هذا ليس بالشعار الذي أرفعه، إذ الأمور موكلة في الإسلام الصحيح إلى ضمير المؤمن في علاقته المباشرة مع خالقه؛ فهو الذي يقرر ما يمليه عليه ضميره باعتماد أخلاق الدين القيم وحدها.
إنما هو التذكير بما حدث في فترة عصيبة من التاريخ الإسلامي لا بد من معرفتها اليوم حتى ننير البعض مما عتم على الأذهان في هذه الفترة الحالكة من تاريخنا المعاصر، إذ كثر فيها الدجل واختلط بها الحابل بالنابل حتى أصبح تبليس إبليس يعد من الإسلام.
لا سلفية حقة إلا صوفية الحقائق !
فهل أعتى من تبليس وتلبيس للإسلام الحق، دين التسامح وملة البشرية جمعاء كخاتم للدعوة السماوية، مما ينظّر له التزمت وتقرّه الوهابية الراعية رسميا للحرمين الشريفين ؟ فأي شناعة أكبر ممن نرى من الوهابية، تشين الإسلام في أقدس ما فيه، ألا وهي سماحة تعاليمه وإناسة رسالته العلمية الكونية؟
إن الفظاعة التي وصلت إليها حال الإسلام اليوم تقتضي أن ترفع الوهابية يدعها عن مكة فتجعل رعاية مراسم الحج بين أيدي حماة للإسلام ممن لا صفة سياسية لهم، فلا تزمت عندهم ولا أغراض سياسوية لهم، همهم الأوحد خدمة الإسلام بصفته ملة البشرية قاطبة. وهذا ما لا يمكن أن تتكفل به الوهابية التي أفسدت لب لباب الإسلام؛ فلتعين من أهل الإسلام، أهل التصوف مثلا، من يرعى مناسك الحج حق الرعاية، إذ الصورفية أولى بخدمة الإسلام من السلفية، فلا سلفية حقة إلا صوفية الحقائق بشهادة ابن تيمية نفسه !
عندما حول الأمويون الحج إلى بيت المقدس
لعل العديد من أهل الإسلام لا يعلم أن الحج لم يسلم من تداعيات الخلافات السياسية والفتن العقائدية التي لازمت التاريخ الإسلامي منذ وفاة الرسول.
هم ولا شك لا يجهلون أن هذه الخلافات أدت في فترات حدتها إلى قصف بيت الله الحرام بالمنجنيق؛ إلا أن القليل منهم يعرف أنها أدت أيضا إلى نقل الحج مدة زمنية من مكة إلى بيت المقدس؛ كان ذلك خلال الصراع بين عبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزبير أثناء الصراع الدامي الذي عقب وفاة الخليفة الإسلامي الأول معاوية بن أبي سفيان.
فقد نازع ابن الزبير بن العوام، حواري الرسول الأكرم، السلالة الأموية بأن تحصن بمكة وتحكم في العراقين وطالب بالخلافة لنفسه لما كان يدّعيه من أولوية له فيها.
ولعل ذلك كان يكون له إذا قبل دعوة البعض ممن ناصر الأمويين عندما طالبوه بالقدوم إلى دمشق عاصمة الخلافة الأموية، الشيء الذي رفضه اين الزبير فأضعف حظوظه في التغلب على أعقاب السلالة الحاكمة. فكانت وقعة مرج راهط وتغلب مروان بن الحكم الأموي وتمسكة بالخلافة بدمشق ثم صعود ابنه عبد الملك خليفة للمسلمين.
لقد احتدم الصراع على الحكم بعد انقسام الامبراطورية الإسلامية إلى قسم أموي بدمشق وقسم حجازي عراقي بمكة. والمهم الذي يجب معرفته هنا هو أن الأمويين، أثناء هذه الحرب الدامية، نقلوا الحج من مكة، التي كانت تحت نفوذ أعدائهم، إلى أول القبلتين وثالث الحرمين، بيت المقدس.
ووجدت سلالة ابن مروان الأموية بكل سهولة بين الفقهاء من يدعّم مقولتها في شرعية هذا التبديل، إذ أهمية بيت المقدس الدينية لا تُنكر وقد عاشت فترة مضيئة من تاريخ الإسلام، بما أنهت تقترن بالاسراء والمعراج.
وكان هذا سهلا بالطبع لكون بيت المقدس تحت نفوذ أصحاب الحكم بدمشق؛ إلا أن الأهم للتأكيد عليه هو أن إلى القدس تم بضع سنوات دون أن ينكر العديد من فقهاء الإسلام الأجلاء صحته؛ فلم تستعد مكة مكانتها كقبلة الحج الوحيدة إلا بعد مصرع ابن الزبير وعودة الحرم المكي إلى النفوذ الأموي.
وجوب إخراج الدين من السياسة التي تشينه
هذا التذكير التاريخي لا يبتغي إلا مصلحة الإسلام وقد شوهت تعاليمه الأغراض السياسية، خاصة منها تعاليم الوهابية التي لا تأخذ بالإسلام الصحيح، بل بالإسرائيليات الت تغلغلت في دين الحنيفية.
إن مكة اليوم تحت نفوذ الوهابية، هذا التيار المتزمت في الإسلام والذي لا يمثل بحال من الأحوال لا روحه ولا نصه حسب مقاصده في حقيقتها. فهو بدعة لا شرعية لها للرعاية الرسمية لمناسك الحج.
كيف يواصل المسلمون القبول بتوظيف الدين من طرف السياسة بهذا الشكل؟ إن مصلحة الإسلام اليوم أكثر من أي وقت مضى تقتضي أن تتكلف برعاية مقتضيات الحج كلها سلط مستقلة تمثل هذا الدين حق التمثيل، بعيدا عن أي تزمت وتشويه. ففي ذلك العودة الضرورية المتأكدة إلى حقيقة الحج؛ لأن الحرم الشريف في قداسته مستقل الذات عن كل سلطة دنياوية، إذ الحاج بمكة بين أيدي الله وحده.
ماذا نرى اليوم؟ الحج، هذه الشعيرة الدينية الكبار، تحت سلطة دينوياوية سياسية لا تعمل حقا بتعاليم الإسلام الصحيحة، بل تشوهها.لذا، على المملكة السعودية، بطوع إرادتها واختيارا منها، إذا أرادت الحفاظ على شرف ومسؤولية رعاية الحرمين الشريفين، أن تجعل مناسك الحج تحت سلطة مستقلة عنها، تمثل حقا الإسلام في سماحته. بذلك تخدم الإسلام حقة خدمته وتحترم تعاليه؛ وهي الأولى بذلك لتواجد الحرم الشريف على أرضها.
أما إن رفضت، وليس لها أن ترفض، فمن الواجب المتأكد على أهل الإسلام طرا أن يتدارسوا الوضع الحالي الهجين المستهجن فيقرروا حتمية تخليص مكة والحج إليها من غياهب السياسة وتبليساتها.
عندها، استنارة بتعاليم التاريخ، لم لا تكون بيت المقدس قبلة الحجاج حفاظا على روح الدين الإسلامي من التشويه وقد أفحش في ذلك لا أعداؤه فقط، بل وقبلهم كل من ادعي رعاية الإسلام ممن سعى ويسعى لهذم أسه من الداخل.
بذلك تتدعم ولا شك، على المستوى السياسي النبيل، دعوى من يبتغى تحرير فلسطين؛ ذلك لأن في الحج إلى بيت المقدس من التدعيم للقسط الوفير ذبون خزعبلات للقضية الفلسطينية !
هذا من الاجتهاد الذي يفرضه دين القيمة، بل ويثيبه مرة واحدة على الأقل، عند الخطأ؛ أما الحقيقة، فلا يمتلكها العبد، فليس هناك غير الله أعلم !
نشرت على موقع أخبر.كم