كتاب في الذب عن الإسلام إلى جلالة أمير المؤمنين
سبق أن كتبت إلى أمير المؤمنين، جلالة الملك بالمغرب الأقصى، رسالة أولى أوجبها حبي لبلده العزيز واحترامي لشخصه الموقر. فكان أن ألمعت فيها، من وجهة نظري المتواضعة كباحث في علم الاجتماع، إلى ما يحيق بالدين الإسلامي من أخطار وما لجلالته، راعي الدين القيم، من بالغ الشرف في الإذن بالبعض مما تستوجبه سلامة الدين الحنيف و السهر على تنفيذه خدمة له برفع ما خاط سماحته من لبس والتباس لا يزال يعشعش في عقول المسلمين كالعنكبوت.
ثم كانت التثنية بمكتوب بيّنت فيه بعض ما يشوب ديننا من هذا المسخ الذي هو نتيجة تراكمات رسخت فيه جراء ما رسب إليه من عادات غريبة عنه، أصلها تلك الإسرائيليات التي عُدّت من الإسلام فلزمته رغم أن أهلها نبذوها في خضم اعتناقهم لمباديء الديمقراطية وحقوق الإنسان. وقد كان الإسلام سباقا إليها، فإذا هو اليوم في المؤخرة؛ بل لا يعترف أهله بها البتة وكأنه ذلك الدين - وليس بهو - الذي لا يمجّد حقوق البشر وحرياتهم!
وها أنذا أستسمح جلالتكم بالعودة إلى الموضوع ثالثا، إذ كما قلت سابقا - وما قصدت بلدي المغرب بالذات، بل كل بلاد الإسلام - بلغ السيل الزبى بما يحدث بالشرق مع ظهور خلافة مزعومة بالعراق. فمن المتحتم أن يتصدى لمثل هذا الخُلف من هيأه الله لذلك، أمير المؤمنين، في زمن كثر الأدعياء فيه وأصبح من مرق عن الدين يتزعمه، بينما لا زعيم في الإسلام إلا من عمل حقا بمبادئه التي هي أولا وآخرا السلام، سواء في المبادي أو في الروحانيات، إذ الإسلام سلام أو لا يكون، فهو إ-سلام.
إنها ساعة الجهاد الأكبر، يا أمير المؤمنين !
الجهاد اليوم معنوي أو لا يكون، لأنه الجهاد الأكبر؛ فالجهاد الأصغر ولّى وانقضى، كما انتهى عهد الهجرة؛ فلا هجرة إلا لله، وتكون دوما بالخُلق الفاضل والعمل الأفضل، فالحسنى في مكارم الأخلاق.
إن قناعتي كدارس لأوضاع مجتمعاتنا العربية الإسلامية وواقعها المرير هي أنه لا محيد اليوم عن تطوير فهمنا لديننا وتغيير قراءتنا لمبادئه السمحة وقد أكل الدهر على تأويلنا لها وشرب إلى الثمالة. فالفقه الإسلامي الذي نعيش عليه إلى يومنا هذا في العديد من جوانبه، كما أبين ذلك لاحقا، لم يعد صالحا لهذا الزمان، إذ لا يصلح الاجتهاد البشري أبديا. فلا أزلية إلا لتعاليم الدين كما جاء بها القرآن وفسرتها السنة الصحيحة. وهذا لا يُوجد في الحرف ضرورة وفي صريح النص فحسب، بل هو ابتداء وآخرا في مقاصد الشريعة؛ ولا شك أن فهم هذه المقاصد يتغير ويتطور بتغير المجتمعات وتفتق الملكات البشرية؛ فتلك سنة الحياة وقانون الله في خلقه، كما هي قوانين علم الاجتماع الثابتة.
وأملى أن يأتي هذا التغيير، إذ هو من المتحتم لا محالة، من قمة هرم السلطة حتى يتم في أفضل الظروف؛ فلم يعد الأمر في السؤال هل سيقع تطوير قراءتنا لديننا، بل السؤال الصائب هو متى يحصل ذلك وكيف هو؟ أيكون بعافية وسلامة، وهذا الأسلم الألزم، أم في أفضع الظرورف المفروضة علينا قهرا، وذلك الأنكى الأنوك؟ فعسانا لا نتورط في مثل هذه الحتمية!
لقد أقر جلالة الملك أخيرا بمملكته دستورا جديدا نبذ الكثير مما كان يشينها ويشين دينها، فحقق للإسلام فتوحات عدة يتوجب اليوم تدعيمها على أرض الواقع حتى تكون الرد الحاسم على ما يأتيه من يستغل الإسلام لأغراضه الدنياوية ناسفا صرحه من الأساس. فبمثل هذا الدستور يمكن الشروع في العمل على تنقية الأجواء وتصفية ما تعكر منها حتى الوصول إلى تزكيتعا مما طمس صفوها.
نعم، رأيي أن لجلالتك وبلدكم الدور الكبار لإنجاح مثل هذه النقلة النوعية في ديننا القيم وذلك بالأمر دون تأخير إلغاء كل ما في قوانين المغرب من أمور غريبة عن الإسلام الحق عُدت غلطا منه ففُرضت قهرا على المسلمين مغيرة قسرا من نمط حياتهم الذي أساسه التسامح وحب الآخر والتفتح على المخالف، أيا كانت نزعاته وصفاته. ذلك لأن الله رحمان رحيم؛ ولأن العلاقة في الإسلام بين العبد وخالقه مباشرة، فلا تهم شؤون الدين غير الله، إذ لا كهنة ولا كنائس في دين الإسلام! هذا الذي يميز المسلم الحق، المؤمن بكل شرائع الله، ممن يدّعي ذلك وليس له قس الإسلام ولا في الإيمان نقيرا. ولا شك أن في ذلك الشيء الكثير من معجزته من وجهة النظر العلمية.
قناعتي، يا جلالة الملك، أن إمارة المؤمنين بالمبادرة بتحيين قوانينها الوضعية تعطي الإشارة الكبّار لكل بلاد الإسلام لعدم تجاهل مثل هذه الثورة العقلية المتوجبة والقيام بها اقتداء بمثلكم الأسنى، فتكون خير نهضة للإسلام الحق وعودة وعي أكيدة لكل من فقد روح دينه في شطحات سلفية جهادية أو تكفيرية هي من الأكاذيب على الإسلام ورسالته السمحة، رسالة المحبة بلا حدود للخالق لخلقه وللمخلوق لأمثاله. بذلك تتعهد إمارة المؤمنين بشرف أداء واجبها السامي الذي لا يمكن لغيرها القيام به، ألا وهو تجديد العروة الوثقى بإحياء علوم الدين وأخلاقياته، فالزمن لا يرحم من يتقاعس عن مواكبة سيره الحثيث. وهكذا، بنصرة حاسمة له من أمير المؤمنين، يعود الإسلام مجددا إلى ما كان عليه أصلا، أي الثورة الذهنية الشاملة على كل ما يتحجر في الإنسان جراء طبيعته البهيمية ! فأليس ذاك دور الدين أبد الدهر؟
هذه ثالثة الأثافي، يا جلالة الملك
إن كتاب الله العزيز كلّية الشريعة وعمدة ملة الإسلام، والسنة مؤيدة له، راجعة في معناها إليه، مفصّلة مجمله، مبيّنة مباحثة، مفسّرة باطنه ومبسّطة موجزه. فالرجوع إليهما لا تفريع عنهما بطريق قطعي بالإجماع والقياس؛ فكان الفقه وأصوله. وقد اعتمد الفقهاء أساسا على معرفة لغة العرب، بما أن الكتب والسنة بلغة الضاد، مما جعل لطالب الشريعة العلم بلسان العرب وحذقه من أركان الاجتهاد عند عامة الأصوليين، كما بين ذلك الإمام الشافعي في رسالته.
إن الفقه الإسلامي الذي نعيش عليه إلى الآن صلح لزمانه ونفع الدين خير نفع، خاصة في فترات نكسته، إذ مكّن المسلم من التشبث بأصالته وهويته؛ إلا أنه لم يعد يصلح لزماننا. وليس هذا بالجديد؛ فبعد فترة السلف الصالح، عاش الفقة الإسلامي على قدم واحدة بما أنه لم يعرف مقاصد الشريعة وأهميتها إلا في القرن الثامن مع الإمام الشاطبي الذي جدد عندها مفهوم الدين فارتكز على رجله الثانية. وليس هذا بالغريب أيضا في دين الإسلام طالما ثبت أن ثوريته تقتضي أن يتجدد على رأس كل قرن.
وبما أن المصحف الشربف مأدبة الله كما رُوى عن الرسول الأكرم، فالدين اليوم للبشر كالقدر لا مجال للاستغناء عنها في حياتهم اليومية. والقدر، بلغة العرب، هي الإناء الذي يُطبخ فيه، سمّيت كذلك لجمعها ما فيه وإمساكه، كما يجمع الدين أواصر الأمة ويمسك بها حتى يتم طبخ تصرفات الإنسان في هذه الحياة الدنيا كأفضل ما يكون.
ديننا اليوم قدر قائمة على أثفيتين بينما هي عادة وضرورة ثلاثة حتى تستقر القدر تمام الاستقرار فيتم الطبخ على أفضل حال. والأثفية هي الحجر الذي توضع عليه القدر؛ ولعل أهم هذه الأثافي الثالثة منها، وهي حسب ما رُوي عن أبي عبيدة القطعة من الجبل يجعل إلى جانبها اثنتان فتكون القطعة متصلة بالجبل.
لقد كانت لقدر الإسلام أثفية أولى، وهو الفقه الإسلامي، أي الأساس الذي لا يقوم الدين بدونه، ثم كانت الأثفية الثانية التي جاء بها الإمام الشاطبي بكتابه الموافقات، أو التعريف بأسرار التكليف كما كان ينوي عنونته؛ فكان هذا حجر الأساس الثاني.
ولا شك أن مما جعل قدر الإسلام تستقر، سواء بأثفية واحدة أو ثنتين، هوما كان من أهل التصوف الذي عملوا بفقه الباطن على سد الشغور في فقه الظاهر والرسوم في فترة الذروة ؛ ثم أتى أهل السلفية في فترة غروب الإسلام للتذكير بالنص وقيمته، فصلح ذلك إلى أن اكتشف العلم قيمة الروح ودورها عبر اللاشعور والمتخيل.
بقيت إذا قدر الإسلام هكذا بحجرين لا ثالث لهما إلى اليوم؛ ولعل مما ساعد أيضا على هذا الاستقرار النسبي أخذ المسلمين أخذا لجوانبه بأيديهم نظرا لفراغها وتوفر الوقت للسهر عن كثب على القدر واستقرارها بأثفيتيها. وكان هذا أيضا ممكنا لأنه ُقدّر للأمور أن تدوم بحد سيف السلطان المسلط على الرقاب وخضوع عامة أهل الإسلام لسلطة أولي الأمر وقد وُظف الدين لأغراض دنياوية، كما جرت به العادة منذ قيام الدولة الأموية.
أما اليوم، ومستقبلا، لم يعد ذلك ممكنا، لأن الزمن تغير، إذ أظلنا عهد الجماهير، زمن ما بعد الحداثة، وهو زمن السلطة الشعبية كمؤسس حقيقةً لكل نفوذ متسلط الذي لم يعد في تثبيت شوكته أية قيمة فارقة ومتعالية اليوم، بل النفوذ كله في التجذر بما هو في حالة ملازمة ومثولية مع أخص خاصيات الشعب، أي كل ما هو شائع بين عامة الناس؛ ولا شك أن أهم ما في هذا الشيوع عندنا هي الروحانيات قبل أن يفقدها التزمت المتعالي نزعتها الإنسانية.
ثم هذا لم يعد ممكنا لضروة ترك المسلم لقدره على النار والسعي بالأرض للذب عن ثوابته الحقيقة وقد مُسخت على مر الأزمن فاختلط الحابل بالنابل.فإن لم يكن يتسنى ذلك عند تواجد المسلم بالمنبسط من الأرض وبالمنخفضات، فتواجده اليوم قرب صرح جبل، ومن العته والنوك عدم استغلال جانب الجبل كثالثة لأثفيتي القدر مقتديا بخير فعل السلف.
ثم هذا لم يعد ممكنا لضروة ترك المسلم لقدره على النار والسعي بالأرض للذب عن ثوابته الحقيقة وقد مُسخت على مر الأزمن فاختلط الحابل بالنابل.فإن لم يكن يتسنى ذلك عند تواجد المسلم بالمنبسط من الأرض وبالمنخفضات، فتواجده اليوم قرب صرح جبل، ومن العته والنوك عدم استغلال جانب الجبل كثالثة لأثفيتي القدر مقتديا بخير فعل السلف.
فلقد كان العرب في حلهم وترحالهم، عندما ينزلون بإزاء جبل، يجعلون أصله حجرا ثالثا لقدورهم، فتثبت ولا تنكب. وعقيدتنا اليوم التي هي قدرنا لا تقوم كما قلناه على أثفيتين حتى ولئن صلح ذلك زمنا قبل أن ينزل الإسلام بإزاء الجبل الذي ذكرنا، وهو ما بعد الحداثة، الحقبة الزمنية التي أضلتنا كما أبين ذلك في ما يلي. لزاما علينا إذا أن نفعل اليوم كما درب عليه العرب بأن نستعمل أصل جبل ما بعد الحداثة هذا حتى يقوم قدرنا ولا ينقلب.
إن جلالة الملك يعلم تمام العلم أن للجبل معاني عدة في عربيتنا، منها طبعا ما عُرف مما ارتفع من الأرض إذا عظم وطال. إلا أن المفردة تأتي أيضا بمعانى أخرى منها البخيل والداهية والصدى؛ والكلمة مؤنثة، بكسر الجيم، تعنى أيضا تلك المادة التي تؤلف مع النواة العنصر الحي الأساسي في الخلية الحية فتحتوي على عناصر كيماوية مختلفة أساسية للحياة. والجبلة، بتشديد اللام أو غير التشديد وبكسر أو فتح الجيم، هي الخلقة والطبيعة والأصل؛ فيقال مثلا : جبله الله على الكرم أي خلقه وفطره عليه؛ والكلمة جمعا بمعنى البدن.
كل هذه المعاني التي تزخر بها لغتنا الثرية حملتني على استعارة المفردة في تعبير جديد لا يرفضه المعنى وذلك بإنزاله على الحقبة الزمنية المشار إليها آنفا والتي تفرض نفسها علينا بعظمها وثقل وزنها على ما عهدناه من عادات وتقاليد في الفكر والتصرف. ألسنا نقول في عربيتنا : فلان خطير الجبال، أي عظيم البدن، الذي ينعت عندها بالمجبول تشبها بالجبل؟ لذلك فهو جبل ما بعد الحداثة؛ فليكن ثالثة أثافي إسلامنا، يكون بها الإسلام الما بعد حداثي بلا منازع!
ولنا أن نرى بثالثة أثافينا هذه رأي المثل، إذ تقول العرب : رماه الله بثالثة الأثافي أي بالجبل، أي بداهية مثل الجبل. والمعنى المجازي المقصود هو جعل الأثفية شرا، فالله يرمي العدو بالأثفية الواحدة تلو الأخرى، حتى إذا رماه بالثالثة قضى عليه، إذ يكون رماه بالشر كله.
هذا زمن ما بعد الحداثة، يا أمير المؤمنين
إن الزمن استدار دورته اللامتناهية، فمر من فترة حداثة غربية هي بصدد الغروب إلى زمن ما بعد الحداثة التي هي عود على بدء، شروق وإشراق لأخلاقيات ومُثُل عرفناها في زمن الحداثة التراجعية Rétromodernité التي ميزت حضارة الإسلام، ممهدة، قبل أن تنتهي، لحضارة الغرب، وهي منتهية بدورها لتعود اليوم حضارة إسلام ما بعد الحداثة في ركب زمننا اللولبي.
فليكن أمير المؤمنين سباقا إلى رمي أعداء الإسلام في الداخل والخارج بالجبل الما بعد الحداثي هذا، زمن الجماهير بلا منازع؛ إنها فيه متعطشة للحريات، جائعة للتصرف في نفوذها الطبيعي وهو أولا وآخرا الأساس المتجذر لكل نفوذ مستحق مستدام في المجتمع.
لقد اعتدنا العيش إلى الآن حسب مقتضيات العقد الاجتماعي، إلا أن هذا الزمن ولّى وانقضى، فنحن الآن في زمن الميثاق الذي ينبذ العلاقة التعاقدية المعهودة بين رؤساء ومرؤوسين ليضع محلها علاقة مودة وتوافق وتحابب بين إخوة وخلان تربطهم أواصر وجدانية وعواطف شعورية ولاشعورية. هذا من مقتضيات زمن ما بعد الحداثة الذي ألم بنا، وهي فوران الشعور واتحاد انفعالي عاطفي شديد العنفوان.
إن قوانين علم الاجتماع تحتم أن لا مجال لتواصل حكم الجماهير في فترة ما بعد الحداثة حسب مقتضيات السلطة التي عهدناها والتسلط الذي ألفناه من البعض؛ فكل ذلك من البائد ولا محالة، لا خير فيه اليوم لأن من شأنه تعميق الهوة بين الحشود ومن يروم حكمها. فلا أفضل بعد من سياسة كيّسة تأخذ بمجامع القلوب وتعمل على تنمية المشاعر والأحاسيس.
وهي تكمن، من زاوية ثوابت مجتمعنا العربي والبربري الإسلامي، في الأخد بلب لباب ما في عامة الناس من تطلعات للحرية والسمو للأرقى وقد تغافل عن ذلك المسلمون لما كان من سيرهم في بوادي فترة الحداثة ومفازاتها، بعيدا عن سفح جبل ما بعد الحداثة. أما اليوم، فلا مناص من صعود جبل تحديات هذا الزمن، ولا يكون ذلك إلا بتفعيل كل ما في أخلاقياتنا الإسلامية من سماحة وحريات طمستها عادات بالية وإسرائيليات فاحشة عُدّت من ثوابت المجتمع وليست هي إلا من ميزات عصور الانحطاط وتجبر الحكام وتغطرسهم على محكوميهم.
لم يعد الإسلام اليوم في فترة حداثة، بمعنييها كعصر وكسن قبل الكهولة، إذ هو مكتمل النضج، فهو ما بعد حداثي. لذا حان الوقت لأن يستعيد المسلم كل ما حُرم من حقوق في التصرف بكل حرية في نفسه وأموره كما يضمن له ذلك دينه. آن الأوان للتخلص من العديد من البدع التي سُمّيت جزافا ثوابت مجتمعاتنا وهي غريبة عن روح شعوبنا وعن روح الإسلام، وهما أبدا التوق للحرية ورفض العبودية، أي عبودية كانت، إلا لله، ولا سواه، في شؤون دينه.
لقد حطّم الإسلام الأصنام، فكفانا إحياء لها معنوية في أنفسنا؛ يقوم البعض فينا، كهذا الخليفة المزعوم، كالصنم بين الله وعبده وكأننا في دين اليهود والنصاري لا دين الإسلام أين لا واسطة ولا توسط بين الله وعبده في شؤون دينه الحنيف.
وما من شك أن ما يحدث اليوم من أهوال ليس إلا إرهاصات عالم جديد علينا مواكبة ظهوره، وليس هو إلا عولمة إنسانية أو بشرية عالمية Mondianité. فالتاريخ يعلّمنا أن الحياة تعود دوما إلى مجراها كخير ما تكون عليه الأمور بعد عقبة الأهوال، وهي حتمية من زمن لآخر؛ فمثل البشر في ذلك كالغواص صائد اللؤلؤ الذي عليه الوصول إلى قاع البحر للصعود بعدها مجددا للسطح.
كذلك الحال بالنسبة للإسلام الذي ليس له اليوم إلا استعادة مجد تليد ضيّعه أهله بأن فرّطوا في درر عقده الفريد بما فيها الواسطة، وهي سماحة دين علمي عالمي إنساني التعاليم، روحانيها. وليس في خاتمة هذا المطاف إلا المرور أخيرا إلى تفعيل الجواب المفحم المعلوم الذي لا يقبل غيره على السؤال الواحد الوحيد الذي يُطرح، ألا وهو : هل الإسلام رحمة حقا أو نقمة، رهبوت ونقموت للبشرية؟ طبعا، لهذا السؤال، لا إجابة غير هذه : الإسلام رحمة للعالمين في التوحيد للرحمان الرحيم.
دستور المغرب والتأسيس لإسلام السلام
أقول هذا مذكرا به، والذكرى تنفع دوما المؤمنين، لأن ديننا غدا بأمس الحاجة إلى من يحيي تعاليمه بعد ما حف به من ويلات، آخرها ولا شك نكبة الخلافة المزعومة بشرق كان منارة فهوى لأنه غوى.
وأنتم، يا أمير المؤمين، الأهل لمثل هذا الإحياء للدين؛ فلا مجال للتوجه إلى غيركم للنهوض بالإسلام والذود عن حماه. ولا شك أن من شأن الثورة القانونية، التي إن شاء الله تأذنون بتعجيل تفعيلها، تنقية القانون المغربي من كل ما شابه باسم الإسلام من نقض للحريات فشانه، جاعلا من دين يقدس حرية العبد، هذا الذي شرفه الله بحمل الأمانة، العقيدة المتخلفة التي تدوسها وتنبذها.
إن العالم تغيّر ولا يمكن مواصلة العيش على مفاهيمة البالية، خاصة تلك التي تقطع أوصاله إلى مماليك طوائف كما عرفناها في تاريخنا، إلا أنها اليوم ثقافية وعقائدية تنضاف إلى تقسيمه الاقتصادي الجائر، فتقحم العالم أجمع في أتون لا تسلم البشرية من مآسيه.
لقد كان المرحوم والدكم سباقا إلى معاينة هذا الوضع البائس بأن وضع إصبعه على عين المشكل الذي نقاسي منه إلى اليوم وطرح في الآن نفسه الحل الأنسب لبلاده ولأمن بحرنا المتوسط، ألا وهو رفع الحدود بانضمام الشمال الإفريقي إنطلاقا من المغرب الأقصى إلى الفضاء الأوربي بما أنه الجزء الذي لا يتجزأ منه؛ فليس البحر المتوسط إلا بحيرة في حيّز واحد. وقد كان هيجل، الفيلسوف المرجع للفكر الأوربي، أشار إلى هذه الوحدة القائمة ضرورة بين شمال المتوسط الأوربي وجنوبه، إفريقيا الشمالية.
وقد حقق المغرب بالدستور الجديد نقلة نوعية قوية في المسار القانوني لمملكتكم مكرّسا حقوقا انتظرتها الجماهير بفارغ الصبر، تماما كما فعل الدستور التونسي. إلا أنه في نطاق جدلية الاستمرار والقطيعة التي تميز المسار الدستوري ببلاد المغرب العربي الكبير، كما يحصل بتونس أيضا، فهذه الحقوق باقية إلى يوم الناس هذا حبرا على ورق في لعبة سياسية اعتادتها الشعوب من ساستها، وهي استعادة الشيء الذي تُضطر لإعطائه حتى وإن كان ذلك بالمخاتلة؛ وهذا ما لا ترتضيه أخلاقنا الإسلامية.
ففي عهد ما بعد الحداثة، لم تعد السياسة خدعة إلا لمن حارب شعبه، إذ هي سياسة فهيمة أو لا تكون Politique compréhensive؛ ولم يعد الوقت اليوم للصراع بين قمة هرم الحكم وقاعدته، لأننا لم نعد في زمن الأهرامات والفراعنة. فالقادة في السياسة هم خدم الرعية الساهرين على مصالحها، وهي أساسا حرياتها وحقوقها خاصة في نطاق حياتها الخصوصية، في مجال سياسة هي أخلاق قبل كل شيء Poléthique.
لقد دقت الساعة للأخذ بهذه القوانين الاجتماعية الجديدة التي يفرضها واقعنا رغم أن العديد من أدمغة الساسة لا تفقهها، بما أنها لازالت تعيش على وقع نموذج الحكم القديم الذي أصبح أفرغ من فؤاد أم موسى ولم يعد صالحا إلا لفرقعة الأمن العمومي وزعزعة الطمأنينة في النفوس بأعمال هذه الأقليات التي لا دين لها ولا أخلاق. وما من شك أن الزمن اللولبي يبين لنا أنه لا تعدم منها أي حقبة زمنية، فتستغلها لمآربها الخصوصية كما نراها تفعل باسم الدين أو غيره من المقدسات، بما أن الدين يكون أيضا مدنيا، كما هو في الغرب اليوم. ولا شك أن الله يقيّض دوما لمثل هذه الأقليات الناشطة فسادا وإفسادا في الأرض جنودا تجابهها في العلن وفي الخفاء؛ فكما يقول أهل التصوف، لا بد لكل زمن من أبدال يحفظون ثوابت الدهر عندما يمرق الناس وأهل الحل والعقد عنها.
إن الخيار الديمقراطي أصبح بالمملكة من هذه الثوابت، فهو اليوم كالإسلام والوحدة الترابية، غير قابل للمراجعة. إلا أن تفعيل ما في دستوركم من استحقاقات، يا جلالة الملك، يقتضي رفع كل ما تغلغل في القانون الوضعي المغربي من تجاوزات غير ديمقراطية وذلك غلطا باسم الدين. فمثلا، لا مجال اليوم بعد ما تحقق من مكاسب دستورية :
- لإبقاء عقوبة الإعدام، إذ لا يقبض الروح إلا العلي العظيم؛
- لإبقاء عقوبة الارتداد عن الإسلام، لأنه حق مضمون في ديننا خلافا لما فُهم إلى هذه اليوم حسب الإسرائيليات التي تغلغت فيه؛
- لإبقاء تجريم الافطار في رمضان علنا، فلا صوم يُفرض على المسلم وقد أقر له الدين كامل حريته، إذ لا فائدة في التخفي لمن يفطر لأن الصوم لله، لا حاجة فيه للنفاق ولأن الصوم مجاهدة نفسية قبل أن يكون مظاهر خداعٍ؛
- لإبقاء تعدد الزوجات لأن مقاصد الشريعة تقتضي صيانة الأسرة وتوثيق عراها وضمان أفضل الحياة لأبنائها، ولم يعد ذلك ممكنا إلا بتوطيد الخلية الأسرية حول زوج وزوجة لا أكثر؛
- لإبقاء منع الزواج اعتبارا للملة اعتدادا بنص القرآن، فالإسلام صريح المقاصد في الاعتراف بتساوي الناس، كل الناس، مؤمنين كانوا أو غير مؤمنين، فلا تفرقة إلا بالتقوى. ولا شك أن التقوى الحق، وهي خوف الله، لا تُفرض فرضا من طرف العباد إنما هي أمر خاص بالمخلوق وخالقه، لا دخل لأي أحد فيه؛ فالله الوحيد الذي يقدّر من يخافه ومن لا يخشاه؛ خاصة وفي الخشية أنواع ومراتب، فما يخافه الطفل وما يهابه الغر ليس مما يخيف من كمل عقله ورجحت حكمته؛
- لإبقاء عقوبة اللواط، فلا عبارة اللواطة في القرآن ولا حكم في الموضوع في الإسلام ولا في السنة الصحيحية، بل قصص روت ما كان ساريا في الديانتين اليهودية والمسيحية حيث النص الصريح في المنع والعقوبة.
هذا البعض مما يستحق الإصلاح سريعا، إذ هي من الأمور التي لها من الحساسية ما يؤهلها لرفع العوائق اللاشعورية بأنفسنا لقبول غيرنا كما هو. وهي كلها تتعلق بحياة المؤمن الخاصة ولا بد من احترام حريته فيها لأن الإسلام وإن كان الدين والدنيا في نفس الآن، فلا اتحاد في صفتيه هاتين بخلط أمور الدين السنية بشؤون الدنيا الوضيعة؛ إنما هو اتحاد منفصل أو انفصال متحد، وذلك ما يمكن تسميته بالتضادية Contradictoriel في نطاق الفكر المركب، التوجه الأسنى اليوم في علوم الاجتماع. وهذا من إعجاز الإسلام وقد سبق إليه مع تكريسه حرمة الحياة الخاصة وحفظه لقداسة أمور الدين التي تبقى أساسا من أعمال القلب؛ فالنية الطيبة هي أساس الدين القيم.
لأمير المؤمنين إذا، من وجهة نظري الأكاديمية، تمام الحق الشرعي والعلمي في التفضل بالإذن في القيام بالإصلاحات التي يقتضيها الحال حتى يُعطي الإشارة للدول المسلمة للسير على هديه، إذ حان الوقت لأن يتجدد فهمنا لإسلامنا. بذلك يعود من جديد تلك الثورة الروحية التي كان، بما أنه المعجزة الإلاهية الصالحة لكل زمان ومكان. ولا يكون هذا إلا بالأخذ بمقاصد الشريعة، فهي وحدها أزلية، لا بحرف نص محتم عليه التناغم مع مقتضيات عصره حتى تكون فيه المصلحة للمؤمنين، أس تلك المقاصد الإلاهية.
ولا شك أنها أفضل ترياق لما لحق القيم المنيفة عندنا، كما هو الحال بباقي بلاد العالم، من إشباع في عهد ما بعد الحداثة، بما أنه يحدث لما عهدناه واعتدنا من القيم ما يقع للبشر عند الشبع، خاصة والعديد منها من غير المتجذرة، يسهل قلعها بسهولة في نطاق العضوانية الكلية التي لا مناص منها اليوم، فهي للأمور خواتمها في الزمن ما بعد الحداثي.
فالتعالي والمفارقة للدين هما الآن في التأصل والثبات ضمن عضوانية المؤمنين الشمولية، تماما كما نرى ذلك في تعاطي الجماهير للدين الشعبي خارج الأطر الرسمية، وهو أقرب إلى مباديء الصوفية بما فيها من حرية وإباحية منه إلى السلفية وتزمتها الذي لا يرقى إلى مصاف ثوابت هذا الزمن ومقتضياته. إن الانتباه لهذا عبارة عن ذاك الفعل الاجتماعي الشامل عند علماء الاجتماع الذي هو كالقطاعة المجهرية النسيجوية، يسمح بالاطلاع على حال المجتمع بالأكمل وتقرير ما هو عليه من صحة أو مرض.
بهذا، يكون المغرب الأقصى المنارة في الظلمات التي طال زمنها في الإسلام فتشرق الحنيفية فيه مجددا مبددة العتمة في بلاد المغرب خاصة وسائر بلاد الإسلام عامة، وبالأخص بشرق يخبط خبط عشواء اليوم في جاهلية جديدة. لقد حان لها أن تنتهي، وإن شاء الله يكون ذلك بما يقرره جلالتكم بالمغرب ليكون مشرقا لزمن غرب فيه الدين الصحيح وعلما لنار الإسلام متوقدة من جديد!
نشر على موقع أخبر.كم