أي نداء لتونس زمن ما بعد الحداثة؟
هكذا إذن عادت الانتخابات الأخيرة بالنصر لحزب نداء تونس الذي يمثل عند البعض عودة العهد القديم، بينما يرى البعض الآخر الذي أشاطره الرأى أن تواجده بالحكم أفضل ما يمكن أن يحدث لتونس اليوم.
وسأبين كيف يكون ذلك من الآن بعد أن أذكّر بما قاله أخيرا في مداخلة قيمة له الأستاذ المؤرخ عبد الجليل التميمي حول الثورات العربية والنزعة الإنسية الجديدة.
ضرورة التلاحم مع تطلعات الشباب
لقد تحدث الأستاذ الجليل عن مدى تهميش دور الشباب في القوى الفاعلة بالبلاد ومسؤولية الجامعة التونسية في تأخير اندلاع الانقلاب الثورة بتونس بعقد على الأقل.
كما بين الأستاذ ضرورة عدم التقليل من شأن هذه الثورة الشبابية أساسا، وذلك خاصة في القطع مع العقلية الغربية المهيمنة على المتخيل العربي ودورها في تقزيم الحضارة العربية والإفريقية، إذ أن الانقلاب الشعبي كما أسميه أسقط نظرية الخنوع نهائيا كما مثلها في أبشع صورة خطاب الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي بداكار.
إن الشباب يبقى المحور الأساسي في نجاح أو فشل أية سياسة بتونس. ولعل عزوفه عن الانتخابات يبين إلى أي حد وصلت القطيعة بين الشعب ونخبه.
فمن بين الآفاق الجديدة التي دعا إليها الأستاذ التميمي في مداخلته المذكورة، لعله من الضروري الحديث اليوم عن هذا النداء الذي يصدع به أعمق أعماق الشباب التونسي اليوم وهو نداء لنبذ كل قوانين الجور والظلم للحقوق والحريات الخاصة الموروث من العهد البائد في المنظومة القانونية التي ما زالت تحكم البلاد. وهو نداء للنبذ كل ما في قوانيننا من رفض للغيرية بجميع مكوناتها وخاصة في ميدان الحياة الشخصية.
وما من شك أن نجاح مرشح الحزب نداء تونس كان م بين المساهمين فيه شبيبة أعجبها أخذ المرشح قائد السبسي بدعوتها المشروعة لإبطال ما يسمي بقانون الزطلة.
ضرورة ديمقراطية ليبيرالية اجتماعية
لعل تونس بنجاح انتخاباتها الديمقراطية الأولى فتحت الباب على مصراعيه لتجربة فارقة في مصير الحضارة العربية الإسلامية من الخطأ قصرها على الديمقراطية الليبيرالية الاقتصادية كما تفرضها العولمة المالية اليوم.
فنحن في زمن ما بعد الحداثة وهو يقتضي العودة إلى التليد من القيم والآبد من الأخلاقيات لبلدان الجنوب. لذا، لا بد لمثل هذه الليبيرالية التي بدأت تستقر ببلادنا على نمطها الاقتصادي فحسب ألا تقتصر على مثل هذا البعد فترتفع به إلى المستوى الجامع لمفهوم الليبيرالية باختزال كل الحريات في نطاق تصرف شخصي حر تام الحرية،.
وبدون أدنى شك يتجلى هذا بالخصوص في ميدان تلك القوانين المتراكمة ببلادنا باسم الأخلاق والدين بينما ليست هي إلا رواسب لفهم خاطيء للأخلاق وللدين هدفه الأوحد التسلط على المواطن وإجهاض كل ما له من حقوق وحريات شخصية لا دخل البتة فيها لأحد وخاصة للدولة وممثليها.
إن القوانين الرادعة للحريات الخصوصية لا تمت بصلة لا للإسلام ولا للأخلاق، إنما هي في خدمة البشر من أصحاب السلطة الذين بذلك يتسلطنون على الشعب في نظرة أكل عليها الدهر وشرب للإنسان الرافض لغيره والمتعالي عليه باسم نظرة متزمتة للدين بينما لا شيء في ملتنا يهضم حقوق الإنسان وحريته في التصرف في ذاته وحياته الخاصة.
من قوانين التي يتوجب إبطالها
من هذه القوانين التي يتوجب إبطالها بدون تأجيل كل ما يحد من تساوي المواطنين بعضهم ببعض سواء كان ذلك على مستوى صفة حياته اليومية وتصرفه الخاص أو في علاقته بالغير على مستوى الحالة الشخصية أو الأفكار والمعتقدات.
وما التزام الرئيس المنتخب بتعديل قانون المخدرات الجائر إلا الرأي الصائب في هذا المجال، إلا أن موقفه يكون أصوب إذا تجرأ فرفع تجريم استهلاك تلك المخدرات كما تنصح به الأمم المتحدة في تقرير حديث في الموضوع لأن المهم هنا هو العمل على ردع المتاجرة بالمخدرات التي هي رأس الداء.
ومن هذه القوانين الظالمة الفصل من المجلة الجنائية المجرّم للعلاقات الجنسية المثلية أو المماثلة إذ لا دخل في نمط حياة الناس. فليس ذلك لا للدين، الذي قدّس حرمة الحياة الخصوصية ومنع هتك أعراضها - حتى أن الرسول نصح بالاستتار عند عصيان الدين - ولا للقانون الذي مهمته حفظ الأمن العام ومنع الاخلال به لا التسلط على الناس في ما يفعلون وكيف يعيشون بكل دعة وأمان.
ومنها أيضا تمام التساوي بين الرجل والمرأة في كل شيء، حتى في الميراث، إذ هذا ما تقتضيه مقاصد الشريعة الذي جاء نصها بالعدل والمساواة التامتين بين الجنسين، فلم يتردد في تقدير المرأة بأن أعطاها مثل حظ الذكرين في زمن لم يكن لها أي حظ ولا قيمة.
ولا شك أن ذلك من الله أكبر دليل على التوجه الذي يجب أن يأخذ به البشر على هديه تعالى للعدالة التامة في التدرج الحكيم الذي جاءت به أحكامه لأنها صالحة لكل زمان ومكان إذ هي دوما متناغمة مع زمنها ولأن المصلحة الدينية تقتضي الأخذ بعين الاعتبار بالمصلحة البشرية.
هذه بعض القوانين المجحفة للنظام القديم الذي لا بد لتونس الجمهورية الجديدة رفعها في أقرب الآجال حتى يكون نداء تونسي كحزب سياسي في تمام التوافق مع نداء تونس للأخذ زمقتضيات زمن ما بعد الحداثة.
ولا غرو أن ما يحدث بالشرق من تهافت للإسلام المتزمت الداعشي يقتضي أن يكون الإسلام التونسي النير إسلام ما بعد الحداثة هذا، أي دين كل تعاليمه سمحة ومتفتحة على الآخر كل آخر؛ ذلك لأن الإسلام أولا وقبل كل شيء سلام !
نشرت على موقع أخبر.كم