هذه الكلمات وما سيلي كتبتها بعد أن لفت انتباهي هنا على الموقع مقال للأستاذ جمال أكَاديري تساءل فيه : «متى ستنتهي هذه اللعبة المهينة للفن والإبداع عموما؟»1
طابو اللواط في مقالة الأستاذ أكاديري :
تحدث الأستاذ بإطناب في مقاله عما اعتبره « ظاهرة توالت، في غضون فترة قياسية من المدّ والجزر في التبدِّي والظهور، عبر فضائنا الثقافي والفني وحتى الحقوقي»، ألا وهي، بتعبيره «طابو اللواطية أو كما يُلاك بالعبارة التَّلْطيِفية الأنيقة جدا: ” المثلية الجنسية “»، فهي في رأيه «فرقعة إعلامية» هدفها الأوحد الترويج «كبضاعة مُطعّمة بتوابل الإستثارة، وطبعا بعلة أنها ذات حمولة دلالية اجتماعية شاذة عن السائد».
وبالرغم من اعترافه بأن الموضوع المعني هو «هذا المسكوت عنه الراقد في الظلال والمخترق لكثير من الشرائح الاجتماعية بإختلاف مستوياتها الطبقية»، إلا أنه ينفي أن يكون له أية صفة من صفات الإبداع الفني، بل يحذر من أن يؤدي إلى مزيد من التقسيمات في المجتمعات مذكرا «إلى أي مآل مرعب تسوق هذه التقسيمات عند ممارستها حرفيا.. وأدخنة محارق القرن الماضي ليس ببعيدة عنا..»
هكذ ا ! ثم هو يرى في انتقاده لمن كتب وصور في موضوع اللواط أن الأكثر إثارة للاهتمام «أنهم بذكائهم الفني الإبداعي، سيُساوون بينه وبين اختلاف آخر ولا مساواة أخرى ومسكوت أعمق، يضرب في جذور التاريخ وحفريات السياسة ودهاليز التناحر الإجتماعي..»
لقد لفت انتباهي هذا التناقض الصارخ في الكلام، إذ ينفي صاحب المقال، من ناحية، عن هذه الأعمال الطابع الفني الإبداعي، ثم هو يعترف به لما له من نجاح عند الجمهور. نعم، إن العمل الفني المتميز، كما يقوله بنفسه « لا يبلغ درجة قيمة إلا إذا خلق إضافة أو أخذ دورا فاعلا في جلبها كمقوم جديد لفضاء الإبداع»، إلا أنه يستخلص من ذلك خطأ ما اعتبره من باب «الفصل في الأدب والسنيما بمبضع جنسوي تشريحي، وبمقياس جنسوي إستهلاكي».
إلا أن الأدهى هو الحكم على هذه الأعمال الناجحة على الٍأقل جماهيريا بأنها لا تقوم «على أي ميزة جمالية او أسلوبية أو رؤيوية»، فهي في رأيه، وهو يُحترم ولكنه لا يعدو أن يكون إلا رأيا يحتمل على الأقل الرأي المعاكس، «محض استلاب، وخدعة بئيسة فكريا لترويج موضوعات شائكة كقضية المثلية، لا تعرفها بلادنا فقط بقدر ما يعرفها العالم بكل أجناسه وقاراته .»
هنا مربط الخيل. فموضوع اللواط أو المماثلة (وهو التعبير الذي اقترحته بديلا للمثلية) هو من المسكوت عنه في مجتمعاتنا الإسلامية، كما كتب صاحب المقال بنفسه؛ وهذا طبعا لا يعنى أنه من غير المعروف والمعهود، بل والمقبول؛ إلا إن ذلك يتم في الخفاء ومع التستر خلافا لما الحال بالغرب حيث هو مما لا يخشاه المتحدث في تصرفاته وفي الإعلام. ثم هو عندنا مما يمنعه القانون ويعاقب عليه إلى حد القتل في بعض البلاد الظالمة؛ و رغم ذلك، هذا لا يمنع لا شيوعه بين الناس ولا رضاهم به كعادة من العادات المقبولة ما دامت في السر.
هذه هي المشكلة الأساسية التي خفت على أستاذنا الكريم، فالجنس من الممنوع الذي يثير الفضول فتكثر قيمته. وهو يعلم ولا شك ما للممنوعات من قيمة عند المحرومين. فذلك مما يكشف سر ما سمّاه الطفرة الإعلامية حول الموضوع. فاللواط من الجنس مع زيادة في كونه من طبيعة بعض البشر وسنة الله فيهم.
إنه من الأكيد أنه لو كانت قوانينا تحترم حقا طباع الناس وعاداتها فلم تحرّم ما ليس في تحريمه أي خير، لما كان ما نراه اليوم الذي ليس له فقط كما يقول كاتبنا الوازع المادي كمحرك وحقيقة.
ولعله من المفيد تذكير كاتب المقال أن طابو المماثلة هو أيضا من الطابوات في الغرب أصلا الذي لم يتجاوز هذا الوصف له إلا عندما أصبحت هذه العادة من المواضيع العمومية مع تطور هذه المجتمعات وأخذها بالديمقراطية.
هذا، وقد بينت بالدليل القاطعي في كتابي المذكور بالمرجع أن مثل هذا الطابو لم يكن معروفا في بلادنا العربية الإسلامية، لانعدام التحريم للواط في القرآن والسنة خلافا لما يعتقده الجميع. والحالة إزاءه كانت كما هي اليوم في الغرب، أي تمام التحرر بينما كانت نظرة الغرب إليه هذه التي نعرفها عندنا اليوم كما هي عند السيد أكَاديري.
عقدة الحياة الإجتماعية عندنا اليوم :
إن عقدة الحياة الاجتماعية عندنا بما فيها من رفض للآخر مجرد خيال متجذر فكريا في أدمغة بعض الناس الذين يعملون على ترسيخه بالقوة والرهبة على واقع يرفضه ولا يقبله وإن تظاهر بذلك خوفا من بطش هؤلاء.
وطبعا، يتغذي هذا الخيال الزائف بمجموعة قوانين هدفها فرض رأي تلك الأقلية في فكرها الإرهابي مستمدة شرعيتها مما يمدها به سدنتها في صفوف من يسهر على مصالح الأقلية المستفيدة من تلك القوانين من رجال دين وحكم.
ولا شك أن البعض من أهل الفكر، سواء بسكوتهم أو بفمهم المغلوط لأمور مجتمعهم، يساهمون بالقسط الأوفر في دوام مثل هذه الحالة المنكرة. أقول منكرة لأنها لا تخالف فقط حالة المجتمع الحقيقية، بل وأيضا قيمه الدينية والأخلاقية إذ تقلبها رأسا على عقب. ومنها موضوع اللواط الذي بينت بما فيه الكفاية أن لا تحريم له لا في القرآن ولا في السنة.2
كل ما هنالك هو تداخل في العادات العربية الإسلامية لعادات يهودية ومسيحية في نطاق ما عرفه الإسلام من إسرائيليات. وهي عادات غريبة عن التسامح الذي ميز ويميز الإسلام، وخاصة قبوله بالغيرية altérité وتمجيده المطلق للحرية البشرية في الحياة الخاصة، إذ يقدس الإسلام حرمتها. وهذا ما لم نعد نعرفه ولا تحترمه قوانيننا الي تفرض على المسلم قسرا وقهرا نمطا من العيش لايستسيغه لا العقل اليوم ولا تقبله الأخلاق الإسلامية إذا لم نشوهها بما رسب إليها مما ليس منها.
ثم علينا أن نعلم لما في قبول اللواطي أم المماثل في مجتمعاتنا من رمزية إذ هو الدليل على قبولنا بكل مختلف أيا كان. فالدفاع عن المثلية هو من باب الدفاع عن الحريات العامة، وهم من أسس المطالبة بالديمقراطية. فلا ديمقراطية بلا غيرية. وما ظهور المماثلين أر المثليين على الساحة العمومية إلا من باب دخول البلاد في معمعة النظال من أجل اليمقراطية الحقة،
فتلك هي حتمية تطور المجتمعات التي تتغير وتتبدل أحوالها من حال إلى حال، فلا مناص من مد وجزر في كل الموضوعات بما فيها ما هو من المحرمات، خاصة إذا لم تكن كذلك لا في الدين ولا في المتخيل الشعبي، فقط في مدونات قانونية هي مجرد وسائل للاستبداد في خدمة الحكام وفي يد أصحاب أقلام تساعد على دوام حال لا مناص من تغيرها.
أما ونحن اليوم في فترة ما بعد الحداثة فلا مجال لتجاهل ما يميز الحياة الاجتماعية من بروز على السطح لكل ما تجذر من العادات وتأصل من الأحاسيس والمشاعر، بما فيها تلك التي لم تعتدها مجتمعاتنا، لا لأنها لم تكن تعرفها، إنما لأنها كانت تقع في الخفاء، بعيدا عن الأعين. فذلك لم يعد بإمكانه التواصل على هذه الشاكلة اليوم، إذ هو مطرد في ظهوره، لا يكبح أي شيء جماحه لأنه يمثل غريزة الحياة و نزعة من تيارها العتي. وبما أن عقدة الحياة الإجتماعية عندنا هي مجرد الوهم الذي أشرت إليه آنفا، فلسوف تأتي عليها وتزيلها كما تزيل أنوار الشمس كل ظل من ظلل الخيال.
نعم، أنا أرى أنه لا عقدة لحياة اجتماعية متفتحة على الغير ولا رفض للغيرية بتاتا في متخيلنا الشعبي. يكفي لذلك أن نرفع عنه ما رسخ فيه ظلما وبهتانا بحد سيف الحاكم أو من يمثله وينوبه من القوى الظلامية التي تسهر على تقييد حرية الشعب من خلال التصرف في مشاربه وأهوائه الخصوصية باسم الدين، والإسلام من ذلك براء.
إن زمننا الحاضر هو زمن الجماهير، وهي اليوم تحيا ساعة تجارب الإنسان الأرضي، أي هذا الحيوان البشري الذي يمتاز بالأهمية التي يعطيها اللحظة المُعاشة في حياته بمتجلياتها الحسية ومتعها أو آلامها، ظاهرة كانت أو مستترة. فمع مثل هذا الإنسان وقد أصبح أرضيا لا مجال للتفريق فيه بين المادي في حسيته والروحي في تعاليه، فحتى المتعالي اليوم غدا محايثا واللامحسوس حسيا.
ويمتاز مثل هذا الزمن أيضا بالقيمة الكبار فيه لنكهة العيش، أي طريقة الحياة كما يهواها صاحبها، سواء كانت فيها نكهة كما عهدناها أو نكهة غير معتادة لا يعرفها إلا من يتعاطاها؛ فتلك هي الحياة الجيدة عنده لما تمتاز به من شدة الاهتمام بالحاضر والانهماك فيه.
هذه من السمات المميِّزة لثقافة العيش اليوم، وهي آنية، من النوع الأبيقوري. فالأبيقيورية هي يومية اليوم، أصبحت أيديولوجية العيش البشري ونمط حياة الإنسان في كل المجتمعات، لا فرق بينها إلا في درجة تعاطيها والقدرة لتعاطيها. فالفروق ضئيلة وهي تختص بما يطفح على السطح لا ما يختلج تحت أديم المجتمعات وفي حناياها.
مقتضيات زمن ما بعد الحداثة :
لذا، من الحزم أن يتفطن لهذا أهل الفكر عندنا وأصحاب الأقلام لأن دورهم لكبير في مواكبة هذا التطور قبل أن يُضطروا إليه اضطرارا. واجبهم اليوم أن يغيروا من نظرتهم إلى واقع مجتمعاتهم والأخذ بما بيدو لهم طفرات على السطح ونزغات هي في الحقيقة مثل الحرارة المرتفعة عند ابن آدم التي تؤشر على أن كل الجسم المجتعي في تغير.
إن على أهل الفكر والسياسة وكل من له القليل من النفوذ، ماديا كان أو معنويا، المبادرة بالقيام بثورة كوبرنيكية تجعلهم في مستوى ما يجري حولهم قبل أن تزيلهم عجلة التاريخ عن الطريق إلى مزبلته. فعليهم الاحتفاء بعلوّ شأن الملموس والمحسوس في مثل هذه الأشياء التي تبدو شاذة وبسيطة في حيوات الناس بينما هي هامة بالنسبة لهم كما هي عادية جدا في تصرفاتهم رغم كل الموانع والمخاطر في تعاطيها؛ فمنها يتشكل اليوم نسق الواقع البشري كما هو لا كما يريده البعض أن يكون في نظرة أخلاقوية ليس فيها ذرة من الواقعية.
وهذا ليس بالجديد ولا المحدث كما سبق أن قلت، بل تُمثل عودته وبروزه على السطح المجتمعاتي الثورة الحتمية على كل ما تقادم وبلى. من ذلك نظرتنا للجنس وللأخلاق. هذا ما علينا فهمه وإفهامه لمن لم يفهمه بعد ممن يتمثل واجبه في ذلك.
ومما تمتاز به حقبتنا المابعد حداثية هو تغيّر الذوق الحسي للأشياء إذ لم يعد العقل ذلك المتعالي في تجرّده، بل أصبح عقلية حسية أو معقولا حسيا3 أقرب للذوق الصوفي الذي هو، كما بيّنه الغزالي، تلك المعرفة التي تفضُل العلم في الوصول لحقائق الكون.
بعد انقضاء فترة وهم سيادة الإنسان على الطبيعة، وكانت من أشهر مقولات الحداثة المنقضية، ها نحن نعود إلى أحضان الطبيعة الأم ونكتشف ضرورة الحفاظ عليها وعدم قدرة الانسان على التسلط عليها بالتهور في فرض ما يشتهيه على ما ليس في مقدوره إتيانه ولا من حقه فعله. لقد اكتشفنا اليوم مجددا قيمة المحيط والوسط البيئي أو البىئة وضرورة التنمية المستدامة. ولا شك أن ما في الإنسان من فطرة ومن غريزة وجب الأخد بهما واحترامهما هو أيضا من قبيل هذا الاحترام الضروري للطبيعة؛ أليس الإنسان منها؟ أليست البشرية طبيعة قبل أن تكون ثقافة؟ لذا وجب فهم الإنسان وطبيعته كما هو وتفهيم هذا لمن لم يفهمه بعد.
وبما أن خير مفتاح لفهم الأمور هو العودة إلى أصل الكلمات، لنذكر أن أصل فعل فهم بالفرنسية comprendre هو الأخذ معا أو أخذ الشي مع الآخر، Cum prehendere أي prendre avec et prendre ensemble بمعنى أخذ الأمور بأطرافها دون ترك البعض منها. وتلك هي المعرفة الحقيقية؛ وما الفهم في العربية إلا معرفة الشيء وعلمه.
ولعله من المفيد أن نختم هذا التذكير والمقالة بالإشارة إلى أن الأصل اللاتيني للفعل الفرنسي فهّم يعني رفع الثنيات والطيات4 التي تمثّل ولا شك أحكامنا السبقية وأفكارنا المسبّقة في الموضوع. فالفهم بالعربية،كما يقول اللسان : معرفتك الشيء بالقلب،5 فهل أفهم من القلب وأعظم تفهّما للغير من الأحاسيس؟ وليس القلب فقط بمعنى الفؤاد الذي عهدناه، فهو أيضا العقل إذ «قد يعبّر بالقلب عن العقل»6، فهو إذا هذا العقل الحسي الذي عرّفه علم الاجتماع الحديث.7
وللحديث بقية إن شاء الله في موضوع الجنس بصفة عامة من الزاوية الأخلاقية والدينية مع ما يحتمه ضرورة علينا من مواكبة لمقتضيات زمننا الراهن حتى نكون أهلا للعيش به كما تقتضيه سنة الله في خلقه : بذكاء وحكمة تحي حكمة الله فيه وقد حمّله الأمانة.
الهوامش :
2 في تجديد العروة الوثقى 2 - حقيقة اللواط في الإسلام - أفريقيا الشرق - الدار البيضاء 2014
3 Raison sensible وهي من إبداعات عالم الاجتماع الفرنسي Michel Maffesoli راجع كتابه Éloge de la raison sensible. Paris, Grasset 1996. وقد ترجمه إلى العربية الأستاذ الصديق عبد الله زارو ونشر بالمغرب عند أفريقيا الشرق تحت عنوان «في العقل الحساس. دفاعا عن سوسيلوجية تفاعلية»
4 ِExpliquer, du latin ex-plicare : enlever les plis
5 انظر لسان العرب لابن منظور، المرجع المذكور، الجزء 12، مادة فهم.
6 لسان العرب، المرجع المذكور، الجزء الأول، مادة قلب. ويواصل ابن منظور :«قال الفراء في قوله تعالي : إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب؛ أي عقل. قال الفراء : وجائز في العربية أن تقول : ما لك قلب، وما قلبك معك؛ تقول : ما عقلك معك، وأين ذهب قلبك؟ أي أين ذهب عقلك؟ وقال غيره : لمن كان له قلب أي تفهّم وتدبّر».
7 Raison sensible كما أشرنا أعلاه.
نشرت على موقع أخبر.كم