أجراس حرب المثلية :
إن أجراس حرب المثلية لتدق بقوة منذ مدة ببلاد الإسلام بدءا بربوع الأمازيغ والعرب، رافعة راية حقوق الإنسان؛ وهي في ذلك، وإن لم تصرح به علانية، تعمل على إكساب المسلم حقه في حياة جنسية كاملة لا تنغصها نظرة متزمتة ليست من الإسلام في شيء، إذ هي من رواسب الإسرائيليات فيه عبر التاريخ.
ذلك أنه لما كانت شمس الإسلام ساطعة على العالم، كان المسلم، تماما كالمواطن الغربي اليوم، ينعم بحقوقه كاملة بما في ذلك حقه المشروع في حياته الجنسية الخصوصية؛ فكان اللواط أو المثلية منتشرا إلى حد التغني به في ما سُمي بالمذكّرات؛ ولم يكن هذا فقط من طرف الشعراء والعامة، بل وأيضا الخاصة بما فيهم فقهاء أجلة!
لا فائدة هنا في ذكر نمط الحياة المترف في عهد الخلافة العباسية وقد أطنب في ذلك التوحيدي وغيره؛ لنبيّن فقط أن الجنس الشاذ كان معروفا حتى في عهد الرسول الذي كان يسمح لشاذ خنثى دخول بيته على حريمه، مما يبين مدى تسامح أخلاقه وقبوله بهذه الفطرة في بعض البشر، بما أن الإسلام الصحيح لا يمنعها ولا السنة الثابتة، إذ لا حكم في الموضوع بالقرآن ولا بحديث مما رواه أصح الصحاح، البخاري ومسلم.
لماذا إذن هذا التنكر الذي نراه اليوم لما كان بدون أدنى شك حداثة إسلامية سبقت بكثير الحداثة الغربية في ميدان الجنس؟ كيف انقلبت الأمور رأسا على عقب، فأصبح الإسلام ظلاميا في موضوع حقوق المثلي المشروعة بعد أن كان تنويريا، فإذا بتعاليمه تمنع الفطرة البشرية المثلية خلافا لليهودية والمسيحية بالغرب، بينما العكس هو الصحيح، وقد ثبت ذلك علميا وفقهيا اليوم، ودللت عليه كتب ومقالات عدة؟
الخطية الأصلية للجمعيات المثلية :
لعل السبب الأساس هو ما أسِمه بالخطية الأصلية للجمعيات المثلية الناشطة في الميدان بالوطن العربي وبلاد الإسلام، إذ تناضل في منظور غربي بحت لا من منطلق متجذر في الثقافة العربية الإسلامية.
لذا، وكما لنا في الدين اليهودي والمسيحي خطية أصلية، نحن نرى للجمعيات المناهضة لكراهة المثلية خطية مماثلة تتمثل في السعي للحصول على حقوقها المشروعة بسلاح أخرق لا ينفع، بل يضر كثيرا، إذ هو يستفز، لا فقط أهل الدين، سواء كانوا متزمتين أو معتدلين، بل عموم الشعب خاصة، وهو المتمسك بتقالديه وأخلاقه في فهم للإسلام كنمط ثقافي في الحياة أكبر منه كشعائر وطقوس.
فهذه هي حال الإسلام المغاربي الذي حفظته صوفيته من التزمت وقد سقط فيه شرق تهافت في الدين فغوى. نحن نجد بالمغرب الكبير العديد ممن لا يصلّي ولا يعتبر نفسه متدينا يتمسك شديد التمسك بما يراه - وله كامل الحق في ذلك - هذا الجزء الذي لا يتجزأ من شخصيته وذاته، ألا وهو الإسلام. لذلك تراه يناهض المثلية، لا لأنه يرفضها في ذاتها كحق شخصي وحرية بشرية ثابتة، حتى في الإسلام، بل لأنها تبدو له مخالفة للدين كما يحدثه عنه أهل التزمت مغالطة وكما تدلل عليه تصرفات الجمعيات في علمانية من البعض تذهب بها إلى حد الهلوسة.
ولا شك أن ما يؤكد للعامة هذا التحدي، بل الكراهة للإسلام، هو الإحجام عن التذكير من طرف الجمعيات بأن الإسلام ما حرم قط المثلية وأنه لا يرفضها كفطرة في بعض البشر خلقهم الله كما هم. فالصوفية مثلا، وهي إسلام المغرب الأمازيغي العربي والإسلام الصحيح طرا، لا ترى أي حرج في المثلية؛ بل كان العديد من الأولياء منهم، كعلي ابن حمدوس بالمملكة المغربية؛ وقد قيل فيهم أنهم عرائس الله!
الثابت اليوم أن ما يعاب على الجمعيات وحركات المجتمع المدني في بلاد الإسلام يتمثل أساسا في مطالبتها بإبطال القوانين الجائرة التي تدين المثلية كتكريس منها لفكر غربي يريد تقنين الجنس على أنماط غريبة عن المجتمعات الإسلامية. وما يؤكد للعموم هذا أن منظمات المجتمع المدني تتعلل فقط في طلبها المحق بالقوانين الوضعية، مثل الدستور الجديد بالمغرب وبتونس، والمعاهدات الدولية، كما هو الحال بها أيضا وبالجزائر.
طبعا، هذا من حقها وهي محقة في الدعوة له؛ إلا أنها في نفس الوقت تتجاهل ضرورة العودة للمرجع الرئيس في هذا الميدان، وذلك حتى من الزواية القانونية الوضعية، ألا وهو الإشارة إلى أن الإسلام ليس ضد المثلية بتاتا؛ وفي هذا الغلط الكبار منها. فالدستور بالبلاد العربية الإسلامية، بما فيها المغرب وتونس، يفرض الدين كمرجعية، والإتفاقيات العالمية تعترف بالخصوصيات الثقافية، ومنها الدينية.
نعم، لا شك أن دعوى الجمعيات فيها بعض الشيء من الوجاهة عند مطالبتها بالتأقلم مع الوضع القانوني لدولنا وفي أحقية إبطال القوانين الجائرة والظالمة للمثليين الأبرياء؛ إلا أنها إن كانت مخالفة لحقوق الإنسان، فهي أيضا أولا وبدون منازع مناقضة لحقوق المسلم كما بيّنها دين القيمة، إضافة للطبيعة البشرية التي جاء الدين الإسلامي متناغما معها، بما أنه دين الفطرة.
هذا ما لا تتجرأ الجميعيات على قوله إلى اليوم فيزيد العامة نفورا من مقولتها؛ فإذا مطلبها المشروع يصبح بعيد المنال لأنه في رأي الأغلبية الشعبية مجرد دعوى غربية تناهض ثوابت المجتمع. بذلك تنقض الجمعيات بنفسها غزلها بهذه الخطية الأصلية.
فهل من المعقول أن نفرض على الشعب ما يرفضه وإن كان ذلك من الخور من جانبه ؟ أليس الامتناع عن التذكير الضروري بأن الإسلام لا يعادي المثلية أبدا في قراءة صحيحة لتعاليمه من الخور الأكبر، بل هو من تصرفات النوكى الفظيع الذي يُفسد ما يريد إصلاحه !
فهل تسعى حقا الجمعيات الناشطة في حقل مناهضة كراهة المثلية لرفع الظلم المسلط على الأبرياء أم أنها تتخذ من ذلك تعلة للتجارة بالقضية، تماما كما يفعله رجال الدين من أهل التزمت ؟
السلاح الفعال في حرب المثلية :
إن الحرب القائمة اليوم على قدم وساق بالربوع المغاربية من أجل إبطال تجريم المثلية لهي حرب قديمة تليدة، لا تبان أحداثها إلا عندما تطفو على سطع المجتمع بعض القضايا. ذلك لأن المثلية متواجدة في الشعب ويعيشها دون أدنى مشكل، ولكن في الخفاء والتخفي التام. ونحن نعلم مدى تغلغل التقية في الثقافة الشعبية.
البديهي اليوم هو أن زمننا يرفع أكثر من أي حقبة تاريخية مضت كل طاريء طارف، خاصة في مواضيع حساسة لم يعد من الممكن الزج بها في خانة المسكوت عنه أو المضنون به على غير أهله، هذه الميزات النشاز من العادات في ثقافتنا زمن ما بعد الحداثة.
لقد أصبح لثقافتنا العربية الإسلامية العديد من أصوات الحق ممن يساند القضية المثلية دون أن يكرن ضرورة من المعنيين بها في حياه الشخصية؛ هؤلاء يلومون اليوم أكثر من أي وقت مضى الجمعيات على استراتيجيتها الخرقاء وهضمها لحق الإسلام باسم قضية تهضم في الآن نفسه حقها. ذلك لأنها تثير مشكل المثلية في مجتمعاتنا بطريقة استفزازية لمشاعر عامة شعب متعلق بروحينياته أكثر منها بشعائر دينه في زمن فيه العودة ثابتة للروحانيات لطغيان المادة فيه.
إن العديد من هذه الأصوات النزيهة ترى، ولا تبعد في ذلك بتاتا عن الحق، أن النضال من أجل إبطال كراهة المثلية في ربوعنا بدون جدوى لعدم استعماله السلاح الأنسب؛ بل تداعياته كارثية، لا خير فيها إذ تدفع أهل التزمت إلى تسلط أكبر على الحريات لاعتقادهم في ضرورة التصدي لما يرونه هجمة صليبية جديدة على أعز ما بقي لهم، دينهم وأخلاقهم.
لذلك تعددت الأحكام المتشددة أخيرا بربوعنا؛ ولا شك أن الحكم الأخير بتونس الصادر بمدينة القيروان لخير دليل على ذلك بما أن القاضي حكم بأقصى العقوبة، بل واستعمل فصلا لم يستعمله القضاء منذ زم بعيد، وهو الحكم الإضافي بالإبعاد عن المدينة بعد قضاء مدة السجن.
إن مجرد الحس السليم، تماما كما هو الحال في الإستراتيجية الحربية، يقتضي استعمال السلاح الفعال عندما نعلن الحرب. فهل من المعقول أن نتقدم لمجابهة مدفعية بسلاح أبيض؟ رغم ذلك، هذه هي حال المجتمع المدني المنافح عن حق المثلي رغم توفر السلاح المناسب؛ وهو التدليل على أن الدين الإسلامي لا يحرّم ولا يجرّم المثلية.
هذا إضافة لما أثبته العلم منذ أمد بعيد أن انعدام الجنس وممارسته في الحياة لهو مما يسبب الأمراض النفسية ويمنع النمو العادي للإنسان فيهدم شخصيته. لذا نرى تعدد حالات الهلوسة والانفصام والعصاب وغيرها من الأمراض النفسية عندنا، وهي كلها متأتية من انعدام ممارسة الجنس أو انعدام ممارسته بدون خوف ورهبة، في السر والخفاء ومع وخز الضمير.
أقول هذا بصفة عامة لأن الجنس العربي كما نبينه لاحقا تمامي وشمولي، أي أنه لا يفرّق بين ما فرّق بينه جزافا الغرب، إذ في بلادنا ليس تعاطي الجنس مع المثيل من المثلية ضرورة، بل هو من الأخذ بالجنس ككل، لا فرق فيه بين الذكر والأنثى، تماما كما هو الحال في الطبيعة حيث تلك هي القاعدة.
الجنس عند العرب والأمازيغ :
إن الجنس في الأرضين العربية الأمازيغية، بل والإفريقية عامة، لا يتّفق مع التصنيفات الغربية؛ فما يمكن قوله اليوم هو أن اشتهاء المماثل عندهم، قبل وبعد الإسلام، لم يكن يدخل بأي حال من الحالات في خانة الجنوسة أو الجنسية المثلية أي اشتهاء المماثل homsexualité. مع العلم أن مثل هذا التعريف الغربي غير العربي لم يكن متواجدا البتة بالغرب نفسه قبل ظهور المسيحية واليهودية، بما أننا عرفناه عند الإغريق. فالكلمة الآنفة الذكر لم تظهر باللغة الفرنسية إلا في سنة 1891، والتصنيف ذاته في الغرب مستحدث لا يعود في القدم إلى ما قبل نهاية القرن التاسع عشر كما بينته أعمال فوكو.
وهذا يعني عدم اهتمام البشر سابقا بالنزعة التي ميزت حضارة الغرب في التصنيف والتجزئة، فلم يكونوا يعيرون أهمية قصوى إلى تصنيف ميولاتهم الجنسية، إذ كانوا يتصرفون على السليقة، حسب طبيعتهم، رغم ما جاءت به اليهودية والمسيحية من وسم للمثلية والتنديد بها كرذيلة خلافا للإسلام الصحيح، بما أن ديننا، كما نذكر به لاحقا، لم يناقض لا الطبيعة البشرية - إذ هو دين الفطرة - ولا الطبيعة العربية في أخذها بكل أنواع الجنس دون مركبات.
إن كتب الأدب العربية تزخر بالشيء الوافر مما يدلل على أنه لا رذيلة في تعاطي المثلية قبل دخول الإسرائيليات للإسلام؛ وقد عُرف هذا الصنف الكبير من الأدب العربي بالمذكِرات وهو التغني بالذكر. ولعل اشتهار أبا نواس كأفضل من تغنى بالميولات الممثالة في العالم، إضافة لوجود العديد من الفقهاء الأجلاء الذين لم يترددوا في التغني بالمذكر في أشعارهم، يبين اختلاف النظرة العربية للجنس، هذه النظرة التي غيّرتها العادات اليهودية والمسيحية.
فما من بد اليوم قطع العلاقة الوثيقة التي اختلقها البعض من المتزمتين باسم الدين بين الأخلاق والجنس، بينما ليس لها في ديننا أي سند وجيه. فالإسلام من الأديان الأشد تفتحا على حرية الفرد، بما فيها حرية الممارسة الجنسية.
علينا إذن بنبذ العادات التي تحكم اليوم مجتمعاتنا والتي ليس لها من الإسلام إلا الإسم، بما أنها متأتية من الأخلاقيات اليهودية والمسيحية التي تسمى بالإسرائيليات والتي تغلغت في حياة العربي المسلم حتى غيرت ما كان لديه من عادات سليمة.
إن تقدم مجتمعاتنا ولا شك مرتهن اليوم بإيقاف هذه الحرب العشواء التي نشها على أنفسنا بمنعنا شبابنا من من تعاطي أبسط ما يميز الحياة، ألا وهو الجنس بكل حرية وطلاقة؛ فلا ديننا يمنع ذلك كما تمنعه اليهودية والمسيحية ولا الأخلاق تحد منه ما دام احترام الآخر مضمون.
ومثل هذا الاحترام مضمون ولا شك ما دام تعاطي الجنس لا مانع له، فالمنع هو الذي يؤدي إلا حالات الكبت الذي يأتي بالاعتداءات على حرية الغير ومنها الاغتصاب وغير ذلك مما تقاسيه مجتمعاتنا باسم ضرورة احترام الدين وهي تهدم الدين والأخلاق بقوانين زجرية غير أخلاقية لأنها غير إسلامية.
إن احترام الأخلاق اليوم هو في احترام حرية البشر في تعاطي الجنس، إذ به قوام الحياة وفي تعاطيه دون رهبة أو خوف الحياة العادية، بله الصحية.
الجنس في الشارع المغاربي :
لقد أفرزت قوانينا الجزرية تصرفات شعبية تبيّن علانية وضمنيا أن تلك القوانين لا هم لها إلا نقض ما تدعي الحفاط عليه من قيم إذ دورها أساسا الحفاظ على مصالح الساسة.
ومن الطبيعي أن التصرفات اليومية لأبناء الشعب تحتاط شديد الاحتياط من تلك القوانين رغم مشاكستها لها، فذلك من باب حكمتها في ضرورة الحفاظ على الذات من الشبهات حتى لا تسقط علنا في ما لا تقبله الأخلاق الرسمية وتضمن حرية الأخذ بها سرا أو على الأقل دون جلبة مما يلفت أنظار العسس.
لهذا استنبط الشارع العربي جنسا حسيا فيه الإغلام والشبيقة Érotisme أكثر إمتاعا من التصرف الإباحي، بله العملية الجنسية البحتة. والشيء من مأتاه لا يُستغرب، إذ لا ينعدم مثل هذا الإبداع في دين لا حياء فيه ومن أهل ثقافة أنتجت ألف ليلة وليلة وغيرها من الكتب، حتى الفقهية، التي تعد اليوم من الإباحة الصرفة.
هذا يُؤكد ما عُرفت به الثقافة العربية من قيمة الكمون وفضيلة التخفي أو ما يُعرف فقهيا بالتقية، كما سبق أن ألمعنا إليه.
وقد عرّفت في أبحاثي العلمية هذه الخاصية بمثل المشربية الذي من شأنه أن ينقلب إلى عقدة، مستلهما من العمران العربي وبناياته ما له علاقة بنفسية العربي. ومدار هذا المثل المركب هو أن العربي لا يكشف بداية عن نفسه وذلك أساسا لأجل حرية التمتع بالرؤية قبل إمتاع الآخر برؤية مماثلة بالبروز إليه على أفضل هيأة. أما انقلابه إلى عقدة فيكون بجعل الشبقي يصبح، دون أن ينوي ذلك ضرورة، المتهرب من الآخر، المتخفي عنه بجميع الوسائل، حتى المخاتلة منها.
هذا هو الأساس اللاشعوري الذي يؤدي إلى العنف المعنوي والمادي كما نراه مع الحجاب والبرقع والنقاب اليوم؛ وكلها ليست أبدا من العادات العربية، بل مما أفرزته المركبات والعقد بتأثير من أخلاقيات لاعربية ولا إسلامية بتاتا.
فلم يعد اليوم أي شك أن قوانيننا المتسربلة بدون حياء بقناع الأخلاق والقيم ليس لها أي قاعدة أخلاقية، إذ هي لاأخلاقية في ادعائها تمثيل قيم المجتمع والدين. ذلك لأن المجتمع له قراءة أخرى للملة، مغايرة تماما لقراءة ساسته، إذ أخلاقية الشارع أقرب إلى روح الدين ومقاصده من النصوص القانونية. فهذه لا تسعى إلا مراقبة المجتمع وإخضاعه للحكام الذين يحتكرون حرية فهم الدين وأخلاقيته كما يحلو لهم في دين لا كنيسة فيه ولا مرجعية كهنوتية.
إن تصرفات العامة أساسا أخلاقية، رغم ما يحلو للخاصة من نعتها بالدنس، لأنها أولا لا تدين للظاهرة الأخلاقية غير الصحيحة واقعيا التي يتقمصها أهل الأمر والنهي بسطوة القانون وشوكة الحاكم. فهي، في حيويتها هذه المدنسة زعما، أقرب طهرا من الفهم الصحيح للأخلاق الدينية المرجعية المؤسسة للأخلاق على مبدأ العفوية مع سلامة النية وبراءة العلاقة بالآخر بلا زيف ولا مخادعة.
وهي، ثانيا، جد أخلاقية بهذه السليقة، إذ تتماهى مع نمط حياتها ومقتضيات عيشها رغم ضنكها، دون نكران ذاتها وما تلزمها طبيعتها البشرية من تأقلم لدوام العيش. فهل من حق الساسة فقط الاستمتاع بدنياهم دون غيرهم؟ أليس الكل بشر، من لحم ودم وأحاسيس وغرائز؟
لا شك أن في توصل الناشئة المغاربية للحياة بشيء من الحرية رغم الكبت والحرمان والظلم المسلط عليها الدليل القاطع على قدرتها غدا على قلب الأمور المنكوسة اليوم على رؤوسها لإعادتها على أقدامها. ولا غرابة في هذا بما أننا في عهد الجماهير؛ فلا يعدم الجمهور من حيلة، خاصة وقد أظلنا العالم باخوس أو ديونيزوس، إله القصف والمجون، إذ هو الرمز لما بعد الحداثة، زمننا الراهن، في علم الإجتماع الفهيم.
في هذا العهد الماجن، غربيا كان أو عربيا، لا أخلاق للأخلاقيات كما عرفناها وعهدناها، أي تلك التي لا تقوم إلا بحد سلطة الحاكم؛ ذلك لأن الجسم الاجتماعي يعي أكثر من أي وقت مضى قوته، مما يجعله أحث من قبل في الأخذ بها، وأمتن من أي وقت مضى في الدفاع عن حقيقته البشرية التي يعرفها جيد المعرفة لمعاناته اليومية لها؛ لذا، فهو لم يعد يعير أي أهمية لمقولة من يدعي معرفتها خيرا منه من أرباب الدين والسياسة، مذكرا بمقولة الشاعر أن من يعلم الشيء تغيب عنه أشياء إذ المعرفة أوسع وليس العالم رلا الجاهل الذي يتعلم أب الدهر؛ وهل أفضل من مدرسة الحياة والشارع؟
إن أخلاق الشارع عندنا التي تبدو غير أخلاقية هي الأخلاق أساسا، لا لشيء إلا لكونها غير جامدة جمود الجلمود؛ فالشذوذ الأخلاقي اليوم ليس شذوذا إلا لخروجه عن المألوف المعتاد رغم أن هذا ليس هو الصحيح من الأخلاق؛ أما غدا، فيكون ما شذ اليوم القاعدة بعد أن يصبح القانون الحالي الجائر من الشذوذ والفساد لأنه ما خدم إلا مصالح ضيقة لساسة لا تعرف مصالح عموم الشعب رغم أنها مبدئيا في رعايتها .
الجنس في الإسلام :
إن كتب الأدب بل الفقه تزخر بأمثلة عدة من الجنس الإسلامي المتحرر وذلك في كل العصور الإسلامية، خاصة عند ازدهار الحضارة الإسلامية، قبل أن تدخل الإمبريالية الغربية دار الإسلام بتزمتها اليهودي المسيحي. وها هي أخلاقياتها باقية إلى اليوم في قوانيننا.
الجنس في الإسلام من حريات المؤمن المضمونة شرعا، إذ الدين القيم يقدس الذات البشرية وحرية الفرد أيما تقديس، وهو في علميته يعترف بالجنس كمكون أساسي لنفسية الإنسان فيحترم تعاطيه، إلى حد أنه لم يمنعه مع الحج حتى فعل ذلك الخليفة عمر الذي منع متعة الحج وقد قبل الرسول بها وأقرها خليفته الأول.
لقد حان الوقت لأن نستيقظ من سباتنا ونخلّص ديننا من كل الإسرائيليات التي داخلته، ومنها خاصة ما تعلق بالجنس، إذ لا تقدم للمسلمين ما دامت علاقتهم بالجنس على الحالة التي هي عليه اليوم، أي حالة هوس ومرض.
لا بد لنا من تحرير الجنس في بلادنا، بما أن الإسلام لا يحرم الجنس ولا يمنعه، ففي ذلك الخير العميم على نفسيتنا وخاصة نفسية شبابنا المقهور اليوم جنسيا، فإذا به ينقلب متوحشا كما نرى ذلك في داعش مثلا.
لقد ولّى الزمن الذي كان يُرفض فيه لمن لا إمكانات له أن يحيا طبيعته كما يحياها من له كل الإمتيازات لذلك؛ فمقاومة نزعة القصف الشعبية لم تعد تعني أي شئ، لأن الشعب اليوم على شاكلة ساسته الذين لا يتورعون عن مداومة العربدة بلا حياء. فلم لا يفعل الشباب ذلك ، وفطرتهم تقتضيه وسنهم يفرضه عليهم ؟ خاصة وأنهم يؤدونه بحس الفنان المبدع وشاعريته ! تلك هي شاعرية شوارعنا وزقاقها التي لا تبدو إلا للعيون غير الحاملة لغمامة الدغمائية، أيا كان نوعها.
وليست هي مبتدعة في ذلك إذ كانت تلك حال شبيبة الإسلام في عهوده النيرة. فمما تذكره كتب التراث هذه المقولة المشهورة لشاب أتى بغداد في أوج حضارتها رادا على نصيحة أمه في الأخذ بالدين لضمان مستقبل له، أن الأست أضمن وأسهل له من الفقه في حياة هانئة سعيدة.
إن ما يبدو عند البعض في شعوبنا من هشاشة أخلاقية لهو حقيقة من القوة بمكان، فهو يسمح لأهل الخصاصة من إمتاع حياتهم وإيناسها بما يبتكرونه في تصرفات كلها عبقرية لتأصلها بواقعهم؛ وإنها لجد ذكية، علاوة على طرافتها، لما فيها من قدرة على التنصل من حبال المسؤولية الجزائية.
الأهم في هذا، وهو من الإبداع، أن ليس في كل ذلك أي فساد إذ لا إفساد فيه؛ وهبه من الفساد، فهو عندها هذا الفساد الصالح، كالميت الذي يأتي منه الحي ! فلا فساد إلا الإفساد، أي مد الجوارح على الغير، فلا فساد مع الغيرية. والغيرية أساس متخيل شعوبنا.
يتبع ...
نشرت بتصرف على موقع نفحة