فاجعة تونس ومقتضيات مقاومة الإرهاب الذهني
أحداث تونس الأخيرة تبين بشكل كاشف ما لم نفتأ عن ترديده مرارا وتكرارا، أي أن الإرهاب ليس فقط ما نعرف وما نندد به، إذ هذا لا يعيش إلا بالجذور التي له في الأدمغة؛ فهي التي تجعله ينمو ويتفرع في جميع مجالات حياتنا اليومية، حاصدا أوراح الأبرياء بلا هوادة.
هذا الإرهاب الذهني يتمثل في رفضنا للآخر المختلف، أيا كان أسس هذا الرفض : الدين أو أيديلوجيات سياسية واقتصادية.
النشاز بين العقلية الشعبية والمنظومة القانونية :
إن العملية الإرهابية الأخيرة بقلب العاصمة التونسية لها من الدلالات ما لا يُحصى ويعد. فهي، باستهدافها لرمز السيادة التونسية من خلال نخبة رجال أمنها المتمثلة في الأمن الرئاسي، تبين مدى قدرة الإرهاب على اختراق أمنع ما في البلاد.
وهذا أكبر الأدلة على خطورة الوضع وانعدام الحل حاليا في القضاء على الإرهاب المادي، مع ضرورة التخلص من الإرهاب المعنوي لأمل قلع عروقه في الأذهان.
وليس ذلك بالسهل الهين لما بذره بالبلاد نظام العهد البائد من نمط تصرفات فاسدة، زادتها فسادا على جميع المستويات حكومةالترويكا طيلة سنوات ثلاث في جهد كبير لقطع الطريق على كل عودة محتملة للنطام السابق دون عرقلة جدية حفاظا على مصالحها وذاتها.
إن ما تعيشه البلاد التونسية ليس إلا نتيجة تراكمات لفساد عارم ومظالم مستشرية، زادتهم حدة التقلبات الحاصلة منذ الثورة. ذلك أن العقلية التونسية أصبحت أكثر وعيا بحقوقها في وسط اجتماعي ونفسي لم تتغير فيه المنظومة الحقوقية إذ بقيت على حالها في نشاز مع العقلية الطارئة.
ولإن انتفع النظام السابق طويلا بقوانينيه الجائرة، فلم يكن ذلك لقوته وتسلطه، بل خاصة لقبول الشعب بها خوفا من جور النطام؛ وهذا انتهى اليوم إذ ارتفع خوف الشعب، فإذا النظام على حقيقته، عاريا لا حول له ولا قوة.
إن الوضع الكارثي الحالي، رغم مآسيه، ليس إلا إرهاصات لعهد جديد، لعل حدثانه يطول أو يقصر حسب سوء نية الساسة أو حسنها في التنازل عن غرور الحكم والنظر للأمور كما هي، أي هذا الانعدام التام للثقة بين الحاكم والمحكوم وتفشي الفساد في البلاد لبقاء منظومة الديكتاتورية القانونية على حالها، مما يقتضي تغييرها جذريا للخروج من الأزمة.
ما من شك أن تلك القوانين الفاسدة تغذي الفساد وتمنع من تغيير العقليات عند أهل الحل والعقد بينما هي في قورة عارمة عند الشعب تؤدي بالبعض من أطيافه للعنف والإرهاب ماديا أو معنويا.
الميدان التشريعي لرفع الإرهاب الذهني :
نعم، إن القوانين لا تحدث ضرورة التغيير المنشود، لكنها تسعى له وتسهّله إذا توفرت النية السياسية الصادقة. وهي غير منعدمة بتات بتونس، إلا أن دوام القوانين الجائرة وتعدد ضغوطات القوى المنتفعة منها، سواء بالداخل أو الخارج، تمنع هذه النوايا الطيبة من العطاء مما فيه خير البلاد.
ما من شك أن القوى المستفيدة من الوضع الحالي ترفض أي تغيير كلف ذلك البلاد ما كلفها من المآسي؛ ولعل أعتى هذه القوى تلك التي تتغذى بفكر دغمائي لا يرى في الحكم إلا مطية لمصالحه المادية والأيديولوجية، الدينية المتزمتة خاصة، إذ توظف القوانين لخدمتها.
والأكيد اليوم بتونس أن على رأس هذه القوى الحزب الديني نظرا لتمساكه وللسند الحاصل عليه من طرف زعيم العالم الحالي لتشابك مصالحهم نظرا نظرتهم الواحدة للأمور. فنحن نعلم أنه لا يهم الولايات المتحدة إلا مستحقاتها الاقتصادية بالبلاد، وهي مضمونة مع الحليف الإسلامي لأخذه بمنوال اقتصادي رأسمالي متعجرف.
لذلك، لا يمتنع الطرف الأمريكي من ترك الحبل على الغارب لحليفه الإسلامي في تصريفه لفهم ديني متزمت ما دام هذا لا يمس بأهم ما يهمه بتونس؛ بل هو يشجع على ذاك الفهم العقيم للإسلام ما دام يخدم نظرة الغرب المقزمة لهذا الدين، خاصة وأنها تتناغم مع مع نعلمه من تزمت ديني أمريكي. فهذا بين من خلال معاضدة أمريكا لأفسد ما في الإسلام، أي الوهابية؛ فليس ذلك فقط لأسباب مادية بحتة كما يتكرر ذكره، بل أيضا لما في الإسلام الوهابي الممسوخ من إسرائيليات.
لذا، وبما أنه ليس لتونس أي أمل في تغيير أوضاعها السياسية لاستحالة حرية التصرف في الشأن المفروض عليها فرضا، فلا مجال للحاكم إلا التصرف الحر على المستوى التشريعي؛ ولا شك أن ذلك يقتضي من الشجاعة الشيء الكثير، خاصة أن العديد من أهل السياسة المنتمين نظريا للشق الديمقراطي لهم من التحرز شبيه ما نجده عند الإسلاميين، كما بان ذلك جليا عند النقاش حول إبطال تجريم المثلية وتعاطي المخدرات فضم الليبيراليون أصواتهم للإسلاميين أو سكتوا في أفضل الحالات.
إجراءات ضرورية من أجل العيش المشترك :
إن الجرأة السياسية تتمثل لا محالة في استغلال الميدان التشريعي الذي تتوفر فيه فرصة التصرف وذلك بعرض مشاريع ثورية من شأنها قلب المفاهيم بالأدمغة في مواضع حساسة للغاية، كتحليل المثلية أو رفع الموانع المفروضة على استهلاك وبيع الخمر وفرض المساواة في الإرث بين الجنسين.
بمثل هذه القوانين التي تتوجه للمتخيل الشعبي يكون الوقع الكبير على الأذهان، إذ هي تفرض بقوة ضرورة على الساسة تحديد موقف واضح من هذا المسائل والقبول أو رفض المساس بما يُعد غلطا من المواضيع المحسومة دينيا. فالقبول أو رفض فتح باب الاجتهاد فيها من شأنه أن يبين الاستعداد للقبول بالعيش المشترك أو رفضه، أي الأخذ بالديمقراطية أو مواصلة التمويه والكذب لأجل فرض نمط إسلامي متزمت على المجتمع التونسي المتفتح.
إضافة للجرأة في عرض مثل هذه القوانين الحساسة، لا بد أيضا من شجاعة مماثلة لتونس في العلاقات الدولية لحلحلة الوضع العالمي المتعفن الذي يرزح العلم أجمع تحت كلكله. من ذلك، المطالبة الملحة لأوروبا فتح حدودها بواسطة تغيير التأشيرة الحالية إلى تأشيرة مرور تضمن حق التنقل الحر للتونسيين دون المساس بالضروريات الأمنية.
من ذلك أيضا الشجاعة على أخذ القرار الهام في تطبيع العلاقات مع الدولة الإسرائيلية في نطاق الدعوة للعودة إلى الشرعية الدولية كما سبق للرئيس بورقيبة المطالبة بها منذ بداية القضية الفلسطينية.
إن تواصل الوضع الحالي بفلسطين لهو السبب الأصلي الخفي في تغذية الإرهاب، ماديا وفكريا؛ ولا انتهاء لهما مادامت الأمرور الحالية على حالها؛ لذا من الواجب المتأكد عدم مواصلة السكوت على ذلك.
إن السياسة اليوم لا يمكن بحال أن تكون مجرد تصريف لوضع متأزم لم يعد بالإمكان القبول به وإلا كلف ذلك الأبرياء أبهض تكلفة؛ فعلى الساسة التيقظ لذلك والأخذ بزمام الأمور كما يقتضيه الضمير الحي، وذلك بالعمل على تغيير نظرتنا لها بدءا بالعقليات؛ وإلا فرضت الجماهير بالقوة هذا التغيير، إذ هي التي تدفع الثمن الباهض لدوام ما لا مناص من تغييره عاجلا أو آجلا.
نشرت على موقع أخبر.كم