إن زمن ما بعد الحداثة هو القطيعة مع ما عهدناه في كل الميادين، بما فيها المعارف. فزمننا الحاضر يفرض علينا الرجوع إلى بعض الحقائق التي تجاهلتها فترة الحداثة، ولكنها لم تنقرض، وهي تعود اليوم بقوة.
من ذلك مثلا ما تعودنا عليه من تسمية المغرب الكبير بالعربي، وما هو بالعربي، إنما هو المستعرب، وقبل ذلك هو الأمازيغي، بلاد الرجال الأحرار.
فنحن نعلم أن علماء الأنساب يصنفون عامة العرب إلى عرب بائدة، تلك التي انقرضت وانقطعت أخبارها قبل الإسلام، وعرب باقية، وهي تسمى أيضا بالمتعربة أو المستعربة، ويعنون بها القبائل العربية التي أخذت العربية عن العرب البائدة.
وهناك من يقسم العرب بعد البائدة إلى عرب عاربة ومستعربة، أي العرب الباقية. فالعاربة هي المنحدرة من نسل قحطان، وهي القحطانية، أي عرب الجنوب من حمير واليمن؛ وهي في هذه النظرية أول من تكلم العربية.
أما العرب المستعربة، فهم المعديون أبناء معد بن عدنان الذين قطنوا شمال الجزيرة العربية؛ هم إذا أهل الحجاز والشام. وهؤلاء من نسل إسماعيل بن إبراهيم، ولم يكونوا عربا إنما استعربوا، بما أن لغتهم كانت العبرانية والآرامية والكلدانية؛ وبعد نزولهم مكة ومصاهرتهم لليمنية اتخذوا منهم لغتهم العربية، فتعرّبوا أو استعربوا.
ومن الملاحظ أن ابن خلدون يسميهم بالعرب التابعة ويضيف إليهم صنفا آخر، هو العرب المستعجمة أي الذين دخلوا نفوذ الدولة الإسلامية.
هكذا إذا، ليس العرب، لا بالمغرب فقط بل حتى في الجزيزة العربية، إلا مستعربة أو مستعجمة. إلا أننا بالمغرب لا يمكن أن ندخل الأمازيغية في المستعجمة بما أن الرجال الأحرار حافظوا به على لغتهم الأم ولم يستعربوا تماما ولا استعجموا. ثم إن الأمازيغية سبقت العربية ببلاد المغرب، فالبربر هم السكان الأصليون، والأصل عادة يغلب الفصل حتى وإن طال الزمن على ذلك؛ فهذه حتمية من الحتميات المابعد حداثية.
لذا، إذا أراد المستعربة بالمغرب الحفاظ على العربية، وبما أن الأمازيغة لا زالت باقية، يكون ذلك بعدم مواصلة تجاهل لغة سبقتهم بالمغرب ولا زالت به حية ثرية. الأفضل هو التناغم والتواصل بين اللغتين إذ فياه الحياة للإثنين، لا التقطع والتصادم وليس فيههما إلا ما تؤول إليه كل حرب، أي هازم ومهزوم. ولقد اعترف دستور المغرب الأقصى الجديد بالأمازيغة؛ ولم يكن له إلا القيام بذلك بما أنه الواقع المعاش للقسم الأوفر المغربي.
ولنختم بالتذكير أن المؤرخين درجوا على قسمة تاريخ العرب المستعربة إلى ما قبل الإسلام، وتلك الجاهلية، وما بعد الإسلام. وبما أن العالم، كل العالم، في فترة ما بعد الحداثة، فلا شك أن ذلك يفتح من زاوية الاستعراب فترة جديدة في التاريخ الإسلامي تكون فترة إسلام ما بعد الحداثة، وهو الإسلام الذي لا يكتفي بما درب العرب عليه من التعالي على بقية مكونات الاسلام، خاصة بالمغرب المستعرب، بل يعترف أنه ضمن هذا المغرب المستعرب هناك أمازيغية لا بد من الاعتراف بها وإعطائها كل ما تستحق من قيمة، بله الحقوق والتقدير، خاصة في قراءة جديدة متجددة للإسلام حسب روح الأمازيغة التي هي أقرب إلى روح الإسلام مما عندنا اليوم في الفقه إسلامي من تحديد لثوريته.
فما يمبز الأمازيغية، تماما كالعربية، هي شدة التوق للحرية والنزعة لأن تكون حدودها أقل مل يمكن إذ الحرية هي التي تعطي للمسؤولية قيمتها وللإنسان شرفه؛ فهو حر، ثائر أو لا يكون. وهذا انعدم في فقهنا في العديد من المواضيع. وكان ذلك تحت تأثير فكر غير عربي جراء رواسب أجنبية بتأثير من المفهوم المسيحي واليهودي لبعض مسائل الدين نظرا لتفشي الإسرائيليات بالشرق؛ وليست الحال كذلك ببلاد البربر.
بذلك يحقق الإسلام التجذر الحقيقي بالمغرب المستعرب، إذ يكون عندها إسلام كل المغاربة، إسلام المستعربين والأمازيغيين؛ وهو التجذر الحيوي الذي تقتضيه ما بعد الحداثة. ولعمري تلك حتمية تفرضها أيضا نزعة الإسلام الكونية والعلمية؛ لذا، فإسلام الغد لهو الإسلام ما بعد الحداثي، إسلام الزمن الراهن.