التأثير
الخارجي على القرار التونسي والتأثير
المعاكس
ليس
بإمكان أحد التشكيك في حقيقة وقيمة التأثير
الخارجي على القرار السياسي في بلدنا،
إلا من تعاطى اللغة الكاذبة من باب الخدعة
السياسية والمناورة المعهودة في المفهوم
السياسي القديم رغم أن الدهر أكل عليه
وشرب.
إن
حقيقة التأثير الخارجي على القرار التونسي
كعين الشمس، لا مجال لإخفائها بالغربال،
كما يقول المثل الشعبي.
إنما ما فيه
اختلاف وما هو حري للأخذ به على السياسي
الحقيقي اليوم، وهو السياسي الفهيم الذي
يتعاطى شغله بصدق نية ونقاء سريرة، فهو
الإجابة على السؤال الآتي :
هل هذا التأثير
لا محيد عنه وهل هناك إمكانية الحد منه
أو الاستفادة منه بتوجيهه نحو مصالحنا
في نفس الوقت؟ ولعمري، هذا من عين الحكمة!
حتمية
التأثير الخارجي :
دعنا
نذكر أولا بأننا اليوم أكثر من أي وقت مضى
في عصر تلاحم المصير وتلاقح الأفكار
والمصالح.
وليس ما نراه
من اختلاف وتضاد، يذهب إلى حد الحروب،
إلا من باب رفض مثل هذا الترابط بين الدول
والشعوب.
فمصيرنا
مشترك أيا كان اختلافنا، بما أننا نعيش
على بسيطة مستقبلها يهم كل واحد من خلقها،
لأنها غدت كالعمارة الواحدة.
فهل بإمكان
المتساكنين تجاهل ما يحدث في دهليز البناية
أو في سقيفتها أو عليتها، خاصة عندما يحدث
ما يهدد أمن العمارة كحريق أو فيضان مائي؟
ولا
غرو أيضا أن مصير الجماعة دوما بيد كبرائها،
تماما كما هو الحال داخل العائلة؛ إذ لا
مجال لترك الصغير يقرر مصير العائلة، بله
الإضرار بها.
فالحال كذلك،
أحببنا أم كرهنا، في المجتمع العالمي،
حيث لا مجال لتجاهل مصالح دولها العظمي.
وبلدنا
ليس اليوم من هذه الدول، وقد كان الحال
بالأمس عكس ذلك، إذ كنا جزءا لا يتجزأ من
إمبراطوية إسلامية عظمى فرضت مصالحها
على العالم، تماما كما تفعل الدول الكبرى
اليوم . بل
لنقل كما تحاول هذه الدول فعله اليوم،
لأن الظروف تغيرت فأصيح الأمر أكثر صعوبة
وتعقيدا. إلا
أن المبدأ يبقى نفسه، أي حتمية القرار
للأعظم، حتى وإن لم يكن على حق، إذ الحق
رهينة العقيدة لا القوة.
وطبعا،
للحق أن يصبح قوة عندما يمتاز بالحكمة.
ولهذا أن
يحدث أولا بتزامن القوة والحكمة، وكان
لنا ذلك في فترة ولت وانقضت داخل الحضارة
الإسلامية في أوجها.
ويكون ذلك
ثانيا، وهو ما أدعو إليه، بالحكمة في
استغلال منطق القوي للتأثير المعاكس
عليه.
ضرورة
التأثير المعاكس :
كيف
يكون ذلك وميزان القوى عير متعادل؟ لنأخذ
مثلا يسهل به فهم الموضوع.
إن الإنسان
المجرّب، ممن يستخدم عقله، عندما يقبض
ٍقط على يده بمخالبه أو ينشب كلب أنيابه
فيها، لا يسارع بإخارجها، فذلك مما يضره
ولا فائدة ترجى منه؛ إنما الحكمة هي في
العكس تماما، أي إرخاء البد وتركها بين
أنياب أو مخالب الحيوان؛ فتلك هي الحيلة
الفضلى التي تسمح له بالحفاظ على يده بأخف
الأضرار.لأن
الحيوان عندما يجد تجابهه شدة يتشدد،
بينما عند التراخي يرتخي.
ومثل
هذا التصرف الحكيم مما نتعلمه في تجليات
الحياة حولنا، وهي من حكمة الله في خلقه،
إذ نرى النملة و الصرصور يقفان ولا
يتحركان، خلافا لما يفعله الإنسان في نفس
الحالة، عندما يجدان أنفسهما في خطر داهم.
ذلك لأن نظر
الحيوان بصفة عامة لا يميز الألوان؛ لذا،
عندما يلتزم الآخر بالسكون، يختفي عن
الأنظار؛ فالحركة هي التي تظهره لعدوه
وتجعله مرمى سهامه.
إن
الأمر نفسه في السياسة، إذ الحركة فيها
كل شيء؛ إلا أن هناك حركة صائبة وحركة
خائبة. فإن
كانت الأولى من الدهاء السياسي وفيها كل
مصلحة عندما يكون هذا الدهاء للصالح العام
لا لأغراض دنيئة، فالثانية من التهور
وابتغاء الباطل بدعوى الحق.
بل هي مما
يفقدنا حقنا لا محالة؛ ذلك لأن الحصول
على الحق اليوم يقتضي احترام بعض القواعد
الشكلية وإلا سقط، كالقيام مثلا بالدعوى
أمام المحكمة في الآجال، أو عدم اللجوء
إلى التصرفات الهوجاء، وإن كانت مفهومة
ومشروعة من الزاوية العاطفية.
ولنا في القضية
الفلسطينة أكير وأعظم شاهد على صدق ما
أقول.
فكيف
نجابه اليوم التأثير الخارجي على القرار
السياسي في تونس ونستفيد منه؟
بادى
ذي بدء، بالتعرف والقبول بأنه لا فائدة
في نكرانه أو التنديد به، كما يفعل بعض
ممن يدعي تعاطي السياسة وليس له منها
شيئا، بما أن السياسة كياسة أو لا تكون.
ولكنها، في
نفس الوقت، ليست القبول بالأمر الاقع
ورفض الحلول المنطقية بدعوى أنها خيالية،
كما يفعل البعض ممن ينبطح أمام القوي -
وينسى أن
القوة الحقيقة ليست مادية بل روحية وخلقية
- فيقبل
الأمر الواقع بهناته لحاجة في نفس يعقوب.
ولا ضرورة
لتبيان تهافت مثل هذا التصرف الأخرق الذي
يدّعي الواقعية، لأن السياسة الحقة هي
أولا وقبل كل شيء العمل على تغيير الواقع؛
ويبدأ ذلك برفض سيئاته وكل ما يصاحبها في
كل مقتضياته، حتى وإن بدا ذلك من باب الحلم
أو من الوهم.
فلا سياسة
أصلا بدون حلو ووهم، وإلا فهي ذلك التصرف
البهيميالذي ليس فيه من الإنسانية أي
شيء؛ بما أن ما يميز الإنسان عن الحيون
هو عقله وقناعته بقدرته على تغيير واقعه
نحو الأفضل.
والأفضل دوما
أمامنا، لا نصله بل نتوجه نحوه في سير
متواصل مستدام.وهذا
قدر الإنسان ومصيره المحتوم.
من
السياسة البهيمة إلى السياسة الفهية :
إن
السياسة البهيمية اليوم هي في قبول الواقع
في العلاقات الدولية على أنه من المستحيل
تغييره، لأن متخيلنا لا يزال تحت احتلال
الغرب في رؤياه البالية للأمور.
فنحن، وان
تحررنا نظريا، بقينا تحت التصور الغربي
لواقعه كما يحلو له ،وهو الحال التي تقتضي
بقاء الدول المستعمرة سابقا تحت هيمنته
الفكرية في تصوره الشكلي للأمور.
والشكل يخدع
الحواس لا محالة.
فبديهي
أن القول بتعادل الدول في السيادة يبقي
نظريا ولا مدلول له إذا كان مضمونه لا
يتوازن مع ما يفرضه المنطق والعقل.
لنأخذ لذلك
مثل حرية التنقل وهي من حقوق الإنسان ومما
لا محيد عنه في عالمنا :
فهل بالإمكان
إقامة المتاريس وتحصين الشقق بين طوابق
العمارة الكونية؟ رغم الإجابة السلبية
البديهية، فهذا ما يقول به الغرب وما يقبل
به ساستنا المنبطحين أمام الأمر الواقع؛
إذ، بدعوى الواقعية، يعملون على خدمة
مصالح تلك الدول الداخلية.
وتلك سياستهم
البهيمية التي ليس فيها مثقال ذرة من
العقل والحكمة.
فهذه الدول،
أساسا لأسباب ذات صبغة داخلية بحتة ومصالح
أنانية للعديد من ساستها وأحزابهم،
لتتجاهل بسهولة قيمها؛ بل هي لا تتردد في
شراء ذمم من لا يخشى بيعها لمصاله الآنية.
ّهذا
مثال، وأنا أكتفي به لما فيه من رمزية -
ولشدة دعوتي
إليه - للتدليل
على ما يمكن لنا فعله اليوم للرد على
التأثير الخارجي بسلاح الدول الخارجية
نفسها؛ فبذلك نعكس مصالحها لأجل صالح
شعبنا. فليس
بالإمكان اليوم للغرب، وبخاصة للإتحاد
الأوربي الذي هو أقرب جيراننا، أن يجابه
بالمنطق دعوة تصدر منا، إن تجرأنا عليها،
فطالبنا بما يلي :
ـ
أولا، حرية تنقل موطنينا في فضاء ديمقراطي
متوسطي، لأن الشعب التونسي برهن على نضجه
السياسي وعلى استحقاقه لمثل هذا المكسب
الذي يعد من أهم حقوق الإنسان ومن علامات
الديمقراطية.
ولا مجال لرفض
مثل هذا الطلب باسم الأمن، لأنه بالإمكان
تطبيقه، على الأقل في البداية، بمجرد
تغيير شكل التأشيرة اليوم إلى تأشيرة
تنقل تسلم لكل من يطلبها من التونسيين
بدون تمييز.
فهي من ناحية
تأشيرة، أي تمكّن من تتبع خطى المتنقل،
ولكنها في الآن نفسه تضمن حريته في تنقله
بكل طلاقة.
ـ
ثانيا، التخلص من عقدتنا وخورنا في اعتقاد
الوحدة العربية ممكنة اليوم، سواء بين
دول المغرب العربي أو بقية الدول العربية،
إذ هي تقتضي بلا أدنى شك انتقالنا الناجح
إلى الديمقراطية؛ فلا ديمقراطية تبنى
بين أنظمة لا تؤمن بها.
بل المنطق
يقتضي أن تتأسس الديمقراطية بأن تترابط
أواصر الدولة السائرة في هذا الإتجاه مع
الدول التي لها فيه باع؛ فهل يعقل أن نخيط
الثوب الجديد بما خلق وبلى من الأسمال؟
ثم إن تونس أساسا قلب المتوسط وأفقها،
وأفق شعبه ايبقى البحر المتوسط قبل أن
يكون المساحة المغاربية أو الإفريقة أو
المشرقية.
فتونس مغرب
الشرق، واتجاهه الطبيعي والحتمي أن يميل
نحو الغرب بأن يكون مشرقه، يأتيه بروحانية
دينه الذي هو من هويته،لا نحو المشرق وهو
أبعد ما يكون عنه، وخاصة في تزمته السياسي
والديني. فهذه
الحقيقة أحببناها أم كرهناه.
وعسى أن نكره
الشيء وفيه الخير، كل الخير، لنا!
هذه
بديهيات أسوقها لأصحاب النهى من ساستنا
وقد أظلنا عهد جديد يقتضي التجديد في كل
شيء، سواء في السياسة أو الدين؛ بذلك تكون
السياسة فهيمة ويعود الدين روحانيا
وثقافيا بعد أن غدا مجرد طقوس وشعائر،
تماما كما هي السياسة اليوم عندنا وفي
الغرب.
إننا
في زمن ما بعد الحداثة، وهو يقتضي إعادة
اكتشاف ما لنا من ثراء في الروحانيات حتى
لا تكون ديمقراطية تونسنا الجديدة مجرد
نظام بلى وتقادم، ليس فيه إلا الشكليات
المضحكة والمخاتلات المبكية التي هي
صبوحنا وغبوقنا اليوم.
فبإمكاننا
التأسيس لمابعد الديمقراطية، لنعيد حقا
للشعب كامل سيادته؛ يتعاطاها خارجيا
بتنقل حر يتوازى مع طبعه المتفتح وعقليته
التجارية الأصلية، وداخليا بالعمل السياسي
النزيه بمراكز جهوية يمكن فيها أخذ القرار
السياسي المستقل؛ فيحكم الشعب في الجهات
نفسه، لأن أهل مكة أدرى بشعابها.