منع عقوبة الإعدام في تونس والمغرب من المنظور الإسلامي...
هل يقبض الأرواح غير الله؟
هذه مشاركة مني في النقاش الدائر بالمغرب الشقيق حول موضوع منع عقوبة الإعدام، وهي في الآن نفسه الرد الواجب على الموقف الذي تبديه بعض الأطراف بخصوص عدم تكريس منع عقوبة الإعدام في لأسباب دينية، معتبرة أن الإسلام يقر العقوبة بنص صريح فلا يمكن معارضته، أقول لهؤلاء : هل يقبض الأوراح غير الله؟
نعم، هناك نصوص صريحة تقر عقوبة الإعدام، ولكن النص لا يلغي روحه التي هي أوكد احتراما من حرفه. فما هي روح الإسلام بخصوص عقوبة الإعدام؟
إنها روح العدل والإنصاف والتسامح. ولعل أكبر دليل على ذلك دعوة الإسلام الصريحة والمؤكدة إلى درء الحدود بالشبهات حسب الحديث النبوي المشهور : » ادرأوا الحدود بالشبهات!».
ويتبين ذلك في الشروط العديدة التي يفرضها الإسلام لإقامة حد الإعدام. فهذه العقوبة تنتفي لمجرد وجود أدنى شك أو لانتفاء أقل عنصر من عناصر تأكد الجريمة.
إضافة إلى ذلك، فالله يترك دوما الباب مفتوحا للصفح والمغفرة، سواء كان ذلك من طرف العبد، إذا كانت الجريمة اعتداء على الأشخاص، أو من لدنه، إذا تعلق الأمر بعلاقة الإنسان بخالقه.
فلندرس الحالات التي أقر فيها الله عقوبة الإعدام، ولنر مدى إمكانية انتفاء القول بضرورة تطبيقها باسم حرف النص القرآني لأن روح هذا النص نفسه تدعو إلى عدم تطبيقه، بل تسمح برفع عقوبة الإعدام تماما.
* قاتل العمد :
إن أول حالة متفق عليها من الحالات المستوجبة لحكم الإعدام هي القتل العمد. ولكن من المتفق عليه أيضا أن لا توجد أي شبهة في وقوع مثل هذه الجريمة، لأن مجرد الشبهة هي ظلم في ديننا.
فما هو القتل العمد من منظور إسلامي؟ إنه قتل النفس بدون أي موجب أو سبب معين؛ إنه، شرعا، القتل بغير أدني مبرر.
وبما أن القتل عموما له أسباب ومسببات، فهو مما يدرأ بالشبهات. ومما يؤكد ذلك الباب العريض المفتوح أمام أهل القتيل للصفح والعفو. بل إن الله ليحث على ذلك، معتبرا أن الصفح والعفو هما الأصل في علاقة المسلم بأخيه المسلم. ولا غرو أن تلك هي سماحة الإسلام!
ولنأخذ مثلا على ما لهذه السماحة من أهمية في ديننا : فإذا صدر حكم بالإعدام على قاتل ثبتت إدانته ثم اعترض أهل المقتول على هذا الحكم وعفوا على القاتل، فإن العفو هو الذي ينفذ لا حكم الإعدام! أليس هذا من أكبر الأدلة على تعلق الإسلام بالإصلاح والمغفرة لتحقيق العدالة، سواء أكانت بمجتمع البشر أو بالدار الآخرة؟
* الزاني المحصن :
الحالة الثانية التي ورد فيها حكم الإعدام في الإسلام تتعلق بالزاني المحصن. وهنا أيضا نرى الإسلام يشدد في ضرورة تحقق الزنا نظرا لشدة العقاب؛ بل إن التشدد في البرهان والأدلة ليبين أن روح النص هي الدعوة للعفو والتسامح لا للعقاب والإنتقام.
فالعدالة كما ارتآها الإسلام تقتضي هنا أن يكون الزنا بثبوت ولوج ذكر الزاني بفرج الزانية. فليس المعني هنا مجرد الجماع أو المباشرة أو احتكاك الجسد بالجسد. وتكون الشهادة على ذلك من طرف أربعة شهود عدول.
ولا مجال هنا للتذكير أن عدالة الشهود تقتضي نزاهتهم التامة، إذ يكفي أن تنتفي إحدى شروط عدالة الشاهد وضوابطها حتى يمنع على القاضي إصدار حكم الإعدام، بل ويتوجب عليه مقاضاة الشاهد لأجل القذف.
* الحارب :
الحارب هو الممتهن الحرابة، وهي الإعتداء على الناس بقطع الطريق والقتل من أجل السلب والنهب. ولخطورة هذه الجريمة التي تعني انعدام الأمن، فقد أوجب الله أبشع حكم إعدام، ألا وهو قطع الأيدي والأرجل من خلاف والصلب. ولعل هذه البشاعة هي بقدر بشاعة عمل متعاطيها.
إلا أن الذي لا شك فيه هو أن هذه العقوبة كسابقاتها تنتفي بوجود مجرد الشبهة. بل وتقتضي أيضا أن يكون قاطع الطريق حقا من المفسدين في الأرض، امتهن قطع الطريق؛ فهو لا يتعاطى ذلك لمرة أو لسبب ما، كما نرى اليوم في بعض الإعتصامات، فهذا لا يمكن أن يعد من الحرابة بحال. فعقوبة الإعدام هنا هي لمن امتهن الجريمة المنظمة في القتل والسلب والنهب، ولم يتعاطاها لسبب من الأسباب غير الإفساد في الأرض وإرهاب السابلة وإزهاق الأرواح الآمنة.
هذه هي الحالات الموجبة للإعدام في الإسلام بحرف النص الذي يقتضي استيفاء شروط عدة؛ أما بروحه، فهي تقتضي الركون إلى التسامح وإلى العدل الإلهي.
ومن العدل الإلاهي، إذا لم نكتف بروح نصوصه، أن نعتبر أحكامه بشروطها قد أقرت لتطبق في مجتمع إسلامي كامل الأوصاف من جميع نواحيه الإجتماعية وخواصه البشرية. وطالما لم يبلغ هذا المجتمع تلك الصفات، فمن الحمق تطبيق نصوص أعدت لمجتمع أرقى درجة، لأنها في تلك الحالة تفقد كل ما فيها من عدالة إلاهية، فلا يبقي إلا ما يضر بالدين وينفي سماحته.
إن للإسلام نصا وروحا، فإذا تعرض النص لحكم، فربما روحه تقتضي خلاف ذلك الحكم، لأن ديننا السمح اهتم أولا وقبل كل شيء بطبيعة المجتمع الذي جاء لترتيبه وبواقع البشر الذي أراد الارتفاع به إلى حال أفضل.
ولا شك أن طبيعة المجتمع اليوم وحال بلادنا تقتضيان تفعيل روح النص القرآني دون حرفه لانتفاء العديد من الأسباب التي اقتضت أن يأتي النص القرآني بحكم الإعدام رغم أن روحه حدت من تطبيقه بصفة شبه كلية.
لقد ضبط الله مقاصد للشرع خمسة من أهمها، بعد حفظ الدين، حفظ النفس. وما حفظ النفس إلا منع إزهاق الروح والعمل على تطبيق منع عقوبة الإعدام بين البشر.
إن العدالة الإلاهية أعلى وأكبر من عدالة البشر، وهي وإن كانت نسبية في الحياة الدنيا، فهي مطلقة في الآخرة، والأفضل للبشر الأخذ بالمثال الإلهي في توخي العدالة في دنياهم وترك العقاب إلى عدالة الله المطلقة في الآخرة.
لهذا أرى أنه لا مانع البتة من المنظور الإسلامي إقرار منع عقوبة الإعدام بالمغرب خاصة وأن دستورها الجديد يقتضي ذلك.
ونأمل أن يذهب جلالة الملك، راعي الدين بربوع المملكة، في هذا الإتجاه فيحمل جماعة الإسلام بالمغرب على عدم الإضرار بصورة ديننا النبيلة وسماحة تعاليمه.
فكيف يسمح المؤمن الحق لنفسه إقرار مبدأ قبض روح العبد من طرف المخلوق دون خالقه؟ سؤال نطرحه على ذكاء وفطنة من يداوم على التشبث بعقوبة نبذتها كل الشعوب المتحضرة، والإسلام حضارة !
نشرت على موقع أخبركم