الملك بين الجسد والروح أو في طقوس البيعة
عند الكلام عن العادات والتقاليد المتأصلة فينا، وخاصة عن الأصالة، لعله من المفيد التذكير أننا في معظم الأحيان أمام مجرد تراكمات ليس لها من التليد إلا الخوف من فقدان هذا المورث دون الحصول على ما يعوضه. ذلك لأن القديم لا قيمة له إلا بانعدام أية قيمة للحديث؛ فالذي نعدّه أصليا أو أصيلا أي هذا التالد هو أيضا العتيق الذي لا قيمة له إذا كان عكسه، أي الطارف، طريفا والجديد الحديث قشيبا، أساسيا لا ثانويا.
الحقيقة هي أن الخوف من المجهول هو الذي يجعل من كل حديث جديد طارف ومستحدث بدعة ليس فيها أي طرافة، وإلا من باب الظرافة فقط، مما لا يفقد المعتق قيمته المعتادة.
فمعلوم أن الإنسان بطبعه يتمسك بما اعتاد عليه ويرفض الجديد ما دام لم يعتده، إذ خوفه من فقدان ما بيده لشديد، خاصة ما دام ما يأني من جديد ليس بيده أو مما ملكته يده. أما إذا كانت الحال كذلك، أي أن الجديد في ملك صاحب القديم، فنحن نلاحظ أنه سرعان ما يأخذ مكان القديم ويعوضه وينسى ما كان لا غنى له عنه.
طبعا يأتي هنا، في العلاقة البشرية، دور الكبير الذي له مسؤولية تعويد الصغير على التخلص من الخوف والقبول بما لم يعتده، حتى يصبح كهلا محنكا، له الثقة الكافية في نفسه حتي لا يخاف من شيء. وهذه أيضا مهمة المفكر إذ من واجبه تفكيك أسباب الخوف وتوفير الآليات للتخلص منها، لا محاولة شرحها وفهمها ثم دعمها للقبول بها. فهو بعمله الذي يكتفي بالتفسير لا يساعد أهل بجدته على النخلص من يعوق تقدّمهم، فيتركهم في صبيانية ذهنية مستدامة.
عندما نخلط الزيت بالماء :
هذه ملاحظات خطرت ببالي عند اطلاعي على كلام الدكتورة هند عروب وهي تفسّر، في منتدى بتزنيت،* أسباب الركوع أمام الملك، تلك العادة المقيتة بالمملكة المغربية التي كنت تعرضت إليها سابقا في رسالتين إلى جلالة الملك،** دعوته فيهما إلى التخلص من مثل هذه الطقوس البغضية التي تسيء إليه ولى هيبته فلا تخدمها بتاتا.
تقول الباحثة، وهي رئيسة لمركز هام للتفكير والدراسات، «إن الجسد الملكي في الحقل السياسي المغربي، يجب النظر إليه كمعطى أساسي لتحليل البنية التسلطية لهذا النظام، وتحديدا عبر طقس البيعة، الذي من خلاله يتم تقديم الولاء، والخضوع لهذا الجسد الملكي في بعده الرمزي والمؤسساتي».
للأسف، هذا لا معنى له إلا لمن يريد تسليط فكرة مجردة على واقع دون الأخذ بميزات هذا الواقع؛ فالأمر من الخور، إذ ذلك كمن يريد خلط الزيت بالماء. إن فكرة الجسد الملكي لا معنى لها في عاداتنا وتقاليدنا، إذ لا أهمية للجسد أمام الروح، ولا وجود لحقل سياسي بدون الحقل الشعبي الروحاني. فنحن نعلم مدى قيمة الدين في المجتمع إلى حد أن المجسد الجامع هو أساس الحياة السياسة ومركز تجليات كل ما هو مدني في المجتمع.
كما هو معلوم، ليس في الإسلام أي تجسيد ممكن للحاكم، إذ الحاكم الوحيد الزول والاخر هو أساسا الله؛ ثم حتى مع خليفته، أي الرسول، جرت العادة بالامتناع عن تجسيده، ولو أنها عادة غير صحيحة.
كيف إذن نعطي للملك جسدا وهو الحاكم بأمر الله الذي لا يتجسد إلا بالفعل ومكارم الأخلاق؟ وكيف نجعل من هذه النظرية الغربية على الإسلام المعطى الأساسي الذي تتحدث عنه الدكتورة لتحليل بنية النظام الذي هو أساسا عندنا عدم التسلط على الرقاب، بل الفناء فيها والالتحام معها كما كان يفعل مثلا الخلفية عمر؟
لا صلة لطقس البيعة بالإسلام :
إن طقس البيعة في المغرب لا يمت بأي سلطة بالإسلام، إذ هو من الطقوس التي رسبت إليه من عادات وثنية وجدت لها سبيلا إلى اليهودية، فداخلت الإسلام كما داخلته نظرية المهدي المنتظر مثلا.
طقس البيعة إذن وما فيه من ركوع وسجود للملك لا يمكن بحال أن يكون من إسلاميا، حيث لا ركوع ولا سجود إلا لله؛ فحتى خليفة الله لم يركع له المسلمون. كيف نفعله بعد هذا مع خليفة خلفائه مهما علا قدره وشرف؟
إن تقديم الولاء في الإسلام يتم بالبيعة التي لا تهتك شرف من يبايع ولا تنقص من قيمته، مهما علت قيمة المُبايَع، إذ هو يبايع من يساويه في القيمة البشرية بما أن الناس سواسية كأسنان المشط، لا يختلفون إلا في درجات التقوى التي هي في رعاية حقوق الله. فأي انتهاك لرعاية هذه الحقوق وأي نسف أعظم لحق الله في التوحيد من السجود لغيره؟ هل نجعل من الملك صنما معنويا، وإن ادعينا فعل ذلك من باب الرمز؟ أليس الرمز أعظم من الإظهار إذ فيه المراءاة، وليست هي من الإسلام؟
في معرض تذكيرها بنيّة الملك محمد الساس إلغاء طقس البيعة عند اعتلائه العرش، قالت السيدة عروب أن « الحريصين على تقاليد دار المخزن، أفهموه أهمية هذا الطقس، وأنه لا ينبغي إلغاؤه، لأنه بمثابة المشهدية الوحيدة التي يلتقي فيها الجسد الملكي مع فكرة مبايعة هذا الجسد والخضوع له ».
بلا شك، كان هذا ولا يزال من الباطل الذي نجعل منه حقا ولا حق إلا الله؛ فليس للملك أي حضور رمزي عند الشعب إذا لم يكن حضوره في أفئدتهم، لا في حركات اصطناعية تحاكي ما ليس للملك الحق فيه، أي ما يميّز الذات الإلاهية.
طقس البيعة ليس في خدمة الملك :
هذا، وكنت بينتُ في رسالتي الثانية إلى الملك، المشار إليها بالمرجع، أن السبب الدفين في اللاوعي للحفاظ على مثل هذا الطقس المخالف لروح الإسلام ونصه هو تمكين من يخضع له من الأعيان أمام الملك من فرضه على أبناء الشعب، إذ يري عندها لنفسه الحق لأخضاع الشعب له وحمله على السجود أمامه تماما كما كان شأنه مع الملك.
إلا إنه من المتأكد، في هذه الحقبة الزمنية الذي أظلتا وهي عصر الجماهير، ضرورة عدم مواصلة التلاعب بديننا، مما يقتضي تنزيه جلالة الملك عن مثل هذا الطقس الذي يبعده عن شعبه عوض تقريبه منهم. فليس فليه واقعيا إلا تمكين ولاته من تقمص شخصه في جسد معنوي يفرض نفسه على الشعب حاملا إياه على السجود المعنوي والمادي له ولمشيئته، وذلك باسم الملك وهو من هذا بريء.
إن الرهبة التي تتحدث عنها الدكتورة وهي تفصل مجريات طقس البيعة يستغلها من يشعر بها من مبايعين مصطفين أمام الملك فيعملون على أن تتسرب إلى قلوب الجماهير التي هي تحت إمرتهم فيحلو لهم عندها إذلالهم، بينما واجبهم ودورهم في المملكة خدمة الرعية لا استخدامها.
فالملك ليس فقط ظل الله في الأرض، بل هو شعلة من نوره؛ لذا، لا يمكنه إلا دخول القلوب لا ترويعها بطقوس أكل عليها الدهو وشرب لا تخدم إلا مصالح من يسعى لظلم الرعية باسم مليكه.
ولم يفت الباحثة تبيان رمزية الانحناء أمام الملك، أي ما فيه من محاكاة لعدد الصلاة المكتوبة. وليس أشنع من هذا في دين لا صلاة فيه إلا لله العلي القدير. كما تعرضت لما يمثله الصوت من دلالة على أنه ليس للمحكوم صلة مباشرة بالحاكم؛ فكيف يكون هذا والإسلام يمتاز بالعلاقة المباشرة بين الله وعبده؛ فهل يكون الملك أفضل من اللّّه؟
طبعا لا؛ وهذا ما كرسه بصفة رسمية دستور المملكة إذ هي ديمقراطية، والديمقراطية حكم الشعب. بل لنقل إنها ديملوكية، أي سلطة الشعب، نظرا لتهافت النموذج الديمقواطي كما بينا.*** لذلك، فإنه لمتأكد أكيد التحام الملك بشعبه، مما يقتضي الاستغناء عن كل ما يُبعد الواحد عن الآخر، ومنها هذه الطقوس التي لا منفعة فيها إلا لمن يستغل سلطة الملك للتسلط على رعيته.
خلاصة القول أنه من صالح المملكة استعادة حق الملك في جسده وقد أصبح، كما تقول الباحثة. «ميكانيزم للسلطة والتسلط في النسق السياسي المغربي»؛ إذ لا تسلط مع سلطة شعب يستمدها من ملك هو الأمير الإسلامي، أي الخادم لرعيته. ولا شك أن هذا يكون بنبذ كل حاجز بين الملك وشعبه، إذ هو منه وإليه، لا يفرق بينهما إلا رعاية حقوق الله التي للملك الشرف في تمثيلها، لا كجسد، بل كروح فيها كل ما تسامى في الإسلام من مكارم أخلاق ومثل عليا.
هوامش :
* راجع :
** الرسالة الأولى :
الرسالة الثانية :
***
نشرت على موقع أخبر.كم