قضية الزنبور من الأدب إلى السياسة في تونس
عُرفت في الأدب قضية الزنبور التي ذهب ضحيتها العلامة اللغوي سيبويه؛ وأحرى أن تُعرف في أدب السياسية بجميع معاني الأدب خاصة وأن السياسية أصبحت مطية للخزغبلات بانعدام الأخلقة السياسية التي لطالما دعونا إليها، وكذلك لأننا نعيش اليوم قضية الزنبور في السياسة بتونس، ولا خلاص منها ومن تداعياتها إلا بأخلقة السياسية. نبيّن كيف يكون ذلك في رأينا بعد التذكير بقضية الزنبور في الأدب العربي وما تعنيه في السياسة التونسية اليوم. فما يحدث اليوم ببلادنا، التي يهيمن عليها من يدّعي الأخذ بتعاليم الدين الإسلامي للتمويه على الشعب وخدمة مصالحه الذاتية، لا يختلف عمّا عاشته البلاد الإسلامية في أوج حضارته، في العهد العباسي الأول الزاهر حيث كانت لغة القرآن عروس المجالس الأدبية التي تعددت فيها المناظرات. ونظرا لأن أصل العربية لغة البادية والأعراب، فقد كان العلماء كثيرا ما يحتكمون لحل النزاع المستحكم بينهم في أصول اللغة إلى الأعراب. ورغم الطبيعة العلمية لهذه المجالس وعلوّ قدر من يحضرها، كانت بعض الأحكام التي تصدر عنها غير صحيحة بالمرة لما يطرأ عليها، لأسباب سياسية وأيديولوجية، من غش واحتيال.
إن قضية الزنبور لهي أفضل المثال على ذلك، ذهب ضحيتها سيبويه نفسه رغم علو كعبه في العلم وجلال قدره، إذ حكم ضده أعرابي بغير الصحيح لرشوة نالها من خصيم عالمنا الجليل لأجل الحظوة السياسية التي كانت له والغرور العلمي الزائف. ذلك أن زعيم مدرسة البصرة اللغوية دافع عن رأي مخالف لرأى زعيم مدرسة الكوفة، وهو الكسائي، الذي تتلمذ على يديه ولي عهد الخلاتفة العباسية انذاك، الأمين، ابن الرشيد، تلميذه أيضا. لقد رأي سيبويه، وكان الأصح رأيا والأصوب نحويا، أننا لا نقول «كمن أعتقد أن لسعة الزنبور تختلف عن لسعة النحلة، فإذا هي إياها» بل نقول «فإذا هي هو». هذا ما ناقضه الأعرابي التي اسُتدعي للمجلس بعد أن ياع ذمته كاذبا بالرغم من أنه أكد أن لسانه لا يطاوعه على ذلك، فكان أن تم الاتفاق على أن يكتفي بالتصيص على صحة القول الخاطىء دون إعادته بلسانه.
طبعا، الغش في الأدب من المعروف والمشهور، إذ حتّى الكثير من الشعر الجاهلي من المنحول، وقع نظمه في العهد العباسي، كما بين ذلك طه حسين؛ والدين نفسه لم يسلم منه، ومن الكذب خاصة. فقد طغت فيه العديد من الأحاديث غير الصحيحة، المنحولة بصفة مهولة في إسلام الحديث رغم ما شعر به علماء السنّة، في وقت ما، من ضرورة استنباط الوسائل للتفريق بين نوعية الحديث وفرزها لأجل مساواته مع إسلام القرآن. فمعلوم أن نزعة التحيّل والكذب في الحديث كانت تُستحسن عند البعض، منهم ابن حنبل، إمام السنّة، لأجل غايتها في الوعظ، فتجعلهم يتقوّلون على الرسول باسم فعل الخير وعمل البر، ويتسامحون في ذلك مع الوسائل وإن كانت خسيسة وضيعة. والشأن بقي نفسه إلى اليوم في استحسان ما يُعتقد فيه الخير، أي أن الغاية تبرّر الوسيلة عند بعض رجالات الدين؛ ودعك ممن أخذ في السياسة فخبط فيها خبط عشواء. فبما أن ماضينا العربي الإسلامي، ناهيك عن حاضرنا، مشحون بمغالطات عدة، وجب التنبه إليها لمن رغب في النزاهة والموضوعية عملا بأخلاقية الإسلام الذي هو نزاهة أو لا يكون.
هذا يحملنا للتذكير بأن نظرة العديد من العرب اليوم لدين الإسلام أعرابية وليست عربية بالمرة؛ والفرق كبير. فالفكر العربي المتوقد يتميّز بذهن متفتح وعلم ثابت بضرورة الانفتاح على العالم وعلى الآخر المختلف، الشيء الذي مكّن من حضارة الإسلام. أمّا فكر الأعراب، فهو يزخر عجرفة وفهما ضيقا للأشياء مع الصلف والتكبّر، وكله إساءة للدين. لهذا، بيّن الله في محكم كتابه أن إسلام الأعراب لا علاقة له بدينه، قائلا ذلك بصريح العبارة في الآية 97 من سورة التوبة. نعم، إن العربية الفصحى، لغة القرآن، هي فعلا لغة هذا الأعرابي البدوي الجلف. وقد كان عرب المدن والقرى يبعثون بأطفالهم للعيش عند القبائل البدوية، وذلك خاصّّة لتعلّم اللغة العربية الفصحى وحذقها؛ كذلك كان شأن الرسول الأكرم. هذا، ورأينا علماء اللغة، عندما جاء الوقت لتقنين العربية كعلم قائم الذات، يرحلون من قبيلة إلى قبيلة لتعلم العربية الفصحى، التي كانت العربية القحة، عربية البادية، أي عربية الأعراب. رغم هذا، وبالرغم من أن العربي الفصيح هو البدوي لا محالة، أي الأعرابي، فالإسلام لم يكن بدويا بالمرة؛ بل أكّد ما بينه وبين عقلية البدوي من اختلاف. إنه أخذ فقط عنه لغة القرآن، ولكن لم يعتمد بالمرة على عقليته أو نظرته للأشياء، بل هو نبذها تماما. لكن تلك العقلية الأعرابية عادت بسرعة في الإسلام، ثم نجحت في إقامة إكليروس به جعل من الإيمان الروحاني مجرد عبادة وشعائر بلا روح عاثت فسادا في دين يبقى بريئا من التشويه الذي طاله.
هذا ما تعيش على وقعه البلاد منذ رفع رأس المال المتوحش إلى سدة الحكم أدعياء الأخذ بالإسلام يُفحشون في فهم معانية ويجعلون من درره بعرات حسب تعبير التوحيدي. فلا خلاص لتونس وللإإسلام إلا بالخلاص من القراءة الأعرابية له وللإحتيال المتفشي في فرضه حسب تصرفات لاأخلاقية ولا شرعية باسم التعاطي الأخرق للسياسة، وهو تعاطي النوكى إذ لا سياسة في الإسلام بدون أخلاق وشهامة؛ وهذا يقتضي الكف عن التصرف مثل السلف في قضية الزنبور وإعطاء الوجه المشرف للإسلام بما أننا نعتبوه مرجعياتنا الأولى، وذلك بالأخلقة السياسية. وذا يفرض أولا وقبل كل شيء الاعتراف بأن الإسلام دين الحقوق والحريات للعبد الذي لا يُسلم أمره لربّه إلا لأنه حرّ، لا يدين لأحد لتمتّعه بكامل حقوقه وحرياته. وهي في تونس تلك التي أتى بها الدستور؛ لذا لا بد من تفعيلها. هذا يفرض أخذ القرار السياسي على المستوى الحكومي بتجميد كل القوانين المخزية للعهد البائد التي تخالف ما أتى به الدستور، بدءًا بإبطال المناشير التي تناقض تلك الحريات. فلا مجال للأخذ بتعلة تدخل البرلمان إذ القوانين التي تُطبّق اليوم لاغية منذ دخول الدستور حيّز التفيذ ولا يمكن مواصلة الاعتماد عليها. كذلك، ولا داعي لانتظار أن يفرغ البرلمان من اختيار أعضاء المحكمة الدستورية إذ ثبت سوء نيته ما يفرض تفعيل إقامة المحكمة بالفراغ مباشرة من تكوينها بواسطة التسميات من طرف رئيس الجمهورية والمجلس الأعلى للقضاء فالمرور إلى انعقاد جلساتها بحضور العضو الذي تم انتخابه بعد في البرلمان رغم غياب البقية، إذ يتوفر النصاب القانوني بذلك. لقد حان الوقت لنبذ لعبة الزنبور السياسية بفهم السياسة والقانون أخلاقيا، حسب مقاصدهما، كما يتوجب ذلك للدين نفسه حتى لا نفسده وقد أصبح بعد غريبا، مطية للإجرام.
إن قضية الزنبور لهي أفضل المثال على ذلك، ذهب ضحيتها سيبويه نفسه رغم علو كعبه في العلم وجلال قدره، إذ حكم ضده أعرابي بغير الصحيح لرشوة نالها من خصيم عالمنا الجليل لأجل الحظوة السياسية التي كانت له والغرور العلمي الزائف. ذلك أن زعيم مدرسة البصرة اللغوية دافع عن رأي مخالف لرأى زعيم مدرسة الكوفة، وهو الكسائي، الذي تتلمذ على يديه ولي عهد الخلاتفة العباسية انذاك، الأمين، ابن الرشيد، تلميذه أيضا. لقد رأي سيبويه، وكان الأصح رأيا والأصوب نحويا، أننا لا نقول «كمن أعتقد أن لسعة الزنبور تختلف عن لسعة النحلة، فإذا هي إياها» بل نقول «فإذا هي هو». هذا ما ناقضه الأعرابي التي اسُتدعي للمجلس بعد أن ياع ذمته كاذبا بالرغم من أنه أكد أن لسانه لا يطاوعه على ذلك، فكان أن تم الاتفاق على أن يكتفي بالتصيص على صحة القول الخاطىء دون إعادته بلسانه.
طبعا، الغش في الأدب من المعروف والمشهور، إذ حتّى الكثير من الشعر الجاهلي من المنحول، وقع نظمه في العهد العباسي، كما بين ذلك طه حسين؛ والدين نفسه لم يسلم منه، ومن الكذب خاصة. فقد طغت فيه العديد من الأحاديث غير الصحيحة، المنحولة بصفة مهولة في إسلام الحديث رغم ما شعر به علماء السنّة، في وقت ما، من ضرورة استنباط الوسائل للتفريق بين نوعية الحديث وفرزها لأجل مساواته مع إسلام القرآن. فمعلوم أن نزعة التحيّل والكذب في الحديث كانت تُستحسن عند البعض، منهم ابن حنبل، إمام السنّة، لأجل غايتها في الوعظ، فتجعلهم يتقوّلون على الرسول باسم فعل الخير وعمل البر، ويتسامحون في ذلك مع الوسائل وإن كانت خسيسة وضيعة. والشأن بقي نفسه إلى اليوم في استحسان ما يُعتقد فيه الخير، أي أن الغاية تبرّر الوسيلة عند بعض رجالات الدين؛ ودعك ممن أخذ في السياسة فخبط فيها خبط عشواء. فبما أن ماضينا العربي الإسلامي، ناهيك عن حاضرنا، مشحون بمغالطات عدة، وجب التنبه إليها لمن رغب في النزاهة والموضوعية عملا بأخلاقية الإسلام الذي هو نزاهة أو لا يكون.
هذا يحملنا للتذكير بأن نظرة العديد من العرب اليوم لدين الإسلام أعرابية وليست عربية بالمرة؛ والفرق كبير. فالفكر العربي المتوقد يتميّز بذهن متفتح وعلم ثابت بضرورة الانفتاح على العالم وعلى الآخر المختلف، الشيء الذي مكّن من حضارة الإسلام. أمّا فكر الأعراب، فهو يزخر عجرفة وفهما ضيقا للأشياء مع الصلف والتكبّر، وكله إساءة للدين. لهذا، بيّن الله في محكم كتابه أن إسلام الأعراب لا علاقة له بدينه، قائلا ذلك بصريح العبارة في الآية 97 من سورة التوبة. نعم، إن العربية الفصحى، لغة القرآن، هي فعلا لغة هذا الأعرابي البدوي الجلف. وقد كان عرب المدن والقرى يبعثون بأطفالهم للعيش عند القبائل البدوية، وذلك خاصّّة لتعلّم اللغة العربية الفصحى وحذقها؛ كذلك كان شأن الرسول الأكرم. هذا، ورأينا علماء اللغة، عندما جاء الوقت لتقنين العربية كعلم قائم الذات، يرحلون من قبيلة إلى قبيلة لتعلم العربية الفصحى، التي كانت العربية القحة، عربية البادية، أي عربية الأعراب. رغم هذا، وبالرغم من أن العربي الفصيح هو البدوي لا محالة، أي الأعرابي، فالإسلام لم يكن بدويا بالمرة؛ بل أكّد ما بينه وبين عقلية البدوي من اختلاف. إنه أخذ فقط عنه لغة القرآن، ولكن لم يعتمد بالمرة على عقليته أو نظرته للأشياء، بل هو نبذها تماما. لكن تلك العقلية الأعرابية عادت بسرعة في الإسلام، ثم نجحت في إقامة إكليروس به جعل من الإيمان الروحاني مجرد عبادة وشعائر بلا روح عاثت فسادا في دين يبقى بريئا من التشويه الذي طاله.
هذا ما تعيش على وقعه البلاد منذ رفع رأس المال المتوحش إلى سدة الحكم أدعياء الأخذ بالإسلام يُفحشون في فهم معانية ويجعلون من درره بعرات حسب تعبير التوحيدي. فلا خلاص لتونس وللإإسلام إلا بالخلاص من القراءة الأعرابية له وللإحتيال المتفشي في فرضه حسب تصرفات لاأخلاقية ولا شرعية باسم التعاطي الأخرق للسياسة، وهو تعاطي النوكى إذ لا سياسة في الإسلام بدون أخلاق وشهامة؛ وهذا يقتضي الكف عن التصرف مثل السلف في قضية الزنبور وإعطاء الوجه المشرف للإسلام بما أننا نعتبوه مرجعياتنا الأولى، وذلك بالأخلقة السياسية. وذا يفرض أولا وقبل كل شيء الاعتراف بأن الإسلام دين الحقوق والحريات للعبد الذي لا يُسلم أمره لربّه إلا لأنه حرّ، لا يدين لأحد لتمتّعه بكامل حقوقه وحرياته. وهي في تونس تلك التي أتى بها الدستور؛ لذا لا بد من تفعيلها. هذا يفرض أخذ القرار السياسي على المستوى الحكومي بتجميد كل القوانين المخزية للعهد البائد التي تخالف ما أتى به الدستور، بدءًا بإبطال المناشير التي تناقض تلك الحريات. فلا مجال للأخذ بتعلة تدخل البرلمان إذ القوانين التي تُطبّق اليوم لاغية منذ دخول الدستور حيّز التفيذ ولا يمكن مواصلة الاعتماد عليها. كذلك، ولا داعي لانتظار أن يفرغ البرلمان من اختيار أعضاء المحكمة الدستورية إذ ثبت سوء نيته ما يفرض تفعيل إقامة المحكمة بالفراغ مباشرة من تكوينها بواسطة التسميات من طرف رئيس الجمهورية والمجلس الأعلى للقضاء فالمرور إلى انعقاد جلساتها بحضور العضو الذي تم انتخابه بعد في البرلمان رغم غياب البقية، إذ يتوفر النصاب القانوني بذلك. لقد حان الوقت لنبذ لعبة الزنبور السياسية بفهم السياسة والقانون أخلاقيا، حسب مقاصدهما، كما يتوجب ذلك للدين نفسه حتى لا نفسده وقد أصبح بعد غريبا، مطية للإجرام.