عندما تُنتهك حرمة الحياة الخصوصية، التتبعات العدلية في الإسلام لا تطال إلا من ينتهك هذه الحرمة
إن
احترام الحياة الشخصية من المباديء
الأساسية في الإسلام، ولا استثناء فيها،
خاصة باسم الأخلاق الحميدة، لأن أساس
الأخلاق الحميدة هي عدم هتك الستر على
الغير واحترام خلوته أيا كان فعله فيها،
لأن رقيبه عندها هو ضميره وسلطانه هو الله
لا غير.
وقد
فهم السلف الصالح ذلك فأكد على ضرورة
احترام الحياة الخصوصية للناس حتى وإن
كان في ذلك إطلاق الحرية للعصيان.
فلا
عصيان مع الاستتار، بل يكون ذلك بداية
عمل الضمير ووخزه إذا ما كانت المجاهدة
للنفس، وهو الجهاد الأكير، قد بلغت الحد
الكافي لتفعيل عملها في تزكية الأخلاق
البشرية.
وفي
هذه الصدد، تروي كتب التاريخ العديد من
الحكايات عن الخليفة العباسي الثاني.
ويعد
الخليفة المنصور المؤسس الحقيقي
للإمبراطورية العباسية؛ وهو، بالإضافة
لباعه في السياسة، من الفقهاء المسلمين
الذين كان الدين يعتد بهم في ذلك الحين.
والمعلوم
أنه عاصر الإمامين مالك وأبا حنيفة، فطلب
من الأول توطئة أهم معالم للدين لشعبه
فكان الموطأ الذي نعمل به إلى يوم الدين
هذا؛ كما حاول جاهدا استعمال أبا حنيفة
على القضاء فما أفلح لشدة كره الفقهاء في
ذلك الوقت للسياسة، إذ هي عندهم شر المفاسد،
حتى أن فقيهنا الجليل رضي بالعمل في حضيرة
بناء لمشروع خليفي تعويضا عن رفضه خدمته
سياسيا.
ذكرت
هذا كفاتحة لما سيأتي وهو من أطرف وأذكى
ما رُوي عن قدرة هذا الفقيه السياسي المحنك
على استنباط الأحكام مع التقيد ظاهريا
بالنصوص وباطنيا بروحها؛ وتلك حقيقة
الفقه في الإسلام حيث يتعين الإجتهاد
دوما ليبقى الدين القيم دوما قيما على
شؤون الناس يرعاها خير رعاية فلا تتحجر
تعاليمه بدعوى التمسك باجتهاد صلح زمنا
ثم انتفت فائدته لتغير الأحوال والظروف.
يُروى
عن الخليفة المنصور أن أحدهم، ممن عُرف
عنده بالوجاهة وعظم القدر ولكن أيضا ممن
كان أسير آفة السكر، اشتكاه من العنت الذي
يتعرض له من طرف شرط الخليفة التي أصبحت
تتعسس على حركاته وتتصيد زلاته.
فما
كان من الخليفة المنصور إلا أن أصدر قرارا
لشرطه هو من الطرافة بمكان لاحترامه التام
للدين في سماحته.
فبماذا
أمر الخليفة شرطه؟ لفد أمرهم طبعا بأن
يطبقوا الحد المقرر من الشارع في الجلد
لشارب الخمر، هذا أولا؛ ثم أمرهم كتتمة
للحد الأول، أن يقيموا الحد مثنى على كل
من يأتيهم بمعاقر الخمرة، وذلك لتعديهم
على حريته الشخصية وتطلعهم على حياته
الخاصة.
وطبعا
يروي المؤرخون أن لا أحدا تجرأ منذ ذلك
اليوم انتهاك حرمة صاحبنا السكير في
تصرفاته الشخصية لهذا الاستنباط الحكيم
للخليفة الفقيه.
سقت
هذه الحادثة وذكّرت بأطوارها على إثر ما
ترامت به إلينا الأخبار من تتبعات لأجل
اللواط ضد بعضهم بعد أن تسرق على حياتهم
الخاصة البعض ممن يدّعي الإسلام وهو يدوسه
بقدميه ولا يحترم لا نصه ولا روحه.
فأولا،
وكما بينته في مقال مطول بالأدلة الكافية
والبراهين الشافيه هنا (انظر
مقالي في تجديد العروة الوثقي 2
: لا تحريم للواط في الإسلام)
ليس
هناك من المنظور الإسلامي الصحيح ما يمكن
اعتماده لتحريم ما يسمي باللواط؛ فالعلاقة
الجنسية ما دامت في إطار الحياة الشخصية
لا تهم إلا من يقوم بها سواء كان الطرفان
مختلفي الجنس أو من جنس واحد، لأن الدين
لا يسمح للمسلمين بهتك ستر المؤمنين
والتطلع على حياتهم الخاصة، حتى وإن كانت
أفعالم تحت الستر من العيوب.
وقد
نصح سيد الآنام بالتستر عند العصيان لعلمه
بما في الطبيعة البشرية من نزعة للخطأ.
وثانيا،
أيا كانت نوعية هذا الخطأ، فمادام يتم
داخل حدود الحياة الشخصية التي لها حرمتها
في ديننا، فلا خطأ إلا أن يقوم صاحب الخطأ
بالشهادة على رؤوس الملا بما فعل طالبا
القصاص، وإلا فلا مجال للتطلع على حياته
الشخصية ووهتك سترها للتدليل على عصيانه.
هذا
ما لم يفهمه رجال ديننا اليوم الذين يضيفون
إلى عدم تفطنهم إلى حكمة دينهم تصرفهم في
تعاليمه لأجل تصفية حسابات شخصية وأغراض
سياسية غير مشرفة.
فالحال
التي حملتني على كتابة هذا المقال تبين
تماما ذلك إذ أن الأخبار تقول بوجود تتبع
لرجلين بدعوى اللواط، وما ذلك إلا مجرد
تغطية للسبب الرئيسي الذي هو عرقلة النضال
السياسي لأحدهما لصفته كقيادي في حزب من
الأحزاب بهذه البلاد.
وسواء
صحت هذه الأخبار أو لم تصح، إذ كثرت
الإشاعات في هذه البلاد من باب التخويف
والتهويل، فالمهم أن مجرد إثارة مثل هذه
الإمكانية بتونس الثورة لهو وصمة عار في
جبين كل سياسي هذا البلاد ممن يدعي الثورية
وممن يسمح أيضا لنفسه الكلام باسم الدين
وهو منهم براء لما يلحقونه من أذى في تشويه
سماحته وتحديد الحريات فيه بقراءة مغلوطة
لتعاليمه.
فلا
تتبعات في الإسلام الحقيقي لكل تصرف يتم
داخل نطاق حرمة الحياة الشخصية حتى وإن
كان من باب الغلط، لأن ذلك لا رقيب عليه
إلا ضمير المؤمن ولا راعي له إلا الله في
ما يميز علاقته بعبده من مباشرة.
أما
بخصوص ما يسمي خطأ باللواط، فقد بينا أن
لا تحريم له في الإسلام في نطاق ممارسة
المسلم للجنس في حياته الخصوصية.
وكل
من يتجرأ للتشهير بذلك أو التنديد به فهو
المذنب الحقيقي في ديننا لتطلعه على حياة
الغير وللهمز واللمز، وكل ذلك، خلافا
للواط، مما حُرّم تحريما صريحا.
لذا
أقول، إذا ثبت ما تواردت به الأنباء، أن
الواجب علي حكامنا اليوم هو عدم تتبع
المشتبه بهما، بل محاسبة كل من شكا بهما
لهتكه لحريتهما الشخصية ولتطلعه على
تصرفات هي خصوصية ومحمية داخل حرمة الحياة
الخاصة.
بذلك،
وكما فعل الخليفة المنصور، نساهم في عدم
تشجيع مثل هذه الأفعال المشينة، التي هي
حقا ممنوعة إسلاميا، كل من راودته نفسه
لاستغلال الدين للتشفي من الناس بالتكشف
على عوراتهم والتشفي من عيوبهم سواء صحت
أو كانت مزعومة.
فليعلم
إذن من جهل دينه أنه عندما تُنتهك حرمة
الحياة الخصوصية، فالتتبعات العدلية في
الإسلام لا تطال إلا من ينتهك هذه الحرمة،
ولا مجال لتتبع من تصرف متسترا لأنه، حتى
وإن عصى ربه -
إن
عصاه حقا -،
فقد تستر ولا حرج عليه في ذلك، إذ لا لغير
الله محاسبته.
وإن
هذه لفرصة لإيقاف العمل بكل الجرائم
والجنح والمخالفات التي لا أساس لها في
ديننا الأصيل ولم يعد لها مكانا في
ديمقراطيتنا الجديدة رغم أننا مازلنا
نعمل بها مع تبجحنا بكوننا حكومة ثورية.
فلنكن
بحق في مستوى ثورتنا الغراء ولنعمل
للمستقبل بخطى ثابتة وعلى قاعدة صحيحة،
وذلك ولا شك يقتضي منا عدم الإلتزام بتراث
ثري أفادنا في السابق ولكنه لم يعد يفي
بالحاجة اليوم إذ يتطلب التجديد والتجدد
للاستجابة لتحديات العصر ولمقتضيات ديننا
الذي هو يطبعه أزلي التعاليم عالميها
وعلميها.
نشر المقال على موقع نواة