في منع عقوبة الإعدام
عقوبة الإعدام في تونس والمغرب من الزاوية الإسلاميةَ
عقوبة الإعدام في تونس والمغرب من الزاوية الإسلاميةَ
(1/ 2 )
ناقش البرلمان المغربي أخيرا موضوع منع عقوبة الاعدام ومدى تناقضها مع مبدأ الحق في الحياة الذي تضمنه عدة اتفاقيات دولية مصادق عليها من طرف السلط المغربية. فالحكومة ترى أن هذه لا يتناقض مع العقوبة كما صرح بذلك وزير العدالة والحريات في معرض رده على سؤال وُجه إليه حول منع عقوبة الإعدام كما تقتضيه المعايير الدولية للديمقراطيات الحديثة.
ويأتي مثل هذا الجواب في نطالق النقاش الحاد الدي يعرفه المجتمع المغربي كبقية المجتمعات المغاربية، ومنها خاصة التونسية، حول ضرورة منع هذه العقوبة اللاإنسانية.
ففي المغرب كما هو الحال بتونس، لئن تلتزم السلط بعدم تنفيذ الأحكام الصادرة بالاعدام، فهي لا تجرأ على منع العقوبة لأسباب اجتماعية ودينية. ولعل الداعي الديني هو الوازع الأكبر لرفض منع هذه العقوبة إذ هو الذي يغذي مخيال الشرائح الاجتماعية بالبلدين بتعلة أن ذلك من شأنه أن يخل بواجباتهم الدينية واحترامهم لها.
وهذا من الخطأ الفادح، بل هو من المغالطات الكبرى في الحمل على الاعتقاد أن الاسلام يحرم منع عقوبة الاسلام إذ ديننا بالعكس يشجع على ذلك كما نبينه في هذه المقالة.
فحق الحياة الذي يؤكد عليه الدستور المغربي الجديد، والحال نفسها بالنسبة للدستور التونسي، يقتضي منطقيا منع عقوبة الاعدام بالبلدين. وفي ذلك الاحترام الكامل للدين الإسلامي لا فقط من زاوية مقاصده بل وأيضا نصه. ثم إن منع عقوبة الإعدام هو الفرصة السانحة للإسلام لأن يدخل قلوب المحكوم عليهم بالمؤبد في نطاق سياسة تجعل من رواق الموت رواقا للروحانيات من شأنه العمل على حمل المعنيين بالأمر على التوبة عن أفعالهم فالتكفير عما اقترفوه من جرم بالعودة إلى تعاليم الدين والتمعن فيها لتصدق توبتهم وينلون عفو من ظلموا وعفو الله لصدق التوبة.
هذا ما نبينه في هاتين المقالتين اللتان سبق نشرهما بتونس فنعيد ذلك بتصرف هنا على جزءين.
في منع عقوبة الإعدام
(الجزء الأول)
عقوبة الإعدام كفر بالله
عقوبة الإعدام كفر بالله
إن إبقاء عقوبة الإعدام كفر بالله، لأن الحق في الحياة مقدس في الإسلام، فلا يجوز المساس به إلا من طرف الله تعالى، إذ الله هو الوحيد الذي يقبض الحياة كما يعطيها لخلقه.
إن الإسلام وإن أقر القصاص، فذلك من باب إحكام حكمته بالتدرج في الأحكام، إذ لا يفتأ يدعوالمسلم إلى التسليم لله وحده في كل ما يهمه من أمور، خاصة تلك التي تتعلق بأخص خاصياته؛ ولا شك أن من أعظم نزعاته الأخذ بالثأر وحق الدم.
لقد دعا الله إلى العفو، لا للتغاضي عما يقترفه العبد من ذنب لعله يعظم فلا يستحق الشفقة في فضاعته، وإنما لترك الباب مفتوحا على مصراعيه لهذا المذنب في حق غيره وفي حق نفسه أيضا للعودة لله والتكفير عما اقترفته يداه فالعمل على إصلاح ما أفسد في الناس وما فسد في طبعه. هذه فلسفة الإسلام وروحه السنية : عمل بلا هوادة لتزكية النفس، طالما فيها رمق، إذ لا يقبض الروح إلا خالقها.
إن الإسلام دعوة مغفرة ورحمة أساسا، وهما لب لبابه، فكيف نتسمك بحرف من نصه جاء متناغما مع متطلبات عصر طغت فيه نزعة القصاص ونترك روح الدين السنية وهي تمجّد الله الغفور الرحيم؟
إن الإسلام سلام، وأعظم ما يمثله هو الأخذ بما يدعو الله إليه من ترك القصاص له وحده ممن يسيء إلينا، حتى وإن أمعن في ذلك وأسرف؛ هذا خاصة في عصر أصبحت فيه عقوبة الإعدام من أبشع مظاهر توحش الدول، حيث هي أبدا السلاح الفتاك بين أيدي المتغطرسين من الحكام.
ثم بعد هذا، هل يقبض الأرواح غير الله؟ متى كان قتل الناس باسم العدل والله وهو أعدل الناس ترك لهم إلى آخر رمق فيهم حق التوبة والإنابة للتكفير عن ذنوبهم، بما فيها أبشعها وأعظمها شناعة؟
إن الساسة اليوم بالمغرب الأقصى وغدا بتونس لهم الفرصة السانحة للتعبير صراحة وبكل مسؤولية عن صدق إسلامهم وصدق تعلقكم بالديمقراطية والعدل والحضارة، وذلك بإبطال عقوبة الإعدام. فلا حق بتاتا للعبد أن يحاكي خالقه فيقبص عوضه أنفس الناس، وإن أسرفوا، وإن أفسدوا؛ فهل يعفو الله ولا يعفو العبد؟ وهل يترك الله الباب متوحا للتوبة ويغلقه عبده باسم حقه في القصاص والانتقام؟
إنها بحق لنقمة اليوم في التمادي بالعمل بقانون القصاص لأنه كان من العدل في زمن ولى وانقضى فأصبح في زمننا هذا من القوانين المجحفة، شأنه في ذلك شأن قانون الغاب.
نعم، لم يمنع الله قط عبده من المطالبة بحقه في الثأر زمن كانت السن بالسن، والعين بالعين؛ ولكن هل الجروحات قصاص في كل وقت وزمان؟ هل ملك اليمين لهذا الزمن أو قطع اليد؟
يا أهل العدل والإحسان بالمغرب الشقيق، إن واجبكم اليوم لهو في الذب عن الدين الحق ورفع رايته عاليا في سماء التشكيك في سماحته وروعة تعاليمه الإنسانية وعظمة روحانيته؛ وهذا يقتضي منكم أكثر من غيركم، وأنتم الأغلبية، أخذ القرار الذي يفرضه عليكم الفهم الصحيح لدين الرحمة، أي بأنه لا تجوز عقوبة الإعدام ببلادكم.
إنكم بعملكم التاريخي هذا لتقدّمون أعظم الخدمة لدينكم ولبلدكم ولحزبكم بالريادة في ربرع مغربنا بخصوص أمر لا مناص من حدوثه عاجلا أم آجلا لأنه مما قدره الله، فلا مناص من قدره.
أما لحزبكم، فلأنكم تمكنوه لا محالة بمثل هذه الثورة القانونية لا في المغرب فقط بل في العالم أجمع، خاصة العربي والإسلامي، من مكان الصدارة في الأذهان فيدخل العديد من القلوب لأنه يدلل بذلك على حسن قراءته لدينه العلمي التعاليم، العالمي النزعة، الإنساني الروح والمقاصد.
وأما لبلدكم ولدينكم، فذلك بأن تعطوا للعالم الإسلامي، وقد داست فيه داعش كل الضوابط الأخلاقية، مفهوم الإسلام الصحيح لقداسة الحياة، إذ العبرة منها هي أنه لا تجوز عقوبة الإعدام. بذلك تبرهنوا للعالم أجمع خدمة بلدكم حقا الإسلام كدين إنساني، هو دين زمانه ودين البشرية كلها.
إننا بإبقاء عقوبة الإعدام بمنظومتنا القضائية، حتى وإن لم نعمل بها، لنفعل فعل ذلك المتكبر الكافر بالله الذي قال لنبي الله :«أنا أحي وأميت»؛ فهل نتطاول نحن مثله على الله، وهو وحده الذي يحي ويميت، فتنمادى في عوارنا وجهلنا أن عقوبة الإعدام هي من أخص خصائص الله تعالى؟
ذلك لأن الحياة مقدّسة، فلا يجوز المساس بحق الحياة لأي سبب، وإلا تجاوز العبد حدّه وتطاول على خالقه، خاصة وقد تغيرت الأذهان وعاد حق القصاص إلى الله لتغيّر حالة المجتمع وعقليته، فأصبح منع عقوبة الإعدام المؤشر الكبار على نمو هذه الذهنية وأخذ العبد بأسباب الحضارة والديمقراطية مع التعلق بروحانيته.
إنكم بمنع عقوبة الاعدام لا تفعلون ذلك فقط تحت هاجس ضميركم، بل أنتم تفعلونه أيضا تحت نظر الله، إذ تجاهدون لأجل إعلاء راية الإسلام بهذه الربوع حتى لا تطمس تعاليمه السمحة فيكون الدين القيم بها، دين السلام على الدوام، دين الإنسانية جمعاء في طموحها للأفضل.
فالطموح للأمثل اليوم هو في الأخذ بما ثبت من علامات الديمقراطية الوضاءة وثوابت الحضارة الإنسانية في تجلياتها العالمية باحترامها حقوق الإنسان التي منها حقه المقدس في الحياة، وذلك في جميع الظروف.
فلنكن على هذا الموعد مع التاريخ بالعمل برعاية الله الرحمان الرحيم وهو ينتظر منا نصرة دينه، دين الرحمة والتسامح، بإبطال مثل هذا الإلحادالمنكر به، إذ يقضي بمحاكاته في قبض الأرواح.
هداكم الله إلى محجته وسددكم للرأي الذي يقضي على ما يرمز للإلحاد بقدرته الواحدة الوحيدة على قبض روح خلقه وحده لا شريك له، فتعدمون عقوبة الإعدام، هذا الكفر بالله !
(انتهى الجزء الأول)
عقوبة الإعدام في تونس والمغرب من الزاوية الإسلاميةَ
(2/ 2 )
(2/ 2 )
بعد الجزء الأول الذي بينا فيه أن عقوبة الإعدام لا تحترم الإسلام بقدر ما هي تشوّه تعاليمه، إذ قبض الروح عوض الله تعالى يمكن أن يُعد من الكفر به، هذه المقالة الثانية في الغرض وهي تدعو لتعويض أروقة الموت بأماكن يمكن للإسلام أن يجعل منها أروقة للروحانيات وذلك في نطاق مواكبة وتسريع توبة المجرمين والعمل على أن تكون صادقة من خلال العودة للدين في سماحته وروعة تعاليمه الإنسانية.
في منع عقوبة الإعدام
(الجزء الثاني)
من أروقة الموت إلى أروقة الروحانيات
لا شك أن العديد من الناس في بلاد الإسلام يمانعون في رفع عقوبة الإعدام رغم أن منع هذه العقوبة من المؤشرات على التطور الديمقراطي، وذلك لاعتقادهم أن هذا يخالف الدين الإسلامي وأخلاقياته. وهو من الخطأ الفاحش لأنه يجعل من دين الرحمة الذي هو إسلامنا دين النقمة وطغيان العقاب على التوبة والغفران.
فالإسلام جاء رحمة للناس ودعا إليها. لذا، حدد الحالات التي تقتضي عقوبة الإعدام تحديدا متشددا، داعيا دوما إلى العفو والمغفرة لأصحاب الحق في القصاص.
ولا شك في أن النزعة الأساسية في دين الإسلام هي الدعوة إلى العفو والمغفرة رغم تأكيده على القصاص وحق الأخذ به. فذلك من باب تأقلم ديننا مع طباع البشر وما كان عاديا في المجتمع الذي ظهر فيه، حيث كانت قاعدة السن بالسن وحق القصاص لا محيد عنهما في ذلك الزمان.
ورغم أن العصر كان عصر ظلمة من حيث قيم المحبة والرحمة، فلقد جاء الإسلام داعيا إليها، حاثا على الإتيان بها دون تردد، مثيبا عليها، مؤكدا على الجزاء العظيم الذي ينجر لمن يرحم فيعفو ويتنازل عن حقه في الثأر.
ذلك لأن انتهاج سبيل العفو هو من الجهاد الأكبر الذي يدعو له الإسلام، أي جهاد النفس الأمارة بالسوء؛ وأي مجاهدة أعتى من مجاهدة النفس ونوازعها، خاصة تلك التي تدفع بنا للانتقام ممن أساء إلينا عوض محاولة ترويضها على قبول الإساءة والرد عليها بالحسنة؟ وأي حسنة أكبر من العفو عمن أتى بالإساءة العظمى، ألا وهي قتل النفس؟ بل لعلها أفضل ما يأتيه الإنسان في محاولة العمل بما يدعوه إليه الله من التشبّه به في العفو والمغفرة عند المقدرة ونبذ كل ما فيه من نوازع تأخذ به بعيدا كل البعد عن العواطف النبيلة والأحاسيس الطيّبة.
فهل هناك أعظم من العفو على الظالم من طرف المظلوم صاحب الحق في القصاص؟ وهل هناك من هذا المظلوم أكبر دليل على استحقاقه الثواب الجزيل لصفاء نفسه وتعاليه على كل ما اختصت به النفس البشرية من وضاعة بتصرّفه كما علّمه ربه، أي بالتدليل على أنه يتمرّن بحق على أن يكون رحمانا رحيما كخالقه؟
لا شك أن مثل هذا التصرف من المؤمن، الذي يتنازل عن حقه في الانتقام لأجل التمسك أكثر وأشد بقيم دينه، لهو أكبر دليل على تشبّعه بأخلاقية الإسلام العالية وسماحة حكمته ونبل تصريفه لعلاقة البشر بعضهم ببعض.
هذا من ناحية المظلوم. أما من ناحية الظالم لنفسه ولغيره، فالعفو من شأنه أن يهز فيه هزة تجعل ضميره يستيقظ من غفلته ويفيق من غفوته، فيعترف بفظاعة ذنبه ويتوب إلى ربه ويعتذر إلى من أذنب في حقه وأساء إليه. أفليس العفو هنا مظنة لإعادة المذنب إلى حضيرة الإسلام التي تركها بفعله الشنيع والتي لا فرصة له ولا حــظ في العودة إليها بدون البقاء على قيد الحياة للتوبة؛ وبابها على الدوام لا يغلق في ديننا؟
ولعله لا يتوب ويمضي على عنجهيته؛ فهل نسارع في قتله وتنفيذ القصاص فيه فنسدي إليه هكذا خير خدمة بأن نمكنه من الفرار من وخز الضمير، وهو بحق من عذاب الجحيم عندما يستيقظ؟ فما من شك أن الموت أهون من عذاب الضمير الحي!
ولا شك أيضا أن مثل هذا العذاب يكون أشد وقعا على المذنب إذا عملنا على إفاقة السريرة النائمة فيه وإحياء الذمة الميّتة عنده بمساعدة هذا المذنب على رياضة النفس والعمل على تزكيتها بالعودة إلى ديننا الحنيف وتعاليمه.
فنحن عندما ندعو إلى منع عقوبة الإعدام ببلاد الإسلام نهدف في نفس الوقت إلى أن تنقلب أروقة الموت، التي ينتظر فيها المحكوم عليهم بالإعدام الخلاص من عذاب الانتظار أو ربما استفاقة الشعور، إلى أروقة للروحانيات تتكفل الدولة فيها بإعطاء المحكوم عليهم بالسجن المؤبد الغذاء الروحي الذي ينقصهم وكان سببا في ما أقدموا عليه، وذلك مما من شأنه أن يعود بهم إلى ظلال إسلامنا الوارفة وروحانيته النبيلة.
هكذا نعمل بما أوصانا به ديننا من الحث على الحسنى والتشجيع على انتهاج محجة الدين القيم بالاغتراف من منابعه التي لا تفنى. وأن يكون ذلك مع من فقد كل شيء في الدنيا بعمله الشنيع لهو من الجهاد في سبيل الله، إذ نسهر بهذا على ألا يفقد إمكانية التوبة، أي أفضل ما من شأنه أن يعيد له الاعتبار باسترجاع إنسانيته. بهذا، يستحق عفو من أساء إليه وعفو ربّه؛ وفي نفس الوقت، يصير من جديد آدميا؛ كل ذلك بفضل ديننا، دين الرحمة والغفران.
بهذه الصفة، بفضل منعنا لعقوبة الإعدام، نكون في مصاف الدول المتحضرة التي تحجرّ مثل هذه العقوبة ونبيّن في الآن نفسه أننا أوفياء لديننا في دعوته إلى مكارم الأخلاق والعمل دوما على ابتغاء المعروف والحسنى على الدوام.
فهل في ذلك أفضل من التدليل على أننا نعمل لتلك الغاية سواء بالعفو والمغفرة عندما نُظلم، مع قدرتنا على استيفاء حقنا، وبمجاهدة النفس أو المساعدة على ذلك لإحياء الضمير والمرور من وخزه إلى تزكية النفس بالعودة إلى السبيل القويم، سبيل الحنيفية المسلمة؟
إنها لتذكرة لمن يمانع خطأ من ساستنا في إبطال عقوبة الإعدام بالمغرب الأقصى وبتونس؛ فهم بذلك لا يخدمون حقا الإسلام ودعوته، بل يتصرّفون تماما على عكس ما دعا إليه وحث عليه ديننا. فلتكن هذه المقالة تذكرة لمن يذّكر!
انتهى الجزء الثاني والأخير
نشرت في جزءين على موقع أخبر.كم تحت عنوان :
عقوبة الإعدام في تونس والمغرب من الزاوية الإسلامية