تحت عنوان المغربي في حاجة دائمة لِمَن يحكمه! تساءل صديقي العزيز وأستاذي الأعز عبد الله زارو هل المغاربة على هذا الحال الذي ورد على لسان اثنوغرافيين فرنسيين قبل زهاء قرن ؟ فكتب البعض مما تهيج به كل نفس مرهفة الاحساس تبتغي الخير لأبناء بجدتها في أسلوبه الرائق ونقده اللاذع الذي هو عادة في ترجماته لروائع الأدب العالمي، كالترياق لكل ما فسد في البشر هذا الزمن.
إلا أن الأخ عبد الله لم يكن هذه المرة صائبا في كلامه الأنيق، خاصة عندما يقول - معلقا على ما كتب أحدهم من أن : « نفسية المغربي جد معقدة وهذا التعقد متجذر فيها... » - أن المغربي لم يكن ديكارتيا... وأن الشخصية القاعدية للمغربي لا زالت حية ترزق»؛ فإن كانت الوصفة صحيحة، فالنتيجة خاطئة لا محالة، كما نبينه لاحقا.
ولا أوافقه أيضا عندما يجاري حكمَ آخر في أن «المغربي عاجز عن الإحساس بذاته وتحقيق استقلال لشخصيته، فهو يشعر بحاجته الدائمة إلى سيد يحمكه ويتحكم به...»، داحضا أن يكون مثل هذا الحكم مما يُدرج « في خانة النظرة العنصرية التحقيرية المشحونة بأحكام مسبقة استعمارية (إذ هي) لا زالت حية تُرزق وربما بوقاحة أكبر تبجح أعظم». هنا أيضا، إذا صح التعليق، فقداكتفى بالرسم ونسي الباطن، وفيه بلا أدنى شك كل الحقيقة، وزيادة.
نقد لاذع مطرقي :
لعل ما يترجم عن مدى ألم صديقي وهو ينتقد مجتمعه كالأب القاسي لشدة حبه لولي عهده ما جاد به من درر التهكم، خاتما بها كلامه في بعرات نفسياتنا اليوم - وأعمم هنا لأنه لا فرق في رأيي، إلا في اللمم، بين الطبيعة المغربية والتونسية أو المغاربية، إذ الصميم واحد -؛ فيختم تهكمه النهائي بقوله أنه لا يستغرب من سواد حالنا بما أننا «من جنس "الملائكة" و"خير أمة أخرجت للناس"»!
أنا أفهم جيدا وأتفهم ما يعتلج بنفس صديقي العزيز وذهنه، وقد سبق لنا أن تحدثنا في الموضوع؛ فهو يمتهن الفكر كالفيلسوف الذي يعالج المجمتع بمطرقته، لا ليهدم بل ليبني، إذ آلته ليست المدق أو المطرقة الآلية، بل هي مطرقة النطاسي الإيقاعية.
ومع فهمي التام للأسباب الوجيهة لمقالة أخي زارو، أبقى على رأيي في مخالفته في مثل هذه السويداء، مع علمي أنها من بنات الدهر الملازمة في زحام لا يخف على أهل الفكر في إبداعاتهم، لما لأصحاب الفن من شدة إرهاف حس وتسامي أخلاق يبعد عنهم كل ما تدنّي فتدانى بنفسه من القرب منهم.
العامة تقتدي بالخاصة :
ذلك لأن حالة الفنان هذه من شأنها أن تنقلب من مالنخوليا فنية إلى مالنخوليا اجتماعية ، عندما تمر من الاحساس الذاتي إلى المجموعة في حكم ليس بالخاطيء ضرورة إلا أنه في قساوة الجلمود؛ فلا تفتأ تزيد في القطيعة بين العوام ونخبها والحال أنه لا أمل في تحسين حال العامة في المجتمع إلا بتحسيس الخاصة به وإعطاء المثل لها للمنوال على شاكلته. فالشعب اليوم يقتدي بحكامه، لا العكس!
لنتساءل هل أن الأحكام التي يرتضيها زاور للمغاربة هي فيهم كلهم أم لبعضهم فقط؟ إن كانت للكل، وهذا هو قصد من استشهد بمقولتهم، فالنخبة هي الأولى المعنية بها، بما أنها من المغاربة، بل أول من يمثّلهم. وأقصد طبعا هنا أهل النفوذ والحل والعقد السياسي والاقتصادي والثقافي، كل من له تأثير وسلطة بالمملكة.
لذا، الواجب الأول في الإصلاح وتغيير مثل هذه الأحكام القاسية في حقيقتها يقتضي البدء بتغيير ذاتهم من طرف أصحاب الجاه والسلطان حتى يهتدي الغوغاء بهم. وهذا ما هذه الطائفة المحضوضة غير فاعلة؛ بل ذلك من المستحيل اليوم لما يقتضيه من تغييرات في البلاد لا يقبل بها لا أولو الأمر من المغاربة ولا من وراءهم من أصحاب المصالح في البلاد من رؤوس الأموال العالمية، نظرا لأن عالمنا في تصاغره المتزايد أصبح عمارة كوكبية.
أما إذا كان الحكم يقتصر على الغوغاء، ولا أعتقده كذلك، فعندها يتهافت، إذ يصبح طبعا غير منطقي ولا موضوعي، فلا يُعتد به بتاتا؛ ولا أرى المفكر النحرير يلتفت إليه.
العقل اليوم حسي لا ديكارتي :
من ناحية أخري، ما دامت الحال هي التي ذكرتها الأحكام التي أوردها أستاذنا زارو، فهل هي أحكام خاصة بالمغاربة فقط أم لا تعدو أن تكون من الصفات البشرية الملازمة للأوضاع الاجتماعية والسياسية لكل المجتمعات بلا استثناء؟
أفلم تكن الحال نفسها في القرون الوسطى بأوروبا بينما لم تعرفها مجتمعات عربية أو بربرية كانت متحضرة آنذاك، كما كان الأمر في الأندلس أو دمشق أو بغداد مثلا، وقد بقيت طويلا حواضرة العالم أجمع مثل باريس ولندن ونيويوك اليوم؟
إن أخي عبد الله، وهو عالم الاجتماع الفهيم، ليدرك جيدا أن الأحكام تتغير باختلاف الزمان والمكان وتتلون حسب المتخيل واللاوعي. ثم هو يعرف جيد المعرفة أن الأخلاق ليست ضرورة في منهجيتها وعقلانيتها أو ديكارتيتها، أي في كل ما ينفيه عن المغربي؛ ذلك لأن الديكارتية لم تعد اليوم الميزة الفضلى للعقلانية، كما بين ذلك في ترجمته القيمة لكتاب مافيزولي : العقل الحساس، الصادر عن دار أفريقيا الشرق المبدعة بالدار البيضاء.
رأيي صراحة أن المجتمعات المغاربية، وإخوتي المغاربة بصفة خاصة، رغم كل الهنات التي تميزهم، إذا قسناهم حسب المعايير الغربية الراهنة، لهم من القيم التليدة ما لا يُستهان به؛ إلا أنها من تلك التي لا تراها الأعين المجردة، إذ هي في الإحساس قبل كل شيء.
وهذا يقتضي من الفرد تجاوز المظاهر الخداعة والظواهر الخاطئة، كل تلك القشور التي يتسربل بها التصرف الشعبي، لا لشيء إلا لأن نسق الحياة يفرضها فرضا بسبب قوانين مجحفة وتسلط ساسة وأرباب مصالح متغطرسين. فلا مجال للحياة إلا بالتخفي؛ لذلك تكون هذه القشور الاجتماعية كما هي عند السمكة تحميها من العدوان؛ فهي الدرع الطبيعي لمغاربة الشارع، خاصة منهم الذين لا حول ولا قوة لهم إلا بمثل تلك التصرفات الرعناء إذ من شأنها أن تحميهم، بل وتجعلهم يحاكون أهل السلطان بشوكة مستعارة من البلادة وقلة الذوق والأخلاق.
التقية القيمية :
هكذا نفهم ما تزخر بهم شوارعنا وتلفظه أخلاقنا؛ فكلها تمثيلية من نوع ما برع شكسبير في وصفه بالنسبة لمجمع آخر من هذه المجتمعات المتقدمة اليوم التي تفتخر بأخلاقها وعصريتها. إنها من باب التقية، لا يجب الاعتداد بها ضرورة؛ ونحن نعلم قيمة هذا الثابت الإناسي أو الأنثروبولوجي عندنا.
ولعل أستاذي يوافقني في أن المغربي يختلف حسب موقعه، إذ تتغير حاله في العلن وفي السر، بين الأحباب ومع الغرباء. كما هي تتنوع حسب تصرف الآخر، أو بسبب ما نتوقع منه من تصرف؛ فإذا هي على شاكلة مع الغربي وعلى شاكلة أخرى مع ابن البلد الذي استدام الإقامة بالمغرب إلى حد التطبع بتصرفات أهله؛ كما هي في تمام الاختلاف مع مغاربة المعتاد، أي أهل البلد ما دام تصرف الواحد حاكى الآخر ولم يأخذ بما يتجاوز المظاهر وزخرفها أو حثالتها.
كل هذا يبيّن أن الأخلاق التي تستفزنا بالشارع هي من باب الطبيعة الثانية المركبة تركيبا في المغربي (والتونسي والجزائري، وغيرهما من العرب) جراء المنظومة القانونية المفروضة على الشعب بقهرها وظلمها، وتسلط المتسلطين من ذوي الجاه والسلطان.
ليست هي طبيعة بشرية في المغربي ولا هي صفاة أزلية، بقدر ما هي من الحيلة التي يقتضيها نمط الحياة المفروض على شعب بائس ما قبل قط بمن تسلط عليه، إنما قبل التعامل مع الظروف المفروضة عليه قهرا بلباقة وفطنة تحفط له حياته وحياة أهله ولو أدت إلى المبالغة والتهور للتأقلم مع المحيط والبقاء حيا.
ثراء المجتمع المغربي المركب :
لقد بين السوسيولوجي المغربي باسكن بصفة ذكية بارعة مثل هذه الخاصيات للنفسية الاجتماعية للمغربي بأن عبر عن مجتمعه بكونه مركبا، أي متنوعا، في تنوع اختلافاته، لا من مدينة إلى أخرى فقط، بل وأيضا من حي إلى حي وحتى من فرد إلى آخر في العائلة نفسها.
إن كل هذا لمن الثراء بمكان، إلا إذا قسناه بأخلاق مجتمعات غربية ساد النظام فيها اليوم، بينما لم تكن الحال كذلك من قبل إذ كانت أيضا تتخبط خبط عشواء زمن ظلماتها القروسطية.
لسائل أن يسأل هنا : لماذا لم تتغير الأحوال عندنا بعد الاستقلال وإلى اليوم؟ الجواب هو أن ذلك يقتضي التطور والنهج على نموذج نوعي لا مجرد شعارات جوفاء. ومعلوم أن الاستقلال بكل البلاد المغاربية أتى بفك الترابط بين الأنظمة الغربية القديمة التي كانت سائرة نحو التقدم الاقتصادي والقيمي وأنظمة حديثة لم تحافظ فقط على تأخرها الاقتصادي بل زادت تأخرا أخلاقيا لتعدد المتسلطين بها. ذلك لأنه انضاف للمحتل السابق، الذي لم يرفع يده تماما عن البلاد وخيراتها رغم خروجه منها، كل من أتى من أهل البلاد في خدمة مصالحه من الفئة القليلة المحظوظة داخل البلاد. فغدت حال الشعب أتعس مما كانت عليه أخلاقيا بما أنها تدهورت اجتماعيا وإن حصلت سياسيا على تقدم خادع احتكرته الطبقة الحاكمة.
إن التقدم الاقتصادي هو الذي يزرع أولا بذور الرقي الأخلاقي والسمو القيمي؛ وما دام هذا من العسير إيجاده ببلداننا في الوقت الراهن، لا مجال لطلب المستحيل من الشعب، لا لزمانة فيه أو عاهة في طبيعته، إنما لمجريات الأمور ومقتضيات الحياة التي تفرض ذلك؛ فالفقر يؤدي لفعل ما لا تقبل به الأخلاق.
رغم ذلك لا زلنا نجد في مجتمعاتنا المصنفة متخلفة أخلاقيا من يحبذ النار على العار. إلا أن مفهوم العار تغير ويتغير هو أيضا ككل شيء في الحياة البشرية.
دور المثقف الفهيم :
هنا يكمن دور المثقف الذي من واجبه تفهم حالة شعبه لأجل إنارته، عندما تسمح الظروف بذلك، إلى ما فيه آجلا تفتق ما بقى كامنا فيه من ثراء تحت رماد وأوساخ الدنيا. فهو الذي بإمكانه، على المدى الطويل، تغيير مفاهيمنا للأمور الأخلاقية وغيرها؛ من ذلك فهم ماهية العار وصرفها بعيدا عن المفهوم الديني المتزمت.
هذا لا يمكن القيام به إلا من طرف النخبة النيرة في كل مجتمع، إذا لم تفعل مثل المثل الفرنسي القائل بطرح ماء الغسيل مع الرضيع بعد اغتساله؛ وهو في القدرة على رؤية ذلك النور الوضاء بداخل كل أبناء مجتمعه؛ لأنه لا ينعدم في شعوبنا، وإن تعست أحوالها البائنة، جذوة خيّرة رغم صرفها للشر من طرف من لا يرى مناص من ذلك لضمات عيشه.
مع العلم أن الحال التعيسة مفروضة على شعوبنا مثنى وثلاث؛ فهي متسلطة عليها بشوكة الحاكم وقوانينيه الزجرية المجحفة؛ وهي أيضا متسلطة على البلد بالأمر المفروض عليها دوليا جراء نظام عالمي مجحف، علاوة طبعا على ما في تخلفها الاقتصادي من ظلم مستدام.
واجب النخبة اليوم التعرض لمثل هذه الشناعة التي ذكّر بها الأخ عبد الله، لا لتشنيع بها، بل للتقليل منها بالتذكير أولا بحقيقتها، فلا نجعلها حكرا على حثالة المجتمع، إذ هذه الأخيرة ليست إلا الصورة البشعة، دون غطاء ولا زيف، لما في النخب.
ذلك لأن الآخر المختلف هو أنا وأنا هو الآخر، خاصة في اختلافه؛ فهو يعكس ما لا نراه فينا، بما أننا لا نتجلى إلا في أعين غيرنا بصفة أو بأخرى، تماما أو في ردهات وبصمات من شخصنا.
إن حال المغاربة اليوم، كما أنه لم يكن كما كان بالأمس، ليس له أن يبقى هكذا سرمديا. إلا أن التغيير أصبح اليوم أصعب منه بالأمس فيكاد يستحيل في عالم سُدّت منافذه وضُربت على أيدي من يسعى فيه صلاحا؛ إذ حتى الأذهان النيرة فيه عُدت أفرغ من قلب أم موسى لقسوة دغمائية الفكر الحداثي وآلياته العلومية أو الابستمولوجية.
لا شك أن هذا هو العامل الكبار الذي يعتمد عليه الغرب اليوم، بعد انطفاء أنواره ورغم شناعة تجليات تقانته اليوم، في العمل المتهافت على المحافظة على تسلطه على العالم بادعاء دوام حداثته، رغم أنها على هيأة مومياء، حتى لا يُضطر لتغيير سياسته ونظامه العالمي. فكيف يغير من تصرفاته الهوجاء ما دام له أفضل الدعم ببلاد الجنوب، لا فقط ممن وظفهم لأغراضه من الساسة، بل وأيضا من أرباب الأقلام، وقد احتل فكرهم وذهنهم، فتغنوا بحداثته وتمسكوا بها رغم خسوف نجمها، رافضين كل ما في مجتمعاتهم، حتى ما حسن فيها وكان وضّاء وله أن يعود للإضاءة في عالمنا المظلم الظلوم.
الغائط في جورب الحرير :
مع هذه الأحوال، هل من المنطقي أن نريد من الغوغاء عدم السعي، بما لها من وسائل مما يستهجنه الفكر والذوق، في محاكاة أفعال من يُحتذى بهم من زواية نظرها في بلادها وخارجها؟
ليست شناعة الغوغاء إلا من شناعة الخاصة وخاصة الخاصة. إلا أن الأولى عارية؛ أما الثانية فهي، حسب العبارة المشهورة، الغائط في جورب الحرير. لذلك، أرى أن الأحكام المنددة بأخلاق شعوبنا لهي خلب، كالسحب الخادعة، لا تمطر حكمة إنما خداعا يزيد أفق الأفكار المسبقة اكفهرارا بما أنه لا فرق في الطباع البشرية إلا بزخرفها المتأتي من الرفاهة الاقتصادية والحريات السياسية.
أقول إذن ردا على مقولة أخي وأستاذي عبد الله زراو، مهيبا به الأخذ بعين الاعتبار بكل ما تزخر به نفسية مواطنيه من حكمة شعبية وروحانيات: لا، ليس المغربي في حاجة لمن يحكمه، بل فقط لمن يفهم معاناته ويقدّر ذكاءه حق قدره!
فلانعدام وبانعدام مثل هذا التفهم تكثر الأخطاء من النوايا الحسنة والمغالطات من النوايا السيئة. وليس المهم معرفة من هم هؤلا وأولئك، فالأهم يبقى التفطن لما نبّه إليه منذ مدة جاك بارك، وهو العارف ببلاد المغرب خير معرفة، أنه لا وجود لبلاد متخلفة، بل هي تلك البلاد غير المدروسة بالشكل الكافي.
هنا يأتي دور المثقف لا محالة، فإفادته ليست في الأحكام، إنما هي في نسف الأحكام، خاصة منها تلك التي لا تأخذ بالواقع المحسوس وكل ما فيه من ثراء ليس ضرورة بالظاهر للعيان، فتأتينا حريرية ناعمة ولا نعلم ما بداخلها من براز، لعله يفيد الأرض، لكن لا مصلحة فيه لتنمية الأحاسيس الإنسانية.
ختاما، تبقى قناعتي، لمعرفتي الجيدة بالأخ عبد الله زارو، أن مقالته لا تتنزل بحال في خانة الانتقاد والوصف السلبي، بل هي من هذا النقد الهادف الذي يسعى، باستعمال أسباب الإثارة، إلى الدفع إلى يقظة الضمير وقد حان وقتها في زمن الجماهير هذا، لأن الضمير، ما دام حيا، لا ينام طويلا، بل له صحوة بعد غفوة. ودمت، أخي عبد الله، مبدعا وفكرك للوسنان موقظا!
نشرت على موقع أخبر.كم تحت عنوان :
تعقيب على مقال : كلا، المغربي ليس في حاجة لمن يحكمه، والعِلة في أصحاب الجاه والسلطة!