رسالة في هذي الطقوس البغيضة، أصنامنا المعنوية، إلى جلالة ملك المغرب
جلالة الملك، أمير المؤمنين،
بما أني سمحت لنفسي مخاطبتكم برسائل ثلاثة في أمور الدين رأيت جلالتكم بصفته الدينية الوحيد أهلا للتعهد بها، فلزاما عليّ من باب الاحترام الذي أكنه لشخصكم أن أستسمحكم مرة رابعة في مخاطبتكم بخصوص أمر هام يشابه ما تراكم من إسرائيليات في ديننا فشانه، إذ هو مما لا خير فيه لبلد أحبه وأحب شعبه ولا أرتضي لهما المهانة، حيث هما اليوم مسخرة في عيون الناس خارج حدود المغرب العزيز.
السيد الخادم مابعد الحداثي
وأنا أفعل هذا بالأخص بصفتي باحث في علم الاجتماع الفهيم الذي من بين قوانينه الراسخة أن الملك الحقيقي، في أي اجتماع بشري، هو ملك خفي؛ وهو الشعب لما له اليوم، في زمنه هذا، من تأثير على طبيعة الأشياء. أما الملك الحاضر الرسمي لهذا السلطان الغائب بلا رسم فهو ذاك الإنسان الذي لا صفات له إلا التواضع. وهي تصل فيه إلى حد اتحاد الذات العلية بذات الشعب بكل ما فيها من أصالة، فتتناغم صفات صاحب النفوذ الشخصية بصفات الشعب في عموميتها، وحتى في ابتذالها، لا يفرق بينهما شيء؛ وفي ذلك قوة وديمومة العروق المتأصلة في القلوب؛ وليس أقوى من خفقان القلب الذي فيه الحب والحياة في نفس الآن.
كل هذا من زمن ما بعد الحداثة الذي أضلنا. وهو إن لم يمانع في ضرورة الأخذ بالمظاهر، وهي من الحياة، بل الحيوان ذاته عند بعضهم وفي بعض الظروف، فليس ذاك إلا للتأكيد علي حقيقتها، ألا وهي الزخرف الخادع والفراغ القيمي. ذلك لأن هذا الزمن يتميز بصفرية المعاني عند غالبية البشر، فلا قيمة لها عندهم إلا كزبد لا خير فيه. فالمظهر في زمن ما بعد الحداثة لمن ابتغى الحقيقة هو في اللامظهر، أي انعدام أي استعمال له كآلية لتقزيم الغير، والجماهير بصفة خاصة، في عهدها هذا؛ لأنه إذا كانت في ذلك فائدة، فليست هي إلا عاجلة، فيها الوبال المؤكد على الأمد الطويل.
إن أفضل كسب للسائس الكيس اليوم عند الجماهير هو قربه منها لا بعده عنها، وهذا يتمثل في حيازة فؤادها بالتناغم مع أحاسيسها ومشاعرها لا بالهيمنة على فكرها والضغط على حرية تصرفاتها، بما فيها النقد والتهكم، وحتى السخرية بما أن من أحب له الحق في أن يوجع المحبوب. هذ ما تقتضيه ثقافة المشاعر، علم القلوب، وهي في خلق اللحمة الضرورية بين الحاكم والمحكوم؛ فالأول خادم الثاني لا مخدومه. بذلك فقط هو أول قومه وسيدهم بما أن حبهم له بمكنون قلوبهم، فيها تقوم دعائم عرشه الحقيقي المستدام.
هذا، يا جلالة الملك، ما تفرضه علينا جيمعا مقتضيات زمن ما بعد الحداثة التي لا محيد عنها إذا ابتغينا ضمان السلطة؛ فهي لم تعد تستقيم على الجبروت والنقموت كما جرت عليه العادة، بل قدرها أن تكون كلها رحموت وإلا تلاشت كما تتلاشى خيوط الظلام مع تباشير الفجر. ويتجلى هذا، في حقبتنا الزمنية الحالية، كأس من دعائم نظام المحبة الذي لا يدوم غيره، فما بعد الحداثة حقبة انصهار الأحاسيس بين الحاكم والمحكوم إذ أن السلطة الحقيقية مرت بعد من النفوذ الرسمي العمودي إلى النفوذ الشعبي الأفقي.
إن سيد القوم اليوم لا يعدو أن يكون خادم أصغر صغار شعبه؛ فهو، كما الحال في الإنسان، بأصغريه : قلب شعبه المتعلق بعرشه ولسانه الطلق الطليق الذي يمجد شخصه في سناء ذاته وعلو أخلاقه، وحتى في نقده محبة لا مضرة. إنه لم يعد في بهرج الملك وزخرفه ولا في ما لا ينعدم أبدا من دائرة النفوذ والسلطان، أيا كان، أي تملق ذبان البلاطات حوله، وهو من الأشياء المتحتمة كالظلمة التي تزيد النور ضياء وتألقا.
لا ركوع في الإسلام إلا لله وحده
إننا في زمن الاجتماع الرباني فيه التعالي حقيقة بالتلازم والتماهي مع كل ما يختزل الحال اليومي والآني الشعبي. ما من سموّ إذا إلا في تجذر حيوي يتجلى بداية في متخيل لا يمكن التسامي فيه إلا إذا كان أساسه التواضع مع النبذ التام لكل مظهر من مظاهر الخنوع والخضوع مما ليس من خفقان القلب وهيمان الروح. لذا، فما درب عليه العرش بالمغرب من طقوس لم يعد يقبلها الشعب لأن الركوع والسجود، سواء في الثقافة العربية الإسلامية أو الأمازيغة، لا يصوغ صرفهما إلا لله العلي القدير.
نعم، إن ما يأتيه المسؤولون من رعيتكم سنويا من العادات التي درجت عليها المملكة المغربية؛ إلا أنتم، يا جلالة الملك، قبل صفتكم هذه لخير ممثل للدين على البسيطة بين مؤمنيه. والإسلام، أولا وقبل كل شيء، المثل الأعلى، وهو الحافظ لأنفة المؤمن وكبريائه في تسليمه للعلي الواحد المتعالي، ولا لأحدغيره. هذا هو الإسلام القيم؛ فإن لم يأت المثل من المسؤول الأول والأخير على رعاية هذا الدين الحنيف المقدس، وهو حضرتكم، ممن ننتظره في زمن كثر فيه الدجل والأدعياء الذين لا يحترمون الإسلام فيشوهون تعاليمه، كما نرى حوالينا؟
إن طريقة سلام الولاة والعمال لكم في عيد الولاء والبيعة مهينة للإسلام إذ هي تشين تعاليمه التي سوت بين المؤمنين فإذا هم كلهم كأسنان المشط. بل هي أيضا وقبل كل شيء تسيء لجلالتكم ولمملكتكم من زاوية علم الاجتماع اليوم كما اختزلتها آنفا.
جلالة الملك، أمير المؤمنين،
لا شك عندي أنكم لا توافقون على مثل هذا التصرف الجائر على الإسلام، هذا الذي فيه أيضا إهانة لسلطتكم بما أنه يصل إلى درجة السجود ما دام لا سجود إلا لله. ولا شك أن الذي لا يصدقكم النصح ممن يحيط بجلالتكم يؤكد لكم عكس ذلك، فيشير إلى ضرورة عدم التوقف عند المظاهر ولا النظر إلى قبحها وشناعتها بما فيها من اعتداء صارخ على الفطرة الإسلامية والذوق البشري السليم. إن هؤلاء يصرفون الحق إلى الباطل بدعوى النفوذ إلى كنه الأمور الباطن فيدّعون كمون مثل هذا الخزي في خصوصية المغرب الأقصى وكونه الجزء الذي لا يتجزأ من الهوية المغربية، إذ فيها التوقير والاحترام الذي درج أهل المغرب على سلوكه مع ولاة الأمر والعلماء وشيوخ الزوايا والشرفاء. فيؤكدون لكم أه هذا الانحناء ليس بالشديد، لذا فهو غير الركوع في معناه الشرعي؛ ويضيفون أنه من الطقوس المتوارثة منذ أمد بعيد أساسها الحفاظ على الهالة والمهابة للسلطان.
وهذا في سوسيولوجية اليوم بلا ميرة من السفسطة التي فيها الوبال الكبار على السلطان، إذ هي لا تخدم هيبته فلا تحط منها. مثل هؤلاء كمثل من ينافح عن خصلة المروءة في الجاهلية، وهي في حد ذاتها من الفضائل، إلا أنها لا تأتي وحدها فتشينها نعرات الجاهلية التي لا تتزكى إلا بما جاءت به تعاليم الدين الحنيف مارة بها من المهانة التي أصبحت عليها مع تغير الزمن إلى المروءة الأصلية.هذا حال هؤلاء الذين يرورن المهابة في ما ليس فيه اليوم إلا المهانة.
إن المهابة، يا جلالة الملك، ليست في مثل هذه الهالة التي ولى زمنها وانقضى، بل تسكن القلوب؛ إنها في حب الشعب لكم، ولا مجال للحب الصادق النزيه إلا بقرب السلطان من شعبه في تصرفاته وسكناته فيكون فها كأنه منه لأنه فعلا منه، بما أنه المسؤول الأول عنه وهو خادمه في ديننا وفي علمنا اليوم.
طقوس أكل عليها الدهر وشرب
لقد زرتهم أخيرا بلدي تونس وفاجأتم شعبها بالنزول إلى شوارعه وكأنكم أحد أبنائه، بلا شكليات؛ فزاد حب الشعب التونسي لهذا الملك الذي لا يستحي في التصرف كأي مواطن بسيط من الشعب. إلا أن المظاهر الخداعة سرعان ما تغلبت على مثل تصرفكم هذا الحصيف فمُنعت صوركم بالمغرب رغم أنها أعطت أفضل صورة عنكم وعن مملكتهم خارج حدودها. وها هي الصور الشنيعة تأتينا من المغرب لتنقض ما تبقّى في متخيل الشعب التونسي من إشراق ملك المغرب كابن للشعب بتواضعه، وسيده في الآن نفسه بسموّه بما أن التواضع عند الحاكم لا يحط من قدره بل يزيد في عليائه أي إعلاء.
إن التقليد السنوي عندكم في عيون من يحب بلدكم من الأجانب، يا جلالة الملك، ليسدل ستارة قاتمة محزنة على بلدكم رغم صفته الاحتفالية بولاء وبيعة هي الفرح لا الترح؛ فهو أقرب إلى تقليد جاهلي منه إلى ما يُفتخر به من هذا التليد الذي لا يد أن يبقى إذ لا تستوي إلا به كل ذاتية بشرية.
فإن نشأ لتحدي سلطات الاستعمار بتبيان تعلق الشعب بسلطانه إلى حد تأليهه، فهو يحمل معه ذكرى ذاك الماضي البغيض الذي مر وانقضى بما أن السلطان اليوم عزيز مكرّم في بلد سيادته ثابتة وعزته لا يستهان بها؛ لذا، فليس في الحفاظ على مثل هذا الماضي إلا الحط من قيمة وكرامة الإنسان المغربي وقد أعلاها دستور البلاد الجديد.
فهذا الدستور يقتضي إلغاء مثل هذه الطقوس المهينة والمراسم البائدة للاستعاضة عنها بكل ما يُعلي من كرامة الشعب ونخوته إذ في ذلك الإعزاز الأكيد لسلطانه وتأكيدا لبيعته له ورضوانه به كأفضل أبناء الشعب وسيدهم بما أنهم خادمهم.
إن حكم هذه التقاليد وقدرها المحتوم أن تندثر كما اندثرت طويلا بعد أن ظهرت مع نشأة ولاية المؤمنين في القرن الثامن الميلادي تجسيدا للبيعة من طرف رجالات المملكة وولاتها. فهي وإن عادت مع الاستعمار لتعوض الرسائل المكتوبة، فقد كان ذلك من أجل التحرر الوطني كسلاح فتاك قاوم به الشعب الملتف حول سلطانه الاستعمار. أما اليوم، فلم يعد لها أي مبرر إلا إذا كان السلطان في حرب مع شعبه، وليس الحال كذلك.
إن البيعة التي في أعناق الشعب المغربي لملكه ليست اليوم كما عهدناها سابقا من نوع مجردٍ هو العقد، وإن كان شاملا متكاملا، بما أنه هذا العقد السياسي والاجتماعي والديني. لقد ولى زمن العقد الذي هو حقيقة اليوم الميثاق، فهو ميثاق متكامل يضيف إلى ما ذكرت من الصفات الصبغة الروحية والسماوية والربانة. إنه هذاالاجتماع الرباني حول ملك هو في نفس الوقت أمير المؤمنين، خليفة الله في الأرض؛ فلا ركوع للخليفة الخليقة بما أنه لا يجوز إلا لخالقه، خالق المؤمنين.
هذه إذا رسالة رابعة ما كنت أنوي كتابتها حتى أثارني ما رأيت في مسرحية البيعة لهذت السنة من انحدار رهيب من روائع فن عرشكم إلى مستوى مسرح هزلي مبتذل. فدفعني تقديري الكبير لشخصكم الموقر وحبي لبلدكم لهذه الكلمات لعل فيها بعض الخير لشعب عزيز علي وملك أعز في زمن عزت فيه النية الصادقة وغابت كلمة الحق ولو على النفس. فإن هذه المعزة لتزداد غدا بإلغاء ما تآكل من عادات في مملكتم، هذي الطقوس البغيضة التي لا تعدو أن تكون إلا أصناما معنوية لا تشرف لا شخصكم الكريم ولا مملكتكم، إمارة المؤمنين.
ولكم النظر السديد، يا جلالة الملك، فليته يتماهى مع مقتضيات العصر، فتكونون الملك الخفي الظاهر في المملكة ما بعد الحداثية !
نشرت المقالة على موقع أخبر.كم