقتة إذ هي مجرد معركة تتنزل في خانة الحرب القائمة منذ أمد طويل، والتي لن تنتهي هكذا، خلال عشية وضحاها، بين الأصالة والانبتات.
ذلك لأن قطب رحاها أيديولوجية ودمغجة، فليس فيها أي مجال للعلمية ولو لمثقال ذرة؛ هذا مع خطورة الأزمة التي يمر بها التعليم بالمغرب وما له من عواقب نفسية ومخاطر ووجودية على المواطن المغربي، إذ هو بذلك في مهب رياح السياسية تتلاعب به كريشة لا حول لها ولا قوة، في زمن قيل أنه زمن الجماهير المتوثبة للحراك أكثر أي وقت مضى.
حرب التعريب والفَرْنَسة :
الجميع يعلم أن التعريب بالمملكة تأصل حقيقة بها مع صعود حزب الاستقلال سدة الحكم في بداية ثمانينات القرن الماضي؛ وكان ذلك طبعا بمساندة الملك الحسن الثاني ومباركته في نطاق سياسته للتصدي لليسار بسلاح الدين.
لم يكن هذا طبعا إلا من باب المغالاة في استعمال السلاح الديني، نظرا لأن بداية التعريب حقيقة كانت مع الاستقلال، تماما كما كان الحال وبأشد ضرواة بالجزائر؛ وهذا بخلاف تونس التي رفض زعيمها الحبيب بورقيبة ذلك التمشي في نطاق سياسة متفتحة على الغرب أتت بأكلها كما نراه اليوم.
فبينما كانت تونس، في السنوات الستين من القرن الماضي، تشجع على استقدام الطلبة الفرنسيين لتعليم لغتهم للشباب التونسي عوضا عن أداء واجبهم العسكري بببلادهم، كنا نري دولة الاستقلال بالمغرب تشجع على التعريب باستقدام المدرّسين الشرقيين، من مصر وسوريا خاصة.
هكذا تم التعريب إذن كلعبة،؛ إلا أنها كانت من الخطورة بمكان، إذ رمت بشبيبة، لم يعد لها بهذه الصفة أي ركن أمين ترتكز عليه، إلى متاهات الإرهاب، كما نراه اليوم.
ولا شك أن الجمهرة من الناس تصبح عندها من الغوغاء نظرا لافتقادها لعلامات مضيئة على طريق مرورها إلى الكهولة. فللمنارات الضرووة القصوى حتى يهتدي المرء بها في فترة مراهقته فلا تصبح فورة القوة عنده مطية للعته في أفضل الحالات؛ أما في أتعسها، فهي توحش وانعدام لأبسط أمارات الإنسانية. أليس هذا ما نراه من وحوش داعش الآدمية؟
ذلك لابن آدم مدني بطبعه، مما يقتضي أن يعيش منذ نعومة أظافره على فطرته التي لا يجدها إلا في أحضان لغته الأم. على أن هذا التجذر المتحتّم لا يعني بتاتا انغلاقا على اللغات الأخرى، إذ قدرة الإنسان لفائقة في التعلم ما دام يحذق لغته الأصلية، فلا يصعب عليه عندها حفظ لغات أخرى.
مثال هذا كطفل له أم من جنسية تكلّمه بلغتها، وأب من جنسية أخرى يكلمه بلغته ويمكنه منها حالما تتركز عنده اللغة الأم، أي اللغة الغالبة في المحيط العائلي، دون الامتناع عن التحدث معه بلغته هو للإستئناس بها حتى يحذقها عند نضجه.
هذه هي السبيل القويمة حتى لا تضيع أية لغة، وهو ما يُسمّي بالتجذر الحيوي الذي فيه التفتق الصحيح للشخصية دون تهجين ولا انبتات. فهلا سعينا إليه وقد بلغ السيل الزبى في تعاطينا غير المنهجي في سياستنا التربوية، خاصة اللغوية؟
هلا أعطينا للغة الأمم ببلداننا، وهي بالمغرب ولا شك الأمازيغية، حق قدرها قبل العربية وقبل الفرنسية التي نُعلي اليوم من قدرها باسم المنهجية، وليس ذلك صحيحا حقا.
فلا منهجية بتاتا في تمشينا؛ بل ولا تداعيات فيها فائدة للناشئة المعنية الأولى بالأمر. ذلك لأن التحول للغة الفرنسية في تدريس المواد العلمية يتم، حسب التصريحات الرسمية، بدعوى أن اللغة الفرنسية هي اللغة الأفضل للأخذ بالعلوم، بينما نعلم أن اللغة الأقدر على ذلك لهي الأنجليزية. الحقيقة طبعا تكمن في مدى تغلغل اللغة الفرنسية في المغرب العربي الأمازيغي وشدة ارتباط نخبه بها.
طبعا، المصالح المتعددة تجعل أهل النفوذ لا يحيدون عن خدمة اللغة الفرنسية بما أن في ذلك مصالحهم. وليس هذا مما يخفى ولا مما يُستحى منه، إذ تلك سنة التصرف البشري.
إلا أن الأخلاق والمسؤولية تقتضيان أن يصرف أهل النفوذ ه المصلحة المرجوة أيضا لأجل الشعب، أي الطرف المعني بالعملية قبل غيره، كأن يطالبوا مثلا بلد هذه اللغة التي لها من جديد الحظوة الكبرى بالمملكة بتعويض في مستوى التضحية بالأمازيغية والعربية وأيضا بالأنجليزية، بينما هذه الأخيرة هي حقا لغة العلوم.
ثمن الفرنسة لصالح الشبيبة :
الآن وقد تم فصل القرار في المرور من مرحلة التعريب إلى التفرنيس (فرنس أي أخذ بالفرنسية)، أليس يكون من الأجدى أن تقترن مثل هذه العودة بالمطالبة من فرنسا استباط تأشيرة فركوفونية لصالح المواطنين المغاربة كثمن لهذا المرور الاستراتيجي الذي هو بمثابة الاحتلال الفكري للبلاد؟
إن المطالبة بمثل هذه التعويض من شأنه طبعا تسهيل حق الشعب في التنقل مع فرنسا وبقية البلاد الفركوفنية؛ ولكنه أيضا يشجعه على الأخذ بالفرنسية؛ وليس هو بالكثير كشكر من فرنسا للمغرب على المرتبة العليا المخصصة للغة الفرنسية، حتى قبل اللغة الأم؛ الشيء الذي لا نراه في أي بلد يحترم شعبه وحضارته.
نعم، سيقولون أن موضوع حرية التنقل لم يعد من خصوصيات فرنسا وحدها، إذ هي من تلك الأمور التي لأوروبا فيها القول الفصل؛ وهذا طبعا من الهراء، إذ نعلم أن المصلحة الوطنية تعلو دائما ولا يُعلى عليها، إلا إذا سلّمنا فيها؛ ولا يحصل ذلك في الغرب خلافا لما اعتدنا عليها في بلداننا.
هل يُسلّم إذن ساستنا بسهولة في مصلحة مواطنيهم فلا يطالبون بالمثل ممن يحبون لغته بدور اللغة الأم، فلا يكون لهذه الحظوة السنية التعويض اللائق؟
طبعا، لقائل أن يقول أن المشكلة أعوص من كل هذا، إذ هي في اقتران التعريب بالدعدشة، أي أن تعريب التعليم كان مطية لأهل التزمت للنفاذ للعقول وتعاطي الإرهاب الذهني.
هذا صحيح؛ ولكن أليس أصح منه أن الإرهاب الفكري هو أساسا في وجود الأرضية السانحة له، وهي في انعدام القدرة للشباب في الانفلات من قبضة المتزمتين بالتنقل الحر لاكتشاف العالم والبشر بمختلف عاداته، والتعرف عليه ومخالطته، وبالتالي الخلاص من فاحشة كراهة الآخر؟
أليس محبة الغير في مخالطته والقدرة على ذلك؟ ألم ينصح الفقيه الشاعر بالسفر لترويض النفس على مكارم الأخلاق؟ فكيف اليوم المجال للسفر والحدود مغلقة؟ أليس في هذا أول التشجيع على الانزلاق لمهاوي الإرهاب؟
نعم، إن اللغة مرتبطة بالفكر والعكس لأصح! فلا شك أن اللغة العربية، والحال نفسها للأمازيغية، رغم علو كعب الأولى وباع الثانية، لم تعودا في مستوى تحديات الزمن. لكن هل هذا من عيب فيهما أم هو في الآخذين بهما وبلاهة تصرفهم فيها وبها؟
هل حرصنا مثلا على تثوير العربية وتحديثها وهي ما نعلم من الاتساع والثراء؟ وهلا اعترفنا حقا بالأمازيغية وبدورها في تجذير الهوية المغربية فأعطيناها حق قدرها وزيادة نظرا لطول ظلمنا لها؟
لقد أهدر ساسة المغرب طيلة ثلاثين سنة على الأقل في المهاترات السياسية والتلاعب بمصالح شعبه، مضيّعة بمصالحه على أنصابٍ عقائدية لا تمت بصلة بحياته اليومية وما يهمه فيها. ذلك لأن دين المغاربة هو الإسلام الصوفي الذي لا علاقة له بهذا التزمت الذي لازم العربية كظلها فقتل كل تسامح وضياء فيها.
هكذا بقيت العربية محنطة والأمازيغة تحت الردم وعلت، بل وتعالت، عربية هجينة هي عربية الوهابية؛ وكل هذا كان بجهل ساسة تتساءل اليوم عن سبب اندفاع الشباب نحو الإرهاب بينما ليس هو إلا الرد المتسب من طرفه للإرهاب الفكري والعقدي الذي مُورس ضده طوال السنوات الماضية.
خلاصة القول أن القضية اليوم لا يمكن أن تنحصر في التعريب أو التفرنيس، بل هي في ثمن هذا أو ذاك. وما دمنا عرفنا ثمن العملية الخاسرة الأولى، لا بد من العمل على أن تكون العملية الثانية رابحة ومربحة للجميع.
ولا يكون ذلك إلا في معادلة فيها احترام لمصالح الطرفين، لا الساسة في المغرب، بل الشبيبة، إذ هي المعنية بالأمر أولا وآخرا. وهذا يقتضي أن تطالب الحكومة المغربية فرنسا بتعويض مناسب للمواطنين المغاربة بتسهيل تنقلهم بواسطة تأشيرة خاصة فركفونية.
فلا مناص اليوم من التأكيد على أن الإرهاب المادي هو أولا في الذهن، وهذا ينمّيه القعود عن إعمال الفكر الذي لا يتفتق إلا بالحركة إذ، كما قال الإمام الشافعي، ما في المقام لدي عقل وذي أدب من راحة إلا بالسفر والتنقل الحر.
فلننصت إليه يذكر بهذه الحكمة التليدة :
إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ |
إِنْ سَاحَ طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ
والأسدُ لولا فراقُ الأرض ما افترست |
والسَّهمُ لولا فراقُ القوسِ لم يصب
والشمس لو وقفت في الفلكِ دائمة |
ًلَمَلَّهَا النَّاسُ مِنْ عُجْمٍ وَمِنَ عَرَبِ
والتَّبْرَ كالتُّرْبَ مُلْقَى ً في أَمَاكِنِهِ |
والعودُ في أرضه نوعً من الحطب
فإن تغرَّب هذا عزَّ مطلبهُ |
وإنْ تَغَرَّبَ ذَاكَ عَزَّ كالذَّهَبِ
نشرت على موقع أخبر.كم