سلاح التطيبع مع إسرائيل وحتميته
لا تفتأ تطالعنا من الحين والحين نعرات سياسوية محرضة على تجريم التطبيع مع إسرائيل مع التنديد بما اعتدناه من بعض المتعيشين بالسياسة لأعراضهم الشخضية بما يسمونه الكيان الصهيوني رغم أن هذا الكيان فرض نفسه كدولة لها حقوق وعليها واجبات. إلا أن تعنتنا على رفض ما لها من الحقوق تجعلها تتنصل من واجباتها باسم رفضنا لحقوقها.
هذه هي المهزلة التي تقاسيها الشعوب العربية من ساسة وتجار سياسة همهم مصالحهم الآنية حتى وإن أدى ذلك بتضييع الغالي والنفيس باسم الحفاظ عليهما.
لذا أعود هنا للتنديد بمثل هذا التهافت الفضيع مع شديد الاحترام الذي أكنه لكل من سعى في هذه المتاهة عن حسن نية وقد خانته مقاصد المتلاعبين مع وافر الخبث بمشاعر العموم الصادقة من أجل قضية شعب فلسطين الذي لا يزال يقاسي من استغلال آلامه ومعاناته. فمن هؤلاء من أعرف نزاهته وحرصه على النضال من أجل الحريات، ولكن الحماسة التي تجيش بها عواطفهم في غير محلها تحملهم على الشطط في المضي في إضاعة حقوق شعب فلسطين رغم ما يبدو لهم من تشبث بها. ذلك لأن العواطف لا تكفي في الحقل السياسي ولا بد فيه من وجاهة الفكر وحسن تقييم الأوضاع وإلا ضاعت الحقوق التي لا غبار عليها، كما لا زلنا نضيع حقوق شعب رغم أنها ثبتت فلا شك فيها في القانون الدولي. فلم لا نطالب بتطبيق هذا القانون دون العمل في نفس الآن على نسفه بتصرفاتنا الهوجاء؟ فذلك ما يريده منا من نعتقده عدونا ونحن له خير حليف في سياسته التي ليس أخرق منها إلا تصرفنا، تصرف النوكي!
فمن الشطط مثلا الادعاء أن المطالبة بتجريم التطبيع هو من مطالب الشعوب العربية، بله المعني الأول، شعب فلسطين. إن الآخذ بنبض الشارع بالبلاد العربية وبالأراضي المحتلة لا يمكنه إلا القول بأن الجماهير العربية لا تريد إلا التطبيع كحل لتحرير فلسطين؛ أما رفض هذا الحل فليس هو إلا هذه الشعارات التي ترفعها قلة من المتحمسين لا لقضية فلسطين بل لما يعتقودنه فيها من فوائد على المستوى السياسوي الداخلي.
من أجل ديبلوماسية فاعلة
إن سياسة إنكار الغير أكل الدهر عليها وشرب، والشجاعة اليوم من أحزاب كل البلاد العربية ليست في سن رفض التطبيع مع إسرائيل بل في الإسراع بالتطبيع مع انتهاج سياسية صادقة النية وديبلوماسية نشطة تعمل على العودة للقانون الدولي وتفعيله على أرض الواقع بإقامة دولة فلسطين في حدود سنة التقسيم وعودة كل اللاجئين إلى أراضيهم في نطاق تسوية عادلة يعترف فيها الكل بحقوق الجميع الثابتة.
نعم، في واقعنا الحالي، أي مع انعدام ديبلوماسية حقة فاعلة وسياسة فهيمة تقول الحق وتسعى إليه، ليس في التطبيع إلا المهانة وخدمة مصالح إسرائيل. لكن من قال بوجوب تواصل الحال المزرية التي عليها سياستنا وديبلوماسيتنا اليوم؟
أنا لا أفتأ أنادي بثورة عقلية على هذا المستوى، كما هي واجبة على جميع المستويات. فلا تطبيع بالنسبة لي إلا مع سياسة خارجية في نفس الوقت تقول الحق وتناهض لأجله بكل جدية وشراسة إن وجب الأمر. فهذه هي الوسيلة الوحيدة للخروج من المأزق الذي نحن فيه والذي لا يفيدنا ما نفعله من تجريم لا طائل منه وسفسطة سياسية غير مجدية.
لذا، فليس في رفض دولة إسرائيل ومواصلة هذا التهافت الفضيع في نعتها بالكيان، وهو أكبر دليل على خروجنا من حدود الواقع، إلا الخيال والأوهام؛ ليس في ذلك إلا التشجيع المتواصل منا للسياسة العقيمة الحالية في ابتذال المباديء وصرف كلمة الحق لأجل الباطل الصرف الذي هو هنا المصالح الضيقة لمرتزقة السياسة وانتهازي القضية الفلسطينية العادلة.
ولا فائدة في الإشارة إلى أنه لما يصل التهور بالبعض في بعض البلاد إلى سن القوانين الرافضة لواقع دولة إسرائيل فهي تبقى حبرا على ورق كما تبقى كل الترهات التي لا علاقة لها بالواقع الذي يفرض دوما نفسه على الأهواء؛ بل إن مفعولها لكله سلبيات في حل المعضلة الفلسطينيه، إذ يزيدها تعقيدا.
السياسة اليوم كياسة وصدق نية
لقد حان الوقت لأن نخرج من حفرة السياسوية الضيقة والمتاجرة بدماء الأبرياء في فلسطين باسم العروبة والوطنية ! إن خدمة القضية الفلسطينية تقتضي عاجلا انبراء ساسة جدد وديبلوماسيين محنكين لا يترددون في قول كلمة الحق والذب عنها بكل قوة في نطاق سياسة صادقة النية خالصة الكياسة. وهي في :
- أن إسرائل دولة قائمة الذات ولا كيانا خياليا إلا في أدمغة المدجلين في السياسة وبالسياسة؛
- أن دولة إسرائيل لا حقيقة لها إلا مع دولة فلسطين في حدود التقسيم الدولي الذي هو بطاقة ولادة لتوأمين؛
- أن الديمقراطية الحقة بإسرائيل وغير إسرائيل، خاصة بدولنا العربية، تقتضي الاعتراف بكل حقوق المواطنين دون التفرقة باسم الدين؛
- أن الديبلوماسية اليوم في زمن الليبيرالية الغربية الغالبة تقتضي رفع كل الحدود المكبلة لحرية التنقل للبشر، لأن البضاعات ليست أكثر قدرا من الإنسان، ولأن هذا الأخير هو مبعث كل ما تأتي بها البضاعة من ثراء وثروة .
فبمثل هذه الطريقة فقط يمكن للعرب المشاركة بجدية في الصراع الحامي الوطيس بفلسطين كما يدّعون دون النجاح في تخير الوسيلة الفضلى، إذ هم يلوكون كلاما عهدناه ليس فيه إلا اجترار خطابات وشعارت لا تجدي نفعا، إلى حد أنه أصبح مجرد هراء ولغو عند ذوي الأحلام.
وتلك هي طبيعة اللغة التي تستعملها جامعة الدول العربية، إذ لا حظ لتفعيل قرارات المقاطعة التي اتّخذتها منذ بداية الاحتلال الصهيوني لفلسطين إلا إذا كانت لها الشجاعة يوما للبداية أولا بالاعتراف بالقانون الدولي ثم المطالبة بالعودة إليه بديبلوماسية نشيطة كما بينت. فإذا فشلت، وعندها فقط، يمكن اللجوء إلى المقاطعة كدرجة أولى للضغط على من يرفض تطبيق القانون تعقبها درجات تصاعدية؛ وعندها تكون الحظوظ وافرة للعرب لجمع الضمير العالمي إلى صفهم، لأنه عندها صف الحقيقة الخالصة لا الخادعة.
إننا اليوم ننادي الضمير العالمي لأدانة المنكر الصهيوني كما تجلى لنا في أبشع صوره بغزة فلا يجيبنا لأنه يرى في الآن نفسه أننا نأتي أيضا المنكر؛ وهذا أساس البلية. فهلا أخذت المقاومة الإسلامية أيضا بمعاناة مواطني غزة فلم تكتف بشعاراتها وقد غدت عندها جوفاء، لا تغني من جوع ولا تحمي من فتك وقتل؟
كفانا استعمال الكلمات الطنانة والرنانة، فليس الأبرياء يذبحون فقط في فلسطين، بل لعل عددهم أكثر في بلاد الإسلام؟ وليس أدل على ذلك إلا ما نراه بأرض العراق والشام وكان حريا عليها العودة إلى الروحانيات التي طالما غذتها فأنتجت أفضل ما يكون من الغذاء الروحي ! وأنا لا أقول هذا للتقليل من فظاعة ما يقع بغزة اليوم، لأن قتل بريء واحد هو قتل كل البشرية؛ إنما أقول حقيقة وجب أن تُقال ولو على النفس !
كفانا مواصلة ما دأب العرب عليه منذ بداية فاجعة فلسطين، ألا وهو استقطاب الناس لأغراض خسيسة في نفس يعقوب، ولنطالب ولو مرة واحدة بسياسة فاعلة وديبلوماسية نشيطة. ولا يكون ذلك إلا بالنزول إلي الميدن بالسلاح الذي يستعمله عدونا فيغلبنا به، وهو سلاح القانون الدولي.
فنحن كمن له حق لا منازع فيه، إلا أنه لا يطالب به أمام المحاكم، فيضيع الحق ونبكي ونتباكى على ضياعه ولا مجيب لعويلنا لأننا السبب في ذلك بتقاعسنا عن طلب حقنا بما يستوجبه القانون. فلنهجر التلبيس على أنفسنا وعلى غيرنا، إذ ليس هذه من السياسة التي تبقى أولا وآخرا كياسة وصدق نية.نشرت على موقع أخبر.كم