تداعيات نوبل للسلام التونسية في خدمة السلم الإجتماعية
لا شك أن حصول تونس عن طريق الرباعي الراعي للحوار الوطني لهي الفرصة الكبرى لتحية المجتمع المدني بالبلاد التونسية والتدليل على قيمة تحركاته الناجعة من أجل سلم إجتماعية ونمط جديد للديمقراطية.
وذلك يكون خاصة بفهم جديد متجدد للعمل السياسي الذي أصبح اليوم أكثر من أي وقت مضى عملا إجتماعيا بالأساس، بالعودة خاصة للمفهوم الاشتقاقي للكلمة، أي كل ما يعني الحياة بالمدينة.
دور المجتمع المدني في الدفع للتغيير الضروري :
إن العمل من أجل حياة مجتمعية سليمة ومسالمة تقتضي اليوم أكثر من أي وقت مضى الفهم الصحيح للإسلام، إذ هو القاسم المشترك للتونسيين علاوة على كونه دين البلاد.
ذلك لأن فهمه المعمول به في العديد من المسائل الهامة اجتماعيا أصبح اليوم مخالفا، لا لروح الدين نفسها ومقاصد الشريعة فقط، بل وأيضا للنص القرآني في العديد من الحالات.
فالحنيفية المسلمة، هذا الدين العلمي العالمي التعاليم، هو أساسا كلمة السواء الصالحة لكل البشرية، بما أن السلام يمثل الرسالة الخاتمة للدعوى السماوية.
لذا، من الواجب الأكيد السعي الصحيح الهادف للسلام بهذه الربوع برعاية هذا الإسلام في فهم غير فاسد لمقاصده كما هو الحال اليوم؛ ولا شك أن لحامل جائزة نوبل للسلام اليوم المسؤولية الكبار في ذلك.
ويكون هذا بالعمل على دفع الساسة إلى انتهاج السبيل الصحيحة وقد اختلطت عليهم الأمور فأصبحوا يخبطون خبط عشواء في مسائل تبدو لمن يكتفي بالمظاهر عديمة الأهمية بينما فيها الشر كله إذا بقيت على حالها أو الخير كله إذا عرفنا التصرف فيها.
ذلك لأنها من تلك الأمور الكامنة بالمتخيل الشعبي، المتغلغلة في اللاوعي الجماعي؛ فهي تفسده كما هو الحال اليوم أو تحمله على التزكي إن صححناها.
في هذه الفرامل التي تحجّر لاوعينا :
سنعرض في هذه المقالة لبعض المسائل التي أصبحت من أهم الفرامل والمكابح في اللاوعي العام، بما أنها تعمل على منع كل قبول بالآخر المختلف فتجهض أي محاولة جدية للنهوض بهذه البلاد من أجل حياة جماعية آمنة.
وهي وإن كانت تخص اليوم تونس، فهي أيضا مما يعرقل المسار الديمقراطي بباقي الدول المغاربية إذ الحال بها واحدة في هذا الميدان.
وإن أملنا في التذكير بحقيقة الكلام فيها لكبير أن يسارع رباعي الحوار بتونس للعمل على إعادة أهل السياسة للجادة وترك سبل المزايدة السياسية واللخبطة القيمية الحالية في مواضيع قال العلم فيها كلمته فجاءت موافقة لفهم الإسلام لها. ورغم ذلك، يبقى فقهنا الذي أكل عليه الدهر وشرب رافضا لها؛ لذا تتوجب لا محالة إعادة النظر فيه باسم ضرورة الاجتهاد المستدامة.
فنحن لا نجد لمثل هذا الفهم الصحيح مكانه في الإسلام اليوم وفي قانوننا المستلهم للبعض من أحكامه منه، لأن فقهنا الحالي وصلنا بعد أن تأثر بطروحات خاطئة اعتمدت أساسا على الإسرائيليات التي تغلغلت فيه عن طريق فقهاء كان أغلبهم ممن طفح مخيالهم بتعاليم اليهودية؛ إذ كان جل حملة العلم في دين القيمة من الموالي، كما بيّن ذلك ابن خلدون.
مع العلم أن ما سأذكّر به هنا ليس بجديد بأي حال، إذ هو الفهم الذي نجده عند أهل التصوف مثلا وعند العديد من الفقهاء الأجلاء منذ بداية الإسلام قبل أن يقع تحريف تعاليمه السمحة بتلك الإسرائيليات.
كما أن كل هذه الأمثلة لا تخص تونس وحدها، بل يمكن سحبها على بقية بلاد مغربنا الأمازيغي العربي.
الخمرة ليست حراما في الإسلام :
لنبدأ بهذا الموضوع الشائك الذي نتج عنه العديد من الظلم شجّع التجارة خلسة بالخمرة لانعدامها بأغلب المحلات التجارية بصفة عادية.
إن الخمرة ليست محرمة في الإسلام الذي لم يمنع في حكمته السنية إلا السكر، أي عدم القدرة على ضبط النفس في الشرب. وليس هذا بالغريب في دين يثمّن الاعتدال في كل شيء، فلا يمنع إلا عند الضرورة القصوى.
لقد تعددت الطروحات في الموضوع وكتبت المقالات والتصانيف فيها، وهي متواجدة بالسوق بالعربية وبالفرنسية وبالأدلة الموثوقة؛ فهلا حان الوقت لإبطال النصوص القانونية بالبلاد التي تحد من حرية بيع الخمرة بالمحلات التجارية بتعلة واهية ثبت مخالفتها للدين الصحيح ؟
مع العلم أن هذا رأي العديد من المسلمين النزهاء، منهم الأزهري الشيخ مصطفى راشد الذي ذكّر ويذكّر بحقيقة أن الخمرة غير محرمة في دين القيمة.
الحجاب ليس واجبا في الإسلام :
هذا وقد ناقش الشيخ مصطفى راشد أطروحة في موضوع الحجاب بالأزهر الشريف مبينا حقيقة أن لا وجوب له في الإسلام بخلاف اليهودية أو المسيحية؛ فليس الحجاب أو الخمار، بله البرقع اليوم، إلا عادة غير إسلامية فرضتها عقلية غريبة عن روح الإسلام السمحة.
فالإسلام في روحه ومقاصده يمجّد أي تمجيد حرية العبد ورفضه التسليم إلا لله في علاقة مباشرة بينهما لا دخل فيها لأي مرجعية كانت. فديننا بدون منازع دين الحرية التامة للعبد في تسليم حصري لخالقه، ليس فيه أي وجوب ديني في أمر لباس أو سلوك إلا ضرورة التمسك بمكارم الأخلاق.
وطبعا، ليست مكارم الأخلاق في تغطية الجسم أبدا، إذ حتى التعرّي في الإسلام ليس بالذنب، بخلاف العادات اليهودية والمسيحية. ذلك لأن من يتعرّى بدون نية الإساءة للغير أو قصد الإثارة، كأن يفعل ذلك في مواضع معنية خاصة بهذا الفعل، لا ينافض الإسلام في شيء.
ويمكن قول نفس الشيء بالنسبة لغطاء الرأس المفروض إلى اليوم في البروتوكول الرئاسي بتونس مثلا على المرأة عند أداء اليمين، إذ لا يفرض الإسلام أن تغطي المرأة رأسها كما نجد ذلك في الكتاب المقدس.
فلا حياء في الدين الإسلامي إلا الحياء في حسن التصرف وعدم الغلو في أي شيء؛ ولا شك في أن تغطية الجسم كاملا بدون سبب شرعي قائم هو من هذا الغلو الذي لا يسمح به ديننا، إذ هو مطية للشر بداية بالظلم، أي وضع الشيء في غير محله، بينما ترفض الحنيفية المسلمة أساسا الظلم، لأنها دين العدل وكلمة السواء، بل وفعله، في كل شيء!
ولنذكر من نسي دينه أن أول حج في الرسلام بعد فتح مكة تم نع الحجيج نساء ورجالا عراة كما ولدتهم أمهاتهم؛ كما أن العباد يحشرون هكذا. فهل يستحي العبد من عورة لا يستحي الله منها ؟ أي إسلام هذا ؟
المثلية فطرة بشرية اعترف بها الإسلام :
لا شك أن أفظع مغالطة في الإسلام اليوم هي التي تقول بأن المثلية أو اللواط محرم في دين الإسلام، إذ أنه خلافا لما نجده بالكتاب المقدس لا تجريم ولا تحريم للعلاقات بين الجنس الواحد في القرآن. فكل ما ورد فيه من مسائل ليست إلا من باب القصص، أي التذكير بما كان سائدا في اليهودية والمسيحية، وقد أول الفقهاء تلك القصص بمعنى التجريم بالقياس على الزنا، مع اعتبار اللواط أفظع من الزنا، وهذا من الخلف ولا شك.
ثم إنهم في تأسيهم باليهودية والمسيحية، أي هذه الإسرائيليات الطاغية في الفقه الإسلامي، خالفوا أيضا قاعدة أساسية إسلامية استنبطوها بأنفسهم، ألا وهي الحلية المبدئية عند انعدام النص الصريح؛ ولا حكم في الموضوع كما نعلم !
هذا، وإن كان تأويلهم صالحا لعصرهم نظرا لأن النظرة العامة كانت تستهجن ما كان طبيعيا في العديد من المجتمعات، كما كان الحال مثلا في الحضارة الإغريقية، فهذا لم يعد مقبولا اليوم وقد أيد العلم التوجه الصحيح للإسلام في اعتبار المثلية من الفطرة في بعض البشر. فهل من راد لمشيئة الله في خلقه؟ وما ذنب من خلقه فاطره كذلك، بما أن المثلية ليست مرضا؟
وللتذكير، وردت السنة الصحيحة مطابقة تماما للقرآن، إذ لا يوجد أي حديث صحيح في الغرض، لا في البخاري ولا في مسلم؛ وقد بين أبو حنيفة والشافعي في أصح روايتيه أنه لم يصح أي شيء عن الرسول الأكرم.
ذنب قوم لوط هو الحرابة :
نعم، هناك من يقول أن في الآيات القصصية عبرة لمن يعتبر. إلا أنه لا يد أيضا من الاعتبار الصحيح لا الخاطيء بمعرفة حقيقة قصة قوم لوط لا ما رسب إلينا منها.
فقوم لوط شعب، لذا لم يكن اللواط فيهم خاصية عامة، إنما كانت في البعض منهم كما هو الحال في كل المجتمعات والشعوب، وإلا لما تناسلوا إلى حد تكوين الشعب الذي آلوا أليه.
ثم نحن نعلم مدى بلاغة اللغة العربية في التصرف في الألفاظ والمعاني لاتساعها، كأن تتكلم عن العمرين وهي تقصد أبا بكر وعمر، أو الأسودين وهي تتكلم عن الحليب والتمر، أو كأن تقول للخضرة سوادا، وغير ذلك من فصوص الحكمة والبلاغة التي جاء بها القرآن. لذلك، فمن البديع اللغوي أن يُطلق الفرقان الخاص على العام لصفة شاعت أو عظمت في الأعين؛ من ذلك وصفه قوم لوط بعمل بعضهم مما عُد في ذلك الزمن من الفاحشة، ولا وجود للكلمة بتاتا في العربية.
أما الخاصية العامة لقوم لوط والسبب الذي جعلهم يستحقون عقاب بالله، فهو أنهم كانوا يمتهنون الحرابة التي ورد الحكم فيها قاسيا في القرآن بالآية 33 من سورة المائدة، وهو الاستناد القانوني في بلاد كالعربية السعودية للحكم بقتل المثلي.
هذا هو الذنب الحقيقي لقوم لوط الذي جعلهم يستوجبون عقاب الله، لا فعل القلة منهم مما ذكره الله، زيادة في التعيير بهم، لما كان في المثلية في ذلك الوقت من معرّة تبددت مع تغير الأحوال.
أما الحرابة، فتبقى هذا الجرم الكبير الذي تُعاقب عليه كل الأنظمة الديمقراطية إلى اليوم، إذ لا أفظع من الاعتداء على أمن السابلة.
حتى لا نظلم الإسلام والعباد في قضية المثلية :
إنه لا مناص اليوم من إبطال الفصل 230 جنائي المجرم بتونس للعلاقات بين الجنس الواحد، ومثله الفصول الجائرة 489 بالمغرب و333 بالجزائر؛ لأن المثلية من الفطرة الطبيعية،حيث أن القاعدة بالطبيعة هي تعاطي الجنس دون التفريق بين الذكر والأنثى. ثم لأنه كل هذه الفصول تناقض الإسلام كما تخالف مقتضيات الدستور، خاصة بتونس والمغرب، في حرية الحياة الشخصية والميولات الخاصة.
فلا مجال إلا لاحترام الإسلام في هذا الموضوع الشائك الذي يغذي في لاوعينا الشعبي إرهابا معنويا فظيعا يؤسس لرفض الآخر المختلف، زارعا بذور الإهاب المادي.
فإما الإسلام يجرّم المثلية - وقد بينا أن هذا من الإسرائيليات التي حان الوقت لطرحها جانبا، ولكن لنقله جدلا -؛ عندها يتوجب على السلط احترام الإسلام وتطبيق ما تدّعي بعض الدول أنه الدين الصحيح، أي قتل المثلي! فهل نحن مستعدون لذلك بتونس وبالمغرب الكبير؟
وإما الإسلام لا يحرم ولا يجرم المثلية - وهذا هو الصحيح -؛ عندها، يتحتّم إبطال الفصل 230 حالا (والفصول الأخرى بالبلاد المغاربية) إذ هو يسجن الأبرياء ظلما مخالفة لنص وروح الإسلام والدستور !
ولنذكر في الختام أن هذا الفصل، إضافة لفصول عدة يتوجب أيضا إبطالها في القانون الجنائي، هو من تركة الإستعمار علاوة على كونه من مخلفات العهد البائد. والحال هي نفسها بالمغرب والجزائر. فالمثلية كانت أيضا مجرّمة في القانون الفرنسي الذي لم يرفع التجريم إلا في سنة 1982.
فهي، كما قلنا أعلاه، من العقلية اليهودية المسيحية التي لا تزال المجتمعات الغربية تقاسي منها رغم قوانينها الديمقراطية، بينما تغنت بها الآداب العربية وقبلها المجتمعات الإسلامية بدون أي حياء، خاصة وأن المثلية، كما بيّن ذلك الشيخ عبد الحميد كشك في كتابه «خواطر مسلم في المسألة الجنسية»، موجودة في الجنة تماما كالخمرة.
ودعنا نقول أيضا أن كتاب الشيخ كشك الصادر بالقاهرة عن مكتبة التراث الإسلامي يباع اليوم بكل حرية بعد أن مُنع مدة حتى بيّنت السلطات الدينية المصرية أن مقولته لا تخالف في شيء الفهم الصحيح للإسلام.
لنعد لكلمة السواء الإسلامية !
متى نفهم إذن الإسلام ، بتونس وبسائر دول المغرب الأمازيغي العربي، على حقيقته ونرفع ما في قوانيننا من إجحاف في حقه، ما جعل منه اليوم هذا الدين الظلامي الداعشي الذي نراه بالشرق وعند البعض عندنا؟
إن الإسلام تنويري قبل كل شيء كما هو في التصوف، الذي قدّم خير قراءة له؛ وهو الإسلام التونسي حسب متن ابن عاشر الذي أرسل فيه أفضل تحية إلى الجنيد السالك !
فليعمل الرباعي الراعي للحوار بتونس لأجل السلام، كما تقتضيه جائزته، بداية برعاية الإسلام الصحيح في هذه الربوع بالدعوة إلى إبطال مثل هذه الفصول المخلة بالأخلاق والآداب، وهي تدّعي كذبا خدمتها والذب عنها !
فسيكون عمله بتونس بدون أدنى شك أفضل سبيل تُسلك بسائر البلاد المغاربية لخير البلاد والعباد بدءا بالكف عن الظلم الصارخ لدين التسامح وكلمة السواء.
فمثل هذه السلم الإجتماعية لا بد من خدمتها ليستتب السلام في القلوب، إذ لا حياة آمنة بدون قبول بعضنا البعض، كل بخصوصياته واختلافاته، في احترام متبادل وأمن ودعة للجميع.
فالإسلام ليس إلا كلمة السواء، وهي اليوم في رفع القوانين المجحفة وترك الحريات الشخصية كاملة للشعوب؛ وبذلك نقاوم الغلو في الدين والتزمت، لا بقمع ما لم يحرمه الدين ولا القانون مما يزيد طين الرهاب بلة.
لنعد إذن إلى كلمة السواء الإسلامية باحترام ديننا في قوانيننا المخلة بكل سواء إسلامي في فصولها، بما أنها لا تأخذ لا بالأخلاق الإسلامية ولا بالأعراف الدولية.
هذا ما تنتظره الشعوب المغاربية كلها، لا بتونس وحدها، من حاملي جائرة نوبل للسلام هذه السنة. ألا فليكونوا عند حسن الظن بهم !
نشرت على موقع أخبر.كم