تعرّض رئيس الجمهورية أخيرا إلى موضوع منع عقوبة الاعدام ومدى تناقضه، حسب رأيه، مع مبدأ القصاص وحق الضحية وأهلها؛ وهو لا يرى أن من شأن ما تفرضه عدة اتفاقيات دولية مصادق عليها من طرف السلط التونسية التناقض مع تنفيذ العقوبة بتونس انتصارا لما يعتقده الأخلاق الإسلامية ولو كان ذلك مخالفا لما تقتضيه المعايير الدولية للديمقراطيات الحديثة. ويأتي هذا الموقف في نطاق النقاش الحاد الدي يعرفه المجتمع التونسي كبقية المجتمعات العربية الإسلامية حول ضرورة منع هذه العقوبة اللاإنسانية؛ فلئن تلتزم السلط بعدم تنفيذ الأحكام الصادرة بالاعدام، فهي لا تجرؤ على منع العقوبة لأسباب اجتماعية ودينية. ولعل الداعي الديني هو الوازع الأكبر لرفض منع هذه العقوبة إذ هو الذي يغذي مخيال الشرائح الاجتماعية بالبلدين بتعلة أن ذلك من شأنه أن يخل بواجباتهم الدينية واحترامهم لها. وهذا من الخطأ الفادح، بل هو من المغالطات الكبرى في الحمل على الاعتقاد أن الاسلام يحرم منع عقوبة الاسلام، إذ ديننا يشجع على ذلك كما نبينه في هذه المقالة بالتفصيل.
ولنذكّر أوّلا أن حق الحياة الذي يؤكد عليه الدستور التونسي يقتضي منطقيا منع عقوبة الاعدام، وفي ذلك الاحترام الكامل لا للنص القانوني الأعلى فقط بل وللدين الإسلامي من زاوية مقاصده وأيضا نصه. ثم إن منع عقوبة الإعدام، كما نبيّنه في الجزء الثاني من هذا الحديث، فرصة سانحة للإسلام لأن يدخل قلب المحكوم عليه بالمؤبد في نطاق سياسة تجعل من رواق الموت رواقا للروحانيات يُعمل فيها على حمل المعنيين بالأمر على التوبة عن أفعالهم فالتكفير عما اقترفوه من جرم بالعودة إلى تعاليم الدين والتمعن فيها لتصدق توبتهم بنيل عفو من ظلموا فعفو الله لصدق التوبة. لذا، نقول أن إبقاء عقوبة الإعدام هو كفر بالله، لأن الحق في الحياة مقدس في الإسلام، فلا يجوز المساس به، إذ الله هو الوحيد الذي يقبض الحياة كما يعطيها لخلقه. فالإسلام، لئن أقر القصاص، فمن باب إحكام حكمته بالتدرج في الأحكام، إذ لا يفتأ يدعوالمسلم إلى التسليم لله وحده في كل ما يهمّه من أمور، خاصة التي تتعلق بأخص خاصياته؛ ولا شك أن من أعظم نزعاته الأخذ بالثأر وحق الدم. فقد دعا الله إلى العفو، لا للتغاضي عما يقترفه العبد من ذنب لعله يعظم فلا يستحق الشفقة في فضاعته، وإنما لترك الباب مفتوحا على مصراعيه لهذا المذنب في حق غيره وفي حق نفسه للعودة لله والتكفير عما اقترفت يداه فالعمل على إصلاح ما أفسد في الناس وما فسد في طبعه. هذه فلسفة الإسلام وروحه السنية : عمل بلا هوادة لتزكية النفس، طالما فيها رمق، فلا يقبضها إلا خالقها متى أراد.
نعم، هناك نصوص صريحة تقر عقوبة الإعدام، ولكن النص لا يلغي روحه التي هي أوكد احتراما من حرفه. فما هي روح الإسلام بخصوص عقوبة الإعدام؟ إنها روح العدل والإنصاف والتسامح. ولعل أكبر دليل على ذلك دعوة الإسلام الصريحة والمؤكدة إلى درء الحدود بالشبهات حسب الحديث النبوي المشهور : «ادرأوا الحدود بالشبهات!». نتبين ذلك في الشروط العديدة التي يفرضها الإسلام لإقامة حد الإعدام. فهذه العقوبة تنتفي لمجرد وجود أدنى شك أو لانتفاء أقل عنصر من عناصر تأكد الجريمة. إضافة إلى ذلك، فالله يترك دوما الباب مفتوحا للصفح والمغفرة، سواء كان هذا من طرف العبد، إذا كانت الجريمة اعتداء على الأشخاص، أو من لدنه، إذا تعلق الأمر بعلاقة الإنسان بخالقه. فلنتمعّن في الحالات التي أقر فيها الله عقوبة الإعدام، لتبيّن مدى انتفاء القول بضرورة تطبيقها باسم حرف النص القرآني لأن روح هذا النص نفسه تدعو إلى عدم تطبيقه، بل تسمح برفع عقوبة الإعدام تماما.
* قاتل العمد : أول حالة متفق عليها من الحالات المستوجبة لحكم الإعدام هي القتل العمد. ولكن من المتفق عليه أيضا أن لا توجد أي شبهة في وقوع مثل هذه الجريمة، لأن مجرد الشبهة هي ظلم في ديننا. فما هو القتل العمد من منظور إسلامي؟ إنه قتل النفس بدون أي موجب أو سبب معين؛ إنه، شرعا، القتل بغير أدني مبرر. وبما أن القتل عموما له أسباب ومسببات، فهو مما يدرأ بالشبهات. ومما يؤكد ذلك الباب العريض المفتوح أمام أهل القتيل للصفح والعفو. بل إن الله يحث على ذلك، معتبرا أن الصفح والعفو هما الأصل في علاقة المسلم بأخيه المسلم، فيقول في الآية 40 من سورة الشورى «وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ». تلك سماحة الإسلام: فإذا صدر حكم بالإعدام على قاتل ثبتت إدانته ثم اعترض أهل المقتول على الحكم وعفوا على القاتل، فالعفو هو الذي ينفذ لا حكم الإعدام! هذا أكبر الدليل على تعلق الإسلام بالإصلاح والمغفرة لتحقيق العدالة.
* الزاني المحصن : الحالة الثانية التي ورد فيها حكم الإعدام في الإسلام تتعلق بالزاني المحصن. وهنا أيضا نرى الإسلام يشدد في ضرورة تحقق الزنا نظرا لشدة العقاب؛ بل إن التشدد في البرهان والأدلة ليبين أن روح النص هي الدعوة للعفو والتسامح لا للعقاب والإنتقام. فالعدالة كما ارتآها الإسلام تقتضي هنا أن يكون الزنا بثبوت ولوج ذكر الزاني بفرج الزانية. فليس المعني في قضية الحال مجرد الجماع أو المباشرة أو احتكاك الجسد بالجسد. هذا وتكون الشهادة على ذلك وجوبا من طرف أربعة شهود عدول. ولا مجال للتذكير هنا أن عدالة الشهود تقتضي نزاهتهم التامة، إذ يكفي أن تنتفي إحدى شروط العدالة للشاهد أو الإخلال بضوابطها حتى يُمنع على القاضي إصدار حكم الإعدام، بل ويتوجب عليه مقاضاة الشاهد لأجل القذف.
* الحارب : الحارب هو الممتهن الحرابة، وهي الإعتداء على الناس بقطع الطريق والقتل من أجل السلب والنهب. ولخطورة هذه الجريمة التي تعني انعدام الأمن، فقد أوجب الله أبشع حكم إعدام، ألا وهو قطع الأيدي والأرجل من خلاف والصلب. ولعل هذه البشاعة هي بقدر بشاعة عمل متعاطيها. إلا أن الذي لا شك فيه هو أن هذه العقوبة كسابقاتها تنتفي بوجود مجرد الشبهة. بل وتقتضي أيضا أن يكون قاطع الطريق حقا من المفسدين في الأرض، امتهن قطع الطريق؛ فهو لا يتعاطى ذلك لمرة أو لسبب ما، كما نرى اليوم في ما يُسمّى عند بعض المتزمتين جزافا حرابة كالاعتصامات. فعقوبة الإعدام هي لمن امتهن الجريمة المنظمة في القتل والسلب والنهب، ولم يتعاطاها لسبب من الأسباب غير الإفساد في الأرض وإرهاب السابلة وإزهاق الأرواح.
تلك هي الحالات الموجبة للإعدام في الإسلام بحرف النص الذي يقتضي استيفاء شروط عدة؛ أما روحه، فهي تقتضي الركون إلى التسامح وإلى العدل الإلهي. ومن العدل الإلاهي، إذا لم نكتف بروح نصوصه، أن نعتبر أحكامه بشروطها قد أقرت لتطبق في مجتمع إسلامي كامل الأوصاف من جميع نواحيه الإجتماعية وخواصه البشرية. وطالما لم يبلغ هذا المجتمع تلك الصفات، فمن الحمق تطبيق نصوص أعدت لمجتمع أرقى درجة، لأنها في تلك الحالة تفقد كل ما فيها من عدالة إلاهية، فلا يبقي إلا ما يضر بالدين وينفي سماحته.
من يشكك في أن للإسلام نصا وروحا؟ فإذا تعرض النص لحكم، فربما تقتضي روحه خلاف ذلك الحكم، لأن ديننا السمح اهتم أولا وقبل كل شيء بطبيعة المجتمع الذي جاء لترتيبه وبواقع البشر الذي أراد الارتفاع به إلى حال أفضل. ولا شك أن طبيعة المجتمع اليوم وحال بلادنا تقتضيان تفعيل روح النص القرآني دون حرفه لانتفاء العديد من الأسباب التي اقتضت أن يأتي النص القرآني بحكم الإعدام رغم أن روحه حدّت من تطبيقه بصفة شبه كلية. لقد ضبط الله مقاصد للشرع خمسة من أهمها، بعد حفظ الدين، حفظ النفس. وما حفظ النفس إلا منع إزهاق الروح والعمل على تطبيق منع عقوبة الإعدام بين البشر. والعدالة الإلاهية أعلى وأكبر من عدالة البشر، وهي وإن كانت نسبية في الحياة الدنيا، فهي مطلقة في الآخرة، والأفضل للبشر الأخذ بالمثال الإلهي في توخي العدالة في دنياهم وترك العقاب إلى عدالة الله المطلقة في الآخرة. لهذا نرى أنه لا مانع البتة من المنظور الإسلامي إقرار منع عقوبة الإعدام خاصة وأن الدستور يقتضي ذلك. لهذا، نأمل أن يغير رئيس الجمهورية رأيه، وهو الراعي للقانون الراعي للدين بالبلاد، فيدعو أهل الإسلام إلى عدم الإضرار بقيم دينهم النبيلة وسماحة تعاليمه. فكيف يسمح المؤمن الحق لنفسه إقرار مبدأ قبض روح العبد من طرف المخلوق دون خالقه؟ سؤال نطرحه على ذكاء وفطنة من يداوم التشبث بعقوبة نبذتها الشعوب المتحضرة، والإسلام حضارة ! وللحديث بقية في ما نقترحه تعويضا للإعدام تنمية للروحانيات الإسلامية.