رؤية العين، هذا الظلم للدين!
لا يزال الإسلام يعاني ممّن ينتسب إليه أكثر من أعدائه، خاصة من هؤلاء المدّعين الدفاع عنه وذلك بالتمسّك ببعض العادات التي أصبحت المضرّة فيها للدين ظلما فاحشا. نحن نعاين هذا كل سنة، ككلّ سنة في رمضان، الفلكلور السمج الخاص تحديد زمن بدايته وانتهائه، وما يزيده سماجة ما فيه التفرقة بين المسلمين إذ من تداعياته أنّ لكل بلد مواعيده. وهذا طبعا مأتاه ظاهريا ضرورة اعتماد الرؤية بالعين تأسّيا بما بقي من أقوال وسنن ليست هي من الثوابت الجوهوية للدين عند من يأخذ بالإسلام حسب روحه ومقاصده التي هي، دون أدتي شك، علمية عقلانية. فلا شائبة في نزعتها المتطلّعة للأخذ بكل ما يأتي به العلم من ترسيخ لسماحة هذا الدين وتماهيه مع روح عصره؛ فهو ثورة ذهنية دائمة، إذ هكذا كان عند ظهوره، ما مكّنه من إخراج العرب من فترة عدّت جاهلية لعدم أخذها بأسس التطوّر ونبذها لمقتضايتها، هذه التنويرية التي أتى بها دين صاحب الدعوة، فكان دينه حداثة عالمية قبل أوانها.
إلا أن ما نعته بقبحداثة، أو حداثة تراجعية (rétromodernité)، اندثرت مع عودة جاهلية جديدة باسم إسلام لl يعد فيه أي تنوير لتحجر الذهن فيه وتكلّس التفكير الجريء نظرا لما ساد فيه من التزام باجتهاد السلف رغم أنه بار في معظمه وكأن لا عقول للمسلمين للتفكير والابتداع كمن سبقها. والحقيقة أن أهل الفكر لم يندثروا، أو عجزوا عن الأخذ بركن هام في الإسلام، ألا وهو الاجتهاد المتواصل، على الأقل على رأس كل سنة، حتي لا يتغرّب دينهم. إنهم التزموا الصمت أولازموه بقرارات سياسية مثل تلك التي أتت بالانحطاط الحالي مع اندثار الحضارة الرائقة العالمية التي عرفها الدين الإسلامي في الشطر الأول من حكم السلالة العبّاسية. هذا، بلا شك، هو الذي عجّل بالاستعمار الامبريالي لمعظم أو كل أرض الإسلام.
فأي بلد إسلامي أخذ بما يحثّ عليه دينه من احترام لحقوق مواطنيه وحرياتهم؟ كل القيادات السياسية في الأصقاع الإسلامية تستغل اجتهادات فقهاء زمن غابر لتطبيق إسلام لا يعترف بأبسط حقوق المسلمة والمسلم، مدّعية بذلك تطبيق الدين رغم أنه، في الحقيقة، أتي لتحرير العباد من أي تسلّط عليهم بما أنه لا استعباد في هذا الدين اذ لا يسلم المؤمن أمره إلا لخالقه. وهذا هو الذي يضمن بقاءه حرا إزاء غيره من المخلوقات طرا، بما فيهم خاصة من ناقض أس الإسلام المكين في علاقة المؤمن المباشرة بربّه، فخلق البيعة فيه والكنيسة ببدعة رجال الدين، بينما لا كهّان ولا قساوسة في الإسلام، وهذه ميزته الكبّار.
لنعد إلى قضية الرؤية بالعين المجرّدة. فلئن كانت حقّا واجبة لكانت في إعطاء الحق لكل مسلم في تعيين بداية صومه وإفطاره بنفسه حالما يبصر الهلال ودون انتظار إذن من سلط دينية هي غالبا مسيّسة القرارات لأسباب لا علاقة لها بالدين. فهل يعقل في دين الفطرة والنيّة الحسنة إيجاب رؤية حسيّة لما يقتضي، أولا وآخرا، الإيمان؟ فهذا الأخير، حين يكون حقّا صحيحا ونزيها، لا علاقة له بالمعاينة والرؤية، بما أن الرؤية الخالصة بالقلب والذهن؛ ولا قيمة للجوراح أمام الإيمان الأصيل! لنسأل من يتعلّق بوجوب الرؤية ومجونها السنوي، أليس في هذا تشكيك في وجود الله بما أننا لا نراه بل نعلم ونعتقد دون رؤية عين في وجوده ولا مشكّ فيه؟ أليست الحال نفسها مع رؤية الهلال طالما توفّرت الأجهزة العلمية لتحديد اقتران القمر والشمس كل شهر، وهو ما يعلن بداية الشهر القمري؟ هلا أخذنا بهذه الرؤيا العلمية والتقنية بما أنها أقل خطأ من رؤية العين البشرية المجرّدة، والبشر ناقص بطبعه!
ولنقل لمن يرفض استعمال ما توفره لنا التقانة اليوم لاحترام تعاليم ديننا: أمّا وأنتم تنبذون الوسائل التقنية لتحديد بداية الشهر القمري، فهلا توقفتهم عن استعمالها على رؤوس المآذن لتسجيل وبثّ الآذان وتلاوة القرآن بينما لكل منهما قواعد مضبوطة أصبحنا نستهين بها اليوم. فالآذان المسجّل ليس كالآذان الذي يأتيه المؤذن قبل كل صلاة بعينها وبصوته؛ كما أن تلاوة الفرقان لها آداب في القراءة ومكانها إذ لا يمكن بثّ الذكرالحكيم بمكبّرات الصوت دون أن يتوفر ضرورة الإصغاء المستوجب له والتفرغ لاعتبار بمعانيه. فهل نجد هذا ما بثّنا للقرآن في الشوارع فلا يصغي إليه أحد حقّا؟ ؟ هلا كان هذا حصريا داخل المسجد حيث يتوفّر ذلك! أليس في كل ما نفعل من الاستهانة بالدين وقدره الشيء الكثير؟ هلا انتبنا إلى ما نفعل فحرصنا حقّا، لا تمويها، على حماية إيماننا من المغالاة فيه بالتصرفات التي هي كاللغو في الكلام، ما ندّد به الدين صراحة داعيا لتركه!