مسؤليتنا في مجزرة الصحيفة شارلي هبدو
إن المجزرة المرتكبة اليوم بباريس بإحدى أبرز صحفها الساخرة لهي بحق جريمة لا فقط ضد حرية الصحافة، بل وأيضا ضد الإسلام والمسلمين، وذلك بقدر أكثر مما نريد ونجرأ الاعتراف به.
هي طبعا جريمة نكراء ارتكبها غوغاء باسم الدفاع عن الإسلام، بينما هي تسيء له وتهدم صرحه.
إلا أن هذه الجريمة والإساءة التي تحملها ليست فقط لكونها فعل هؤلاء المتزمين أو الأدعياء على الإسلام، بل لأنها أيضا تتنزل بصفة غير مباشرة في خانة فهمنا الخاطيء للدين الإسلامي.
مسؤولية الفهم المغلوط للإسلام :
هذا الفهم المغلوط يشملنا، إذ هو عندنا أيضا، في بلداننا التي تدعي الأخذ بإسلام وسطي متسامح. فأي تسامح عندما نمنع الناس من العيش في أمن وسلام حسب أهوائهم وفي أخص أموهم الخاصة، فنحد من حياتهم بقوانين جزرية ونصوص قمعية تتدخل في شؤون لا تهم الشأن العام؟
إن كل قوانيننا التي تمعن في التدخل في الأمور الخاصة للمواطنين، كالقوانين الردعية لنمط من الجنس أو التي تفرض الصيام قهرا بالأماكن العموميمة أو تمنع الإفطار في رمضان، أو تلك التي تعاقب متعاطيي المخدرات، وهم ضحاياها، عوض إعانتهم على التخلص من الأفة بالضرب على أيدي التجار ومن يتمعش من هذه التجارة الدنيئة مستغلا براءة من يقعون في حبالهم.
إن مثل هذه القوانين التي تتسلط على الحريات الخاصة وتقمع تطلعات الشبيبة للحياة الحرة حسب ما يقتضيه شبابهم وطفرة الحياة فيهم لهي التيرب الذي يغذي التزمت ويدفع بالشباب بين أحضان الإرهابيين.
فهي قوانين ردعية لا غاية منها إلا فسح المجال للسلط بإحكام قبضتهم على شعبهم وهو في غالبيته من الشباب، فتخصيه وتمنع نموه الطبيعي. ونموهم يقتضي طبعا الحرية التامة في حياتهم ما دام لا شيء في ذلك مما يهم الأمن العام.
فأي مساس بالأمن العمومي في أن يفطر فاطر في رمضان أو أن يترك مسلم دينه لأنه لا يبتغي لنفسه أي دين أو لاعتناق دين آخر أو أن يتعاطى الشاب أو الشابة الجنس مع مثله أو مثلها؟
مسؤولية انعدام ثقافة الحرية :
إن هذه القوانين ومثلها هي التي تزرع بذور التوحش في عقول الناس بمنعهم بالحياة بصفة طبيعية، جاعلة منهم وحوشا بشرية كتلك التي هاجمت اليوم المجلة بباريس. فهي لم تعرف قيمة الحرية نظرا للحياة المنقوصة التي عاشتها في ظل قوانين ردعية ظلمتها في حياتها الخاصة؛ لذا، فهي لا تعترف بأي حرية لغيرها، إذ لا حرية إلا حريتها لفرض قانون الغاب الذي تعتنقه.
وهذه القوانين هي أيضا التي تجعلنا نخلط بين المساس بالقداسة وحرية الرأي الذي له في ديننا تمام حرية التهكم والسخرية، إلى حد الهجاء المقذع إن لزم الأمر دون أن يمس ذلك أبدا بالمقدس، لأن القداسة في الإسلام معنوية لا مادية. فهي ليست صنما لا يجب المساس به، إنما هي احترام أيضا؛ ففي النقد والانتقاد والسخرية لا ينعدم الاحترام تماما، وإن كان ينتهج نوعا آخر من التصرف.
لذا، فمن يندد اليوم من نخبنا بالجريمة النكراء مبدئيا ثم لا يتردد في اللوم على الجريدة الساخرة لتجاوزها خطوطا حمراء لهو يبين أنه نتاج انعدام الحرية ببلداننا؛ فهو لا يعرفها عند الغير تماما كما لا يعترف بها أهل الإرهاب، وإن برأ ذمته بالتنديد نظريا بجريمتهم.
مسؤولية انعدام عقلية الغيرية :
ولا شك أن مثل هذه العقلية سوف تأخذ أشكالا أخرى أكثر حدة وشناعة غدا إذا لم نغير فهمنا لديننا وننتهي عن الخبط خبط عشواء في تطبيق تعاليمه وتصريف قداسته في ما ليست هي الأهل له.
ذلك لأنه من واجبنا وحق شعوبنا العمل على إرساء ثقافة الحرية ببلداننا لا تجعل من الدين مطية لتقزيم مواطنيها ومنعها من حقوقها المشروعة، كل حقوق المواطنة كما تعترف بها المواصفات العالمية للديمقراطيات.
وهذا يتطلب منا العمل على تجاوز الموانع التي في عقليتنا للقبول بالآخر وتنمية الغيرية في حياتنا. وإلا فلن نفلت من مسؤولياتنا في فواجع أخرى مثل هذه التي هزت العاصمة الفرنسية فأسدلت أسود ستائر الخزي والعار على أهل الإسلام.
فالإسلام بريء من تصرفات هؤلاء الغوغاء، الأدعياء على روحه وسماحته كما هي في مقاصده. إنها إذن مسؤولية ساستنا ومشرعينا ونخبنا التي تهين الإسلام بالكلام عن خطوط حمراء لا يجب تجاوزها في الكلام عنه بينما لا خطوط حمراء إلا في عقليتهم بذرتها فيهم ثقافة الارهاب السياسي والقانوني في بلداننا العربية الإسلامية، وهي في مثل خطورة الإرهاب المادي إذ تمهد العقول له. وهذا أخطر الإرهاب.
نشرت على موقع أخبر.كم