رمضان زمن المرض
يوميات في مرض الإسلام
اليوم 22
الجمعة 15 ماي 2020
بيناّ من تجليات مرض الإسلام أنه شعبيا إسلام افتراضي؛ أمّا رسميا، فهو وهم ديني أو، في أفضل الحالات، إسلام موظف سياسيا، لا علاقة له البتّة بالإيمان الإسلامي. ولعله من الممكن توصيف هذا الفهم بأنه أعرابي كما نعته الفرقان، إسلام دعيً شكلي، يأخذ بالرسم بلا فتيل من الإيمان، كما قال تعالى بالآية 14 من سورة الحجرات: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم).
نظرة العديد من العرب اليوم لدين الإسلام أعرابية وليست عربية بالمرة؛ والفرق كبير. فالفكر العربي المتوقد يتميّز بذهن متفتح وعلم ثابت بضرورة الانفتاح على العالم وعلى الآخر المختلف، الشيء الذي مكّن من حضارة الإسلام. أمّا فكر الأعراب، فهو يزخر عجرفة وفهما ضيقا للأشياء مع الصلف والتكبر، وكله إساءة للدين. لهذا، بيّن الله في محكم كتابه العزيز أن إسلام الأعراب لا علاقة له بدينه، قائلا بصريح العبارة في الآية 97 من سورة التوبة: (الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم).
نعم، إن العربية الفصحى، لغة القرآن، هي فعلا لغة هذا الأعرابي البدوي الجلف. وقد كان عرب المدن والقرى يبعثون بأطفالهم للعيش عند القبائل البدوية، وذلك خاصّّة لتعلّم اللغة العربية الفصحى وحذقها؛ كذلك كان شأن الرسول الأكرم. هذا، ورأينا علماء اللغة، عندما جاء الوقت لتقنين العربية كعلم قائم الذات، يرحلون من قبيلة إلى قبيلة لتعلم العربية الفصحى، التي كانت العربية القحة، عربية البادية، أي عربية الأعراب. رغم هذا، وبالرغم من أن العربي الفصيح هو البدوي لا محالة، أي الأعرابي، فالإسلام لم يكن بدويا بالمرة؛ بل أكّد ما بينه وبين عقلية البدوي من اختلاف. إنه أخذ فقط عنه لغة القرآن، ولكن لم يعتمد بالمرة على عقليته أو نظرته للأشياء، بل هو نبذها تماما.
لكن تلك العقلية الأعرابية عادت بسرعة في الإسلام، ثم نجحت في إقامة إكليروس به جعل من الإيمان الروحاني مجرد عبادة وشعائر بلا روح عاثت فسادا في دين يبقى بريئا من التشويه الذي طاله. ولعله من المفيد التذكير هنا أن ما حدث للإسلام لا يختلف عمّا عاشته لغة القرآن في المجالس الأدبية التي تعددت إبان أوج حضارته، في العهد العباسي الأول الزاهر. فهذه المجالس، وفيها المناظرات لا تنتهي، كانت كثيرا ما تحتكم إلى الأعراب في قضايا تشغل علماء اللغة. ورغم الطبيعة العلمية لهذه المجالس وعلوّ قدر من يحضرها، كانت بعض الأحكام التي تصدر عنها غير صحيحة بالمرة لما يطرأ عليها، لأسباب سياسية أو أيديولوجية، من غش واحتيال. ولا شك أن قضية الزنبور المشهورة أفضل المثال على ذلك، وقد ذهب ضحيتها سيبويه رغم علو كعبه في العلم وجلال قدره، إذ حكم ضده أعرابي بغير الصحيح لرشوة نالها من خصيم عالمنا الجليل لأجل الحظوة السياسية التي كانت له والغرور العلمي الزائف.
طبعا، إن كان الغش في الأدب من المعروف والمشهور، فحتّى الكثير من الشعر الجاهلي من المنحولو وقع نظمه في العهد العباسي، كما بين ذلك طه حسين، فالدين نفسه لم يسلم منه، من الكذب خاصة. فقد طغت فيه العديد من الأحاديث غير الصحيحة، المنحولة بصفة مهولة رغم ما شعر به علماء السنّة، في وقت ما، من ضرورة استنباط الوسائل للتفريق بين نوعية الحديث وفرزها. هذا، ومعلوم أن نزعة الغش والكذب في الحديث كانت تُستحسن عند البعض، منهم ابن حنبل، إمام السنّة، لأجل غايتها في الوعظ، فتجعلهم يتقوّلون على الرسول باسم فعل الخير وعمل البر، ويتسامحون في ذلك مع الوسائل وإن كانت خسيسة وضيعة.
والشأن بقي نفسه إلى اليوم في استحسان ما يُعتقد فيه الخير، أي أن الغاية تبرّر الوسيلة عند بعض رجالات الدين؛ ودعك ممن أخذ في السياسة فخبط فيها خبط عشواء. فبما أن ماضينا العربي الإسلامي، ناهيك عن حاضرنا، مشحون بمغالطات عدة، وجب التنبه إليها لمن رغب في النزاهة والموضوعية عملا بأخلاقية الإسلام الذي هو نزاهة أو لا يكون.
لئن أكدّنا وجوب القطع اليوم مع الإسلام الأعرابي، فلا بد من الانتباه إلى أن كلامنا لا يحيل إلا للفهم الإعرابي للدين بدون أي تمييز بالمرّة بين العربي والأعرابي في نمط العيش، وقد سبق أن بينّا انعدام أي تفوّق للحضر على البدو، إذ القضية أخلاق، وهذه للجميع؛ حتّى وإن كانت أيضا من سياسة الأمو ر الأحرى بالتواجد في المدن وحواضر البلدان. الخروج من الدين الأعرابي ليس إذن في تغيير نمط الحياة، بل في نمط التفكير؛ فكم من متمدّن، أي ساكن المدينة، بقي همجي الطباع والتفكير!
يكون القطع ذاك بالعودة للصحيح من دين الإسلام العربي، هذا الإيمان السمح المتسامح، دون التعلّق بمجرّد النص وظاهره، بل أولا وآخرا بمقاصده وروحه؛ ما من شأنه أن يحفظ لتعاليم الدين، كما أتى بها خاصّة القرآن المكّي، صفة ذهن العربي اللبق، بعيدا عن عنجهية الأعرابي المتزمت. إن القراءة الأعرابية للإسلام ولتعاليمه لتقيم فيه الأصنام المعنوية، مشوّهة الدين الذي جاء بهدم كل الأصنام؛ وليس لكلام الله أن يكون نصا لا روح فيه، وإلا غدا ذاك الصنم. كذلك الأعرابي، بقراءته الخاطئة للإسلام، يجعل الدرّة بعرة، حسب تعبير التوحيدي.
اليوم 23
السبت 16 ماي 2020
بقراءتنا الأعرابية لدين الإسلام خلقنا فيه نفس الفرق الذي نجده في المسيحية بين عيسى الناصري وعيسى النصارى والذي بيّنه جبران خليل جبران في «رمل وزبد». فلنا اليوم في ديننا محمّد الإسلام ومحمد المسلمين؛ الأوّل هو النبي الصحيح، والثاني، نبي المسلمين، أي نبي العامّة ونتاج الفقه، مع عودة من حين لحين في بعض المواضع من الإسلام الشعبي الافتراضي إلى محمد الإسلام.
فما لنا اليوم من الفقه الإسلامي ممّا يُنعت بسنّة محمّد ليس من رسالته، بل يناقضها أحيانا. وهذا يؤكده ما نقرأ مثلا في كتاب الموافقات لصاحب نظرية مقاصد الشريعة حين يقول: «وجدت نفسي غريبا في جمهور أهل الوقت لكون خططهم قد غلبت عليها العوائد، ودخلت على سننها الأصلية شوائب من المحدثات الزوائد». ومما يستشهد به الإمام الشاطبي، ما «رُوي عن أبى الدرداء أنه قال: لو خرج رسول الله (صلعم) عليكم ما عرف شيئا مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة، قال الأوزاعي: كيف لو كان اليوم؟ قال عيسى بن يونس: فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان؟». وأضيف أنا: وكيف لو أدرك السلف زمننا الراهن، زمن مرض الإسلام؟
محمّد، نبي الإسلام، لو خرج اليوم علينا، لاشك أنه سيدعونا للعودة إلى الإسلام الذي أتى به رحمة للعالمين، فأصبح نقمة على العالمين! فدين محمد دين الحرية المطلقة والتحرر من كل قيد سوى التسليم لله الذي لا واسطة بينه وبين عبده. وليس في دينه لأي فقيه عرف تعاليم الله أن يتحكم في إيمان المسلمين، بل وضميرهم ونيتهم الحسنة، إذ يغيب عنه، ضرورة، الشيء الأكثر من حكمة الله الواسعة مما يدّعي معرفته.
هذا هو الإسلام الذي لا بد أن يحين الوقت لتجديده، إذ نحن على رأس قرن جديد وعلى أرض سمحة متسامحة، أرض تونس الإمتاع والمؤانسة، الأرض الطيبة الثرى، السخية بتربة أوليائها ودماثة أخلاق بناتها وأبنائها. فمن المتحتّم أن تكون تقوى المسلم التقي فيها في قلبه وتصرفاته مع الآخر لا في جوارحه حسب الشعائر. إن المسلم ليس آلة شعائرية تتحرّك حسب طقوس تعبّدية، بل كل إيمانه في كسبه ومقولته ونيّته؛ فلا إيمان له في دين محمد الإسلام إن انعدم من ذلك العدل ومكارم الأخلاق. هذا الإسلام الروحي الذي عرفه وعرّف به أهل التصوف، دين الحب كما بيّنه شاعر التصوف المصري ابن الفارض في تائيته الكبري المسمّاة أيضا «نظم السلوك»، أو ابن عربي القائل : «أدين بدين الحب أنّى توجهتْ *** ركائبه فالحب ديني وإيماني».
إن نبي المسلمين، خلافا لنبي الإسلام، أي الرسول كما تخيّلته العامّة، لهو صورة من استنباط الفقهاء وخدم الساسة، ذبان البلاطات حسب تعبير الجاحظ، بما فيها البلاطات الإعلامية اليوم؛ ولا حقيقة لهذه الصورة المختلقة. فمحمد أصبح عند المسلمين بمثابة المسيح، يُحتفل بميلاده وتقلّد حركاته وسكناته، حتّى تلك التي هي من طبيعته البشرية، بما أنّه لا سنّة إلا في حديثه وفعله عندما يتناسقان مع لفظ وروح الفرقان.
لذلك من الممكن القول أن إسلام المسلمين اليوم لم يعد إسلام رسالة محمّد، بل هو إسلام الفقهاء وقد كان معظمهم من الموالي، كما بيّن ذلك ابن خلدون؛ فقههم إذن يدين باليهودية والمسيحية أكثر منه بالإسلام، بما أنّ مخيالهم ولاوعيهم كانا مشبعين بتعاليمهما؛ وذلك ما عُرف في التاريخ الإسلامي بالإسرائيليات.
بهذا، اختلق المسلمون كنيسة في الإسلام غير شرعية، كما اختلقها في المسيحية رجال الدين، ولو أنها كانت بها أكثر شرعية، إذ الكنيسة من صنع البشر، كما يقول جبران خليل جبران في «الأرواح المتمرّدة»: «نعبد ونصلّ حسب مشيئة نفوسنا، لا مثلما يريد الرهبان والقساوسة!» هذا هو الإسلام، السلام الروحي والمادي؛ لذا هو سرمدي، لا ما آل إليه في مرضه.
الإسلام الحالي مرّ من إيمان القرآن إلى إيمان الحديث حسب تعبير جورج طرابيشي بتصرّف بسيط. وهذا الانقلاب الأيديلوجي قام به أهل السنّة محاكاة للشيعة في تغيير مفاهيم الدين حسب نص وروح القرآن؛ وهي مسؤولية الإمام الشافعي أوّلا ثم من بعده ابن حنبل الذي وقع تعميده كإمام السنّة. وقد سبق أن تحدّثنا عن مسؤولية عقلانيي الإسلام المعتزلة أيضا بافتعال قضية خلق القرآن في غير وقته وغير السبل الفضلى، والتي نعود إليها لاحقا ببعض التفاصيل الإضافية للكلام في ضرورة فتح الملف من جديد كما قلناه.
قبل ذلك، نواصل الكلام في الحديث وتعميده قاضيا على القرآن بهذه السنّة التي قامت ضدّا على الإسلام الشيعى - وقد كان أفضل المثال على تسييس الإيمان التوحيدي-، ففعلت فعله، إذ أصبحت لنا أيضا في السنّة ولاية فقهية. تم هذا من خلال حديث الرسول وقد أصبح آلية بأيدي الفقهاء للتشريع في الإسلام بينما لم يتوفر مثل هذا النفوذ للرسول، إذ هو في الإسلام مبلّغ لرسالة أو قانون الله، فهو مشرَّع (بفتح الراء المشدّدة) له لا مشرِّع (بكسر الراء)، إذ لا شارع ومشرّع في الإسلام إلا الله بالقرآن، والقرآن وحده.
فبما أن الحديث ارتفع مقامه ليساوي القرآن مع الشافعي، ثم ليتجاوزه مع ابن حنبل، أصبح بيد الفقيه اختراع الأحاديث لتقويل الرسول، ومن خلاله الله، لكل ما كان يراه؛ بذلك صار الباب مفتوحا لكل التجاوزات. ولعل لقائل أن يقول أنه وقع استنباط آلية التعديل والجرح لتفادي مثل تلك التجاوزات، إلا أن هذه الآلية، كما سبقت الإشارة، لا تُعنى بمتن الأحاديث بقدر ما تُعنى بسلسلة الأسانيد. ثم إنّها، مع التضخّم الفاحش للأحاديث الموضوعة، أصبحت لا تعمل بالشروط الأولى لصاحبي الصحيحين، بل توسعت فيها إلى حد لا حدّ له. وهذا يجعل، في الحقيقة، الأخلاق والنية الحسنة عند أهل الحديث المعيار الأول والأخير في صحة الإسناد، وبالتالي في صحة الحديث نفسه.
فلقد وصل الأمر إلى اعتبار الحديث صحيحا ما دامت روايته عن ثقة عن ثقة وصولا إلى الصحابي ومنه إلى الرسول، خاصة وأن معيار التوثيق الخاص بهذه الصنعة أو الصناعة، أي التعديل والجرح، وهو الغير موضوعي بالمرّة، كان ذاتيا محضا. ولنا عن الحاكم النيسابوري في «معرفة علم الحديث» الشهادة القيّمة في الغرض، إذ يقول أن «معرفة الحديث إلهام، فلو قلت للعالم يعلّل الحديث: من أين قلت هذا؟ لم يكن له حجّة». لذلك ذهب بعضهم إلى أن شبّه المعرفة بعلم الحديث بإنها ضرب من الكهانة، على الأقل في نظر الجهال بهذه الصنعة التي أصبحت صناعة، أو هي بعبارة أفضل تجارة.
سنعود للموضوع بالتفصيل لبيان نشأة علم الحديث السياسية والمأزق الأخلاقي الذي أدّى إليه تضخم الأحاديث الموضوعة ليفرض ما نسمّيه ضرورة استنباط فترة جديدة في الإسلام بعد إسلام الحديث، حسب عبارة طرابيشي، هي إسلام ما بعد الحديث في نطاق إسلام ما بعد الحداثة. يكون هذا في يومية بعد الغد إذ نخصص اليومية القادمة لتحية اليوم العالمي لمكافحة المثلية باسم الإسلام للمساعدة على خروجه من مرضه الحالي.
اليوم 24
الأحد 17 ماي 2020
هذا اليوم من رمضان هذه السنة الفارقة رمزي إلى أبعد حد، إذ يحتفل العالم فيه باليوم العالمي لمكافحة رهاب المثلية، وهو من أبشع مظاهر مرض الإسلام، إذ تتجاهل بلاد الإسلام هذا اليوم وما يمثّله بينما دينها الأولى بالاحتفال به. فالإسلام الصحيح لم يعادي المثلية أو اللواط خلافا للمعتقد الشائع، والذي فيه الظلم للناس وللدين معا، بما أن المثلية فطرة وضعها الله حسب مشيئته وحده في بعض الناس.
إضافة لاعتقادهم الخاطىء المسيء لدينهم والذي ندحضه بالدليل القاطع في ما يلي، بعتمد أهل التزمت في تونس لمنع الاحتفال بهذا اليوم والاعتراف بحق المثليين وبالتالي رفض إبطال تجريم المثلية، يعتمدون على الإحالة في الدستور للإسلام. وذلك هو مسمار جحا الذي كنت أشرت إليه سابقا.
كلّنا يعلم قصة مسمار هذه الشخصية الشعبية المثيرة والنموذجية لحس الشارع العربي؛ ومدارها أن جحا باع بيته إلى جاره الغني بثمن بخس، إلا أنه اشترط عليه أن يُبقي مسمارا بالبيت ملكاً له مع الحقّ في القدوم أنّى شاء إلى البيت للإطمئنان عليه. ونظرا لاعتقاد الجار أن الأمر هيّن لوضاعة الشرط وقيمة البيت خاصة وما فيه وقد أصبح ملكه بثمن زهيد جدا، قبل الشرط. بذلك لم يتنبّه إلى حيلة جحا الذي سيأتي كل يوم ليطمئن على مسماره العزيز؛ بل إنه يتعمد القدوم في أوقات الأكل والمنام وغيرها، ممّا فيه الإزعاج لصاحب البيت؛ حتى أن هذا الأخير لم يعد يحتمل الوضع المزري، وانتهى به الأمر إلى ترك البيت لجحا بما فيه.
لئن أصبحت هذه الحكاية الشعبية مضرباً للمثل في استخدام الحجج الواهية للوصول إلى الهدف المطلوب، فهي أيضا تبيّن كيف أن مثل هذه الحجج لها أن تنتصر في قضايا حسّاسة، مانعة الأخذ فيها بالحجج الجدية الهامة. وهذه هي الحال في قضية إبطال تجريم المثلية بتونس وبغيرها من بلاد الإسلام حيث الأمر نفسه بدساتيرها في الإحالة إلى الإسلام.
فرغم أن الجنس المثلي طبيعي، ولو كان شاذا في البشر، إذ هو شائع في الطبيعة؛ ورغم أن الإسلام لا يحرّمه، وقد ثبت ذلك بالدليل القاطع كما نذكّر به؛ ورغم أن الجنس العربي ثنائي، شأنه في ذلك ما نجد بالطبيعة حيث هو فيها الأغلب، فإن أهل التزمت يستغلون الإحالة إلى الدين وإلى ضرورة احترام قيمه كمسمار جحا. وإنّهم بمسمارهم هذا ينجحون في الاعتراض على إبطال الفصل 230 من المجلة الجزائية، مناط تجريم المثلية، رغم أنهم يكذبون على الإسلام في ذلك، وأنّه ما حرّم ولا جرّم هذا الجنس الفطري في بعض خلق الله.
أمّا ما يجعل أهل التزمّت يتمادون في غيّهم وظلم دين الإسلام المتسامح، فذلك لأنه لا أحد يُجابههم بكذبهم على الدين وإفسادهم لفهمه الصحيح، خاصة من أهل الدفاع عن الحق في المثلية من جمعيات المجتمع المدني له. فهي عديمة الجرأة في الاعتراض على هذا الكذب السافر وفي التصدي له بالدليل والبرهان رغم توفّرهما. ولعل السبب الأهم في ذلك أنهم يناضلون أساسا لأجل اللائكية لا لإبطال تجريم المثلية بتونس.
فمن المؤسف أن ترفض الجمعيات المناضلة من أجل إبطال تجريم المثلية استعمال سلاح الدين في نضالها من أجل حقها المشروع، رغم أنه الأوحد الفعّال؛ إنها، في أفضل الحالات، تعتقد خطأ أنه لا مجال للكلام في الدين وأن الآلية الوحيدة للانتصار في قضيتها هي في تجاهله. بذلك، تتجاهل في الحقيقة السبب الأصلي الذي يمنع نجاح مساعيها، أي مسمار جحا الذي بيّنّا.
هذا يؤكد ما سبق أن قلنا، أي أن الجمعيات المثلية تناضل في الحقيقة من أجل اللائكية، هذا الفصل بين الدين والسياسة على الأسلوب الغربي، رغم أنها لا تتحدث فيها علانية نظرا لرفضها الشائع بالبلاد. ولهذا تحصل على المساندة التامة من الغرب، مادية ومعنوية؛ وهي الإشكالية الكبرى هنا إذ تتم على حساب تنامي الظلم إزاء المثليين. فنتيجة للاستراتيجية الإعلامية السيئة في القضية التي فيها الخلط بين الحق في المثلية والامبريالية الغربية، ساءت حالة المثليين بالبلاد لردّة الفعل العنيفة من طرف لا المتزمتين وحدهم بل أيضا وخاصة من يستنكر المعاداة لدين البلاد.
إن الجمعيات المناهضة لرهاب المثلية، المدعومة ماديا، عموما، من طرف الغرب، تأخذ باستراتيجية عديمة الجدوى ببلاد الإسلام تقترحها عليها مثيلاتها الغربية التي تساندها وتموّلها؛ بل إن هذه الأخيرة لتمليها عليها أحيانا في نطاق لائكيتها. ومعلوم أن هذه اللائكية، لئن كانت مفيدة في الغرب في ميدان الحقوق والحريات، خاصة في المطالبة بالحق في الجنس، سواء مثليا كان أم لا، فهي تضر به في بلاد الإسلام، إذ لم يمنع القرآن المثلية وليس فيه إثم الشهوة أو خطيئة الغريزة الجنسية، كما هي الحال في الكتاب المقدس اليهو-مسيحي. ثم إن الفصل بين الدين والسياسة متوفر في الإسلام لصفته الثنائية الصفة كدين للمجال الخاص الحميمي، لا دخل لأحد فيه، ودنيا للشأن العام، لا دخل للدين فيه؛ وهذه إلا لائكية إسلامية يمكن اعتمادها عوض اللائكية الغربية المنبوذة شعبيا، أيا كان السبب، صحيحا أو خاطئآ.
إن الإسلام في فهمه الصحيح، أي في نص القرآن ومقاصده، كما نرى ذلك في جنّته بغلمانها وولدانها والحور العين بها، يعترف بحق ابن آدم في المتعة والشهوة، إذ المهم في الإسلام الصحيح، كما فهمه المتصوّفة، عدم الانقياد لهما وتمالك النفس في تعاطيهما؛ هذا هو الاعتدال في الغريزة والشهوات الذي ينادي به الإيمان الصحيح لتزكية النفس، إذ يبقى دين الحقوق والحريات. وكما نعلم، كان زواج المتعة معروفا في الإسلام، وكان أيضا حتى في موسم الحج في زمن الرسول وبعده قبل أن يحرّمه فقهاء أخذوا بالإسرائيليات فشوهوا بها دينهم وهم يعتقدون تزكيته.
وتلك حال من يعتقد أن الإسلام حرّم المثلية أو اللواط، فيظلم الدين علاوة على الناس، جاعلا من دين العدل والانصاف ملة الظلم والقهر. فالقائل بكراهة الإسلام للمثلية ليتقوّل الخطأ، معتمدا في ذلك على الآيات الخاصة بقوم لوط، بينما هي مجرد قصص، لا يُعتدّ بها في تأصيل الحرام والحلال في الفقه الإسلامي. فلا شيء في القرآن غير القصص؛ كما أن السنة الصحيحة، أي البخاري ومسلم، لا تتضمّن أي حديث في الغرض؛ فهل يُعقل هذا فيما اعتُبر أفحش الفواحش؟ هذا، وليس بالغريب ألا يمنع الإسلام المثلية بما أنا الجنس العربي ثنائي أو تمامي، لا يفرّق بين الذكر والأنثى؛ وتلك حاله في الإسلام، وفي زمن الرسول.
إن التجريم الحالي للواط في الإسلام من الاجتهادات التي بارت في الفقه الإسلامي، استنبطه الفقهاء قياسا على الزنا لتأثّرهم بالكتاب المقدّس. مع العلم أن اللواط ما كان في كل قوم لوط، بل في بعضهم، وإلا لما كانوا قوما؛ ثم إنهم ما عُوقبوا لأجل اللواط في بعضهم، بل لأنهم كانوا كلهم قطاع طريق، فعاقبهم الله أفحش عقاب على أفحش فعل. هذا، ولئن لم يذكر الله الحرابة أي قطع الطريق واكتفى بااللواط، فمن باب البلاغة العربية التي من شأنها تعميم الخاص لزيادة النكاية والهجاء. وقد علمنا أن اللواط كان سبّة في ذلك الوقت، بل أفحش الفواحش، خاصة عند أهل الكتاب، وقد كان العديد من أهل الإسلام منهم أو متأثرا بعاداتهم وتقاليدهم.
ما يؤكد كلامنا في الموضوع ما يراه زعيم المذهب الظاهري المعروف بشدّة تمسّكه بظاهر النص ورفضه للتأويل، خاصة الخاطيء كما هي الحال هنا. فابن حزم يرى أن الله عاقب قوم لوص لأجل الكفر لا لأجل اللواط. ثم هو يناقش في المحلّى كل ما قيل في الغرض من أحاديث، ويفنّدها واحدة واحدة ليخلص للقول أنّ لا حدّ في الغرض «إذ قد صح... أنه لا قتل عليه ولا حد لأن الله تعالى لم يوجب ذلك، ولا رسوله عليه السلام، فحكمه أنه أتى منكرا، فالواجب بأمر رسول الله (صلعم) تغيير المنكر باليد، فواجب أن يضرب التعزير الذي حده رسول الله (صلعم) في ذلك لا أكثر، ويكف ضرره عن الناس فقط... وبيقين يدري كل ذي حس سليم أن كف ضرر فعلة قوم لوط الناكحين والمنكوحين عن الناس عون على البر والتقوى ، وإن إهمالهم عون على الإثم والعدوان، فوجب كفهم بما لا يستباح به لهم دم، ولا بشرة، ولا مال... ونعوذ بالله من أن نغضب له بأكثر مما غضب تعالى لدينه أو أقل من ذلك , أو أن نشرع بآرائنا الشرائع الفاسدة».
لقد سبق أن اقترحت في مثل هذا اليوم من السنة الماضية والسنة التي قبلها أن يقع ردّ الاعتبار لدين السلام وإعطائه حق قدره في بلاد الإسلام بالانتصار لحقوق وحريات المثليين في يومهم العالمي، فتكون الفرصة السانحة للانتصار في نفس الوقت للإسلام وقد طالته محاولات التشويه من كل حدب وصوب. وبيّنت أن هذا الاقتران في التنديد برهاب المثلية والإسلام من شأنه أن يكون بالتذكير بمأساة الشاب المغاربي إحسان الجرفي، الذي قتل أشنع قتلة ببلجيكا سنة 2012 لا لشي إلا لأنه كان مسلما مثليا.
لقد اعتادت بلجيكا، بلد الضحية الثاني، إحياء ذكرى الفتى المغربي منذ سنوات في هذا اليوم بالذات بإطلاق اسمه عليه؛ فهلاّ استوردنا هذا اليوم للاحتفاء به بالبلاد المغاربية؟ أليس أهل الإسلام بها أولى بتحية روح هذا المسلم المثلي المثالي؟ علما وأن مصرع الفتى كان له الوقع الكبير في نفوس مواطنيه، لا فقط البجيكيين، بل أيضا المغاربة، نظرا لما كانت له من سمعة عالية وأخلاق سامية.
فهلاّ كف المناضلون لأجل حقوق المثليين عن تجاهل مأساة هذا الفتى، وهو منهم، ليتّخذوه أيقونة لنضالهم من أجل حقوقهم! فلا شك أنه بذلك تكون لهم أفضل الحظوظ للتوصل لإبطال تجريم المثلية ببلاد الإسلام عوض مواصلة استراتيجيتهم الحالية التي لا تخدم قضيّتهم بقدر ما تسعى في ركاب مصالح الغرب في عدائه للإسلام. وذا يكون بالدعوة لأن يكون الاحتفال بيوم 17 ماي بالبلاد المغاربية في المستقبل الاحتفاء في نفس الوقت بذكرى إحسان الجرفي ضد رهاب المثلية ورهاب الإسلام!
اليوم 25
الإثنين 18 ماي 2020
الفقه الإسلامي اليوم يعتمد الحديث والسنّة كمرجية أساسية أكثر من اعتماده القرآن، وقد فصل جورج طرابيشي الكلام في الموضوع بكتابه القيّم «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث. النشأة المستأنفة». وهذا يدعّم مقولتنا في أن الإسلام سياسي بطبعه. فأسباب نشأة الحديث وتضخمه المهول كانت سياسية بحتة، ممّا أدّى إلى المأزق الأخلاقي الناتج عن الكم الهائل من الأحاديث الموضوعة، وهو من مرض الإسلام الذي يعاني منه إلى اليوم. لذا قلنا أنّه يتحتّم ضرورة الخروج من هذه الحالة التي تتجاهلها الأغلبية المسلمة وتنمّيها الأقلية باستنباط زمن جديد في الإسلام بعد إسلام الحديث هو إسلام ما بعد الحديث. فلعل فيه استعادة الإسلام لصحّته ضمن إسلام اليوم، أي إسلام ما بعد الحداثة، بالعودة إلى أخلاقية الإسلام الأولى وهي السياسة الأخلاقية أو الأخلقة السياسية لإسلام ما بعد الحداثة (الإ-سلام).
نتكلّم في الغرض تباعا في هذه الأيام الأخيرة من رمضان مع التذكير، بداية، بالنشأة السياسية للحديث الذي بدأ تداول رواياته بصورة مكثفة بعد انقسام أمّة الإسلام إلى فرق سياسية متناحرة مع الفتنة الكبرى التي نشبت بداية من الجزء الثاني من حكم الخليفة الثالث عثمان بن عفان. هذا، ورغم المظاهر أو المقاربة الأولية للإحداث، لم يكن تناحر أهل الإسلام على الدين وفهمه الصحيح أو بخصوص مسائل لاهوتية، مثلما سيحدث لاحقا مع قضية خلق القرآن مثلا، بل كان أساسا على السلطة. ولا شك أن اللاهوت لم يكن علما في تلك الآونة كما لم يكن بعد بمعزل عن السياسة والصراع الذي هز بلاد الإسلام ولم يقعدها.
ومن الضروري العلم أن الحديث لم تكن له أي صفة شرعية قيل الفتنة الكبرى إلى حد منع المسلمين من تدوينه، فكان شفاهيا طيلة الصدر الأول من الإسلام، منحصرا تقريبا بالحجاز. ولمّا بدأت بوادر الفتنة، ودون خرق حظر التدوين، أخذ البعض في استعمال الحديث لتبرير نضاله بالدفاع عن شرعيته أو لاستعماله ضد خصومه. لذلك شعر بنو أمية، خاصة بعد أن رجّح ميزان القوى كفّتهم، إلى الحاجة لشرعنة نفوذهم؛ فأدّى بهم صعودهم إلى سدة الحكم إلى توظيف الدين لدعم سلطتهم؛ لذا، أمروا بتدوين الحديث.
إذن، بعد أن كان الحديث محظورا قبل الفتنة الكبرى في الحجاز، وفي طوره الشفهي، ثم بعد أن شرع خصوم الأمويين في استعماله ضدّهم، فإذا هو «أوّل منجنيق استعمله خصوم الخلافة الأموية لرجم شرعيتها» حسب تعبير طرابيشي، بعد هذا أدّت مقتضيات السياسة غير الأخلاقية، أو لنقل الواقعية، وبالمقابل، إلى «تدوين الحديث بأمر من أمراء بني أمية ليكون منجنيقا مضادا في الرد على خصومهم بمثل سلاحهم»، كما يواصل طرابيشي القول. ولنا أبلغ الشهادة في ذلك الاعتراف المشهور لابن شهاب الزهري : «كنّا نكره كتاب العلم، حتّى أكرهنا عليه هؤلاء الأمراء».
هكذا بدأ الحديث، أي سياسة دينية؛ ولو أنها حافظت في البداية بعض الشيء على أخلقة سياسة الإسلام، فلسوف تتطور سريعا إلى صنعة، بله صناعة، أو حتى تجارة رخيصة انطلاقا من القرن الثالث هجري. هذا أدّى إلى المرض الذي أصبح فيه الفقهاء سدنة المعبد الافتراضي الذي أقاموه في الإسلام. فمن المفارقات العظمى في إسلام زمننا أن نعظّم شأنهم وبعض فتاواهم في فهم متحجّر للدين بينما في ذات الوقت نسهى عن عديد الآيات في القرآن التي تنهي الرسول نفسه عن إتيان النزر القليل ممّا يأتونه. لذا، يطرح السؤال نفسه عن مدى صدق هؤلاء المدّعين التمسّك بالإسلام والسير على نهج الرسول وسنّته المختلقة عموما كما بينّاه في حديثنا عن مشكل الحديث مع بعض الأمثلة؛ ولنا لذلك عودة.
لا شك أن تقديس أهل الحديث لسنّة الرسول، وقد جعلوها بمثابة الصنم المعنوي في الإسلام، لم ينشأ من عدم، إذ كان مرور الإسلام من حقبة الدعوة إلى حقبة الدولة والسياسة فرض تقلص الحرية التي كانت الأس الأهم من أسسه. ولقد تمثّلت، إضافة إلى تعدّد أحرف التنزيل، بتعدّد القراءات. فهذه الأخيرة وقع توحيدها بمصحف عثمان، ثم ذهب قمع حرية الإسلام الأولى لا فقط إلى حرق المصاحف غير المصحف الإمام بل وأيضا منع القراءات الشاذة. ورغم بقاء بعضها إلى اليوم، سجّل لنا التاريخ محاولات في حمل القرّاء قسرا على ترك قراءاتهم، كما حصل مع أبي عمرو بن العلاء، اللغوي البصري الشهير وأحد القرّاء السبعة، الذي استتيب على قراءته المخالفة بعض المخالفة لما استقرّ عليه المصحف العثماني في زمانه، فآثر تركها على أن تُضرب عنقه؛ علما وأن هذا القارىء مات سنة 154 هجرية.
لذلك تطوّر القمع وطال الحديث ليفرض قراءة أحادية للإسلام عبر الطبيعة الإلهية التي ستصبح له تقريبا في الإسلام. وهذا لا يُستغرب في حضارة النص المقدّس التي كانتها حضارة دين محمّد؛ إلا أن الغريب هو بلوغ الحد الذي وصله علم الحديث في دينه، بينما كلمة الحديث لم تكن متداولة في زمن الرسول ولم تكن تٌطلق في بداية الإسلام إلا على القرآن الذي يصف نفسه بكونه «أحسن الحديث» (الزمر 23).
لئن نما وترعرع الحديث سريعا وبتلك الصفة الخيالية، فربّما كان ذلك ما من باب ما يسمّى في التحليل النفسي بالنقلة، أي هذه الظاهرة للنشاط الفكري أو اليدوي التي يغيّر بها نشاطا آخر تابعا له لجعله أسهل (وتلك النقلة الإيجابية) أو مستحيلا، وهي النقلة السلبية المعنيّة هنا إذ يقدّس هؤلاءالفقهاء دون وجه إسلامي سليم من يخالفون نص رسالته وروحها وينقضون ما أتى به؛ وهو أساسا، إضافة لتأكيد التوحيد، إتمام مكارم الأخلاق.
ومن البديهي أنّه لا تخفى على أحد، لا محالة، كثرة الآيات التأديبية للنبي والتي تحصر رسالته في واجب الالترام بتأديتها إذ ليس له غير التبليغ. فمن خاصيات نبي الإسلام، إضافة إلى أنه يحافظ على وضعه البشري خارج نطاق الرسالة، أنّه مأمور لا حق له في الأمر بغير ما أمر الله الذي يبقى علمه الصحيح نهائيا عنده وحده؛ أمّا سائر ما أتى في شرحه وفهمه فاجتهاد بشري ناقص بالضرورة. وهذه علمية دين الإسلام، بما أن خاصية النظرية العلمية، كما ثبت منذ المفكّر بوبر، أنّها قابلة للدحض والنقض.
ولكن هاهم الفقهاء يُفقدون الإسلام علميته بتجاوزهم ما منع الله على نبيّه وفرض رؤياهم للأمور؛ فهل لهم، دون رسول الإسلام، هذه الصلاحية ؟ إلا يكون تقديسهم لحديثه من الوهم اللا شعوري، مجرّد تمويه في لاوعيهم للتغطية والتعمية على تجاوزهم حدودهم؟ فبما أن في القرآن التأديب المتكرّر للرسول، فأحرى أن تكون تلك الآيات التأديبية، التي هي أحيانا شديدة اللهجة، للمؤمنين أجمعين وعلى رأسهم أئمتهم حين يتجاهلون مقتضياتها والعمل بها حرفا وروحا!
الأمثلة عديدة في الغرض، نكتفي بأن نسوق منها في رمضان هذا دعوى فرض التقوى على الناس يإجبارهم على الصوم أو منع الإفطار العلني. فكأن المؤمن الصائم لله لا يقوم بذلك إلا للتظاهر، لا لأجل الوازع الأول للامتناع عن الأكل وهو الشعور بما يشعر به الجائع من البؤساء، وبالتالي السعي بصراحة في واجب الإطعام دون أشهار؛ هذا هو مغزى رمضان! وليس ذاك ما يفعله أغلب الصائمين الذين همّم الأكل والتخمة مع ترك الحبل على الغارب لسوء التصرّف والخُلُق؛ فإن أطعم الغير، فللتبجّح به علنا بدون آي احتشام أو استحياء.
إنّه بيّن، من الزاوية النفسية، أن هذه الأفعال يرتبط بعضها ببعض، وهي أساسا للتعتيم على خرق الأخلاقية الإسلامية. ولعل الحرص على أداء صلاة التروايح والتصدّق في رمضان بالذات من الباب نفسه بما أن التقوى الإسلامية لا ترتبط بشهر أو عمل معيّن، لأنّها من مكارم الأخلاق، هذه الطبيعة الثانية المؤمن، بل الأولى، قبل الآدمية الناقصة.
اليوم 26
الثلاثاء 19 ماي 2020
هذه السنة، منع مرض الفيروس التاجي 2019 ما اعتاده أهل الإسلام المريض من تقوى ليلية يهجرونها نهارا بدعوى المعدة الفارغة وما يتبعه من فساد في نشاطهم المعتاد. وكان أحرى الاجتهاد بما فيه الكفاية للتوصل في النهاية لممارسة عبادة الليل نهارا وبنفس الحماسة والورع، لا بعد امتلاء المعدة وبالتعبّد السلبي. فالعبادة الإسلامية هي أولا وقبل كل شيء تعبّد كسبي للمؤمن في المعاملات البشرية بالسهر طيلة اليوم، لا فقط في ليالي رمضان، على ضبط النفس ومسك اليد واللسان وكف النظر عن الإساءة لغيره، أيا كان. بل هي أيضا تنمية مشاعر الحب والتسامح في نفسه بالحرص، كامل اليوم وأشهر السّنة كلّها، على أن تكون نيّته دوما سليمة وطويته حسنة. فلا مجال، مثلا، لما نراه طوال رمضان في النهار من عبوس وسوء تصرّف وكلّ ما عبّر عنه الشارع التونسي بحشيشة رمضان؛ ولا شك أنها من تداعيات هذا الحرص المهوس على الخداع والتمويه الرسمي في مظاهر الصيام العلني الشامل والمفروض بشوكة الحاكم أو بالعنف المعنوي للبعض ممن لا يتردّد في مخالفة منطوق الدين وروحه وهو يدّعي جزافا المنافحة عنه.
إن الواجب الذي يفرضه المنطق والدستور ببلادنا يتمثّل في الدفاع عن الحقوق والحريات باسم الاحترام الصحيح للدين. فبخصوص الإفطار العلني في شهر الصوم، احترام رمضان والإسلام يكون باحترام حقوق الناس، صاموا أم لم يصوموا، لا في فرض الصوم. بل الصوم في محيطٍ لا إفطار فيه ليس صوما؛ إنه المسخ السافر لدين الإسلام الذي يقدّس حرية المؤمن في علاقته مع ربّه، هذه العلاقة المباشرة والقاصرة عليه.
وبالتالي، فالنضال لأجل الحقوق المهضومة في رمضان يكون فعّالا بالدعوة للعودة إلى الإسلام الصحيح وترك حرياتهم للنّاس في الصوم دون التظاهر والمراءاة وإلا فسد صومهم، وفي الإفطار دون التخفي، وإلا ما كان صوم الآخرين صحيحا. وإنه لأكيد أن الدعوة لحق الإفطار بهذه الصفة من شأنها التسريع بتفعيل هذا الحق، إذ تتمّ مقاومة المتزمّت بسلاحه، فلا نقع في فخه، أي العداء للإسلام، دين الدولة. والشي نفسه يُقال بالنسبة للحق الثابت في الإسلام الصحيح بخصوص المساواة في الإرث بين الجنسين أو الجنس المثلي، كما بيّناه منذ يومين.
لهذا، عوض الاكتفاء بمظاهرات لا تسمن من جوع، على الجمعيات الداعية لحق الإفطار العلني، بل وكل المبادرات المنافحة عما تسميّه حقوق الأقليات، الاستجابة لدعوتنا الملحّة في عرض مشاريع قوانين تبيّن فيه أن المانع الذي يعتمده المشرع انتفى، إذ أن الدين الإسلام هو الذي يشجّع على تفعيل هذه الحقوق بتمامها وكمالها بدون تأخير واحترام هذه الحريات الممنوعة جورا باسم الإسلام. وإنه من المحبّذ أن تتجذر أكثر تلك الجمعيات في واقع البلاد وتطرح جانبا الاسترتيجية العقيمة التي تستعملها اليوم، هذا الاستنساخ لواقع غربي لا يمت بصلة بواقع الشعب في البلاد التونسية.
ولا شك أن العبوس طغى بها على ما كان فيها من نضارة الوجه بالابتسامة تعلوه؛ فأنّى لمن يرزح تحت نير الظلم المادي والمعنوي الكف عن العبوس؟ ثم إنه من طبيعة البشر الناقصة، ولم يسلم منه الرسول نفسه إذ عبس وتولّى أن جاءه الأعمى. لكن الله ندّد بها وأدّب رسوله على مكارم الأخلاق التي انتهى بتقمّصها على أفضل وجه. وقد كان اعتذر للتو من موقفه العابر مع الأعمى. فهذه الطبيعة البشرية الناقصة معترف بها في الإسلام وهي التي تفرض تزكية النفس التي يدعو إليها.
من النقص في ابن آدم الذي طال دين الإسلام الظاهرة التي نعرض إليها في إشكالية الحديث والتي ذهبت المغالاة فيها إلى الكلام في أبسط أقوال وأحوال الرسول بصفته البشرية لا النبوية؛ ففي هذه وحدها هو معصوم من الخطأ، يبلّغ كلام الله. أمّا الوصول لفرض أن كل ما يقوله الرسول وحي منزّل، كما صار إليه الحديث وأهله، فهذا ليس من الخطأ البشري الذي لا بأس من وقوعه، ولا يمنع ذلك مع وجوب تجاوزه بالتزكية المتأكّدة أكثر من الأوّل. كذلك يجب تجاوز كل ما حصل مع تضخم المدونة الحديثية كما هي، أي ناقضة للقرآن نفسه، بما أن رسول الإسلام استعاد بها ما منعه القرآن منه ، أي أن يكون مشرّعا في الدين عوض الله. على أن هذا لم يكن كذلك إلا من باب الافتراضية لأن الأحاديث المروية عن الرسول غير صحيحة ومنتحلة؛ بذلك، أصبح المحدّث هو المشرّع في دين الإسلام لا الرسول، ومكان الله باسم الرسول وبواسطة حديثه وسنّته.
لا بد من التنبّه لهذه الحالة المرضية التي أصبح فيها المشرّع في الإسلام بشرا في دين ليس فيه الحق في التشريع إلا لله. والأدهى أن هذا التشريع الحديثي، الذي يدّعي مصدره الله وأنه وحيه للرسول لا تنزيلا بل قولا وسنّة، لم يحترم أحيانا أبسط القواعد الأخلاقية الإسلامية. هذا الحكم القاسي لم يصدر فقط من خارج أهل الحديث، بل أيضا ممن نافح عنه وعن المدوّنة الحديثية. فهذا ابن قتيبة، الذي هاجم المعتزلة في نقدهم لأهل الحديث ودافع عن بعض أحاديثهم التي فيها إشكال، ينتقد بعضهم بعبارات شديدة اللهجة في «كتاب الاختلاف في اللفظ والردّ على الجهمية والمشبّهة». مع الملاحظة أن موضوع الكتاب تعلّق، كما يبينه عنوانه، بمسألة خلق القرآن التي نعود إليها لاحقا. ولنلاحظ بخصوص هذا العنوان أن الجهمية هو نعت خصوم المعتزلة لهم بينما نعت المشبّهة يطلقه الأخيرون على الأولين. ولا شك أن ابن قتيبة الذي يقرن الصفتين في عنوان الكتاب رغم ما فيهما من ازدراء لكلا الفريقين يبيّن موقفه منهما. وإن كان هذا غير غريب منه بخصوص المعتزلة أو الجهمية، فهو مفاجىء حين يتعلّق بأهل الحديث، أى أنّهم كأصحاب المذهب يرون الله على شاكلة البشر بعينين وفم وأنف ويدين ورجلين، يأكل ويشرب مثلهم، ويفعل كل ما يفعلون.
ولا عجب في هذا الموقف من غلاة أهل الحديث بعد تضخم عدد الأحاديث بصفة مهولة والجرأة على تنميط أبسط أقوال وأحوال الرسول البشرية، بل والتعرض لأتفه المواضيع، كروايتهم لأحاديث غن طريقة بول الرسول واقفا أم لا، وهل وجب استقبال القبلة عند البول والغائط، وهل مسّ الرجل لذكره يوجب الوضوء أم لا. هذا أدّى بالعديد من الأئمة، بما فيهم أعلام أهل السنّة، إلى الطعن في هذه الأحاديث الغريبة، بل الخرافية. ولا شك أن ابن الجوزي يبقي بكتابه «الموضوعات» من أرصن المصنّفين وأكثرهم موضوعية، إذ لا يتردّد في وصف حديث بأنه «موضوع بلا شك» ناعتا راويه بإنّه «كذّاب» أو «متروك» أو «واهي الحديث»، وحتّى بهذا الوصف القاسي أنه «ليس بشيء». ولعل ميزته الأكبر على من طعن مثله في عشرات الأحاديث أنه لا يكتفي برفض أحاديث من تسمّيهم السنّة بالرافضة أي الشيعة، بل كذلك تلك التي وضعها كما يقول بنفسه «المتعصّبون من أهل السنّة».
أصبح الفقه، باعتماده أساسا على الحديث، لعبة بهلوانية أو مخرطة سحرية، أحيانا شعوذة وأخرى - وهذا الأخطر، إذ فيه غربة الإسلام - رقية شيطانية؛ ونحن نعلم أن الإسلام لا ينكر السحر، وقد كان ضحيته الرسول نفسه. فكيف مواصلة القبول فيه بأن الحديث علم في مستوى القرآن أو أعلى بينما يؤكد أهله بأنفسهم أنه ليس للعقل ولا المنطق فيه مجال؟ هذا ما يبيّنه الخطيب البغدادي في كتابه «الجامع لأخلاق الرواي وآداب السامع» حيث عنون به بابا: «في أن المعرفة بالحديث ليست تلقينا وإنما هو علم يحدثه الله في القلب» قائلا: إن «معرفة الحديث بمنزلة معرفة الذهب، إنما ييصرُ أهله وليس للبصير فيه حجّة». ومع مر الزمان، صار الحديث كالصيرفة حسب تعبير ابن رجب الحنبلي؛ فكيف، بمثل هذا المعيار التمييز لزائف الحديث من صحيحه وكاذب الرواة من صادقهم؟ خاصة وأن نعت الحافظ الذي أُصبغ على المحدّث أصبح في زمن ما مرادفا للشيخ المرادف للعالم، لا لشيء إلا لما للرجل من قوّة في الحفظ لا يعتمد على مرجعية أخرى، لا في المعرفة ولا حتى في الحدس!
مع أزمة الحديث الخانقة نظرا لفشل منظومة التعديل والتجريح كما نبيّنه لاحقا، إذ المعدّل عند أحد الحافظين هو المجروح عند حافظ آخر، يتعيّن طرح السؤال التالي: ألا يتوجب ترك مرجعية الحديث جانبا اليوم ؟ فبما أن الأحاديث الصحيحة اختلطت بالمنحولة، ألا يجب ترك الأحاديث جملة أو على الأقل عدم الاعتماد عليها، فلا يعود إليها المؤمن إلا للاستئناس والاستنارة في أقصى الحالات لتأكيد فهمه للقرآن ؟ بالطبع يكون هذا مع تطبيق آلية التأويل المقاصدي، فهي أفضل وأكثر موضوعية من التقويم الشخصي الذي آلت إليه آلية الجرح والتعديل في علم الحديث.
في كتابه «معرفة علوم الحديث»، أخضع الحاكم النسيابوري آلية التوثيق هذه لفحص نقدي لم يجرؤ عليه أحد قبله، فكشف تدليس عدد لا بأس به من المحدّثين المشهود لهم بأنهم من أوثق الثقات. ومن الأمثلة على ذلك سفيان الثوري - الموصوف بأنه شيخ الإسلام وإمام الحفاظ وسيد العلماء وأمير المؤمنين في الحديث - والذي روى عن مجهولين ومجروحين؛ وقتادة بن دعمة السدوسي الذي وصفه ابن سعد في طبقاته بأنه كان ثقة، مأمونا حجة في الحديث، فهو حسب النسابوري من جملة «من دلّس من المدلسين على الثقات»، وكذلك شعبة بن الحجاج وهو أيضا مع الثوري أمير أهل الحديث.
لئن لا فائدة في ذكر هذه الأحاديث السخيفة المطعون في صحّتها، بل والشنيعة حسب عبارة الكناني في عنوان كتابه «تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة»، لعلّه من المفيد العودة لحديث ذكرناه سابقا، أي حديث العدوى، لذكر تعليلين آخرين لمن تعلّق بصحّته. ذلك لأنّهما يبيّنان القابلية في الذهن العربي المسلم للتطوّر، وهو ما من شأنه أن يكون، طال الزمن أم قصر، بالخروج من المأزق الحالي لطغيان السنّة على الإسلام، وإن لزم الأمر طرح أحاديث الرسول، في خاصيتها بمثابة الوحي، حسب بدعة الشافعي وما انجر عن ذلك من تفشّي الوضع واستشراء الكذب في الدين. يكون هذا في اليومية التالية.
ولنختم بالقول أن الحديث وصل إلى حد القول، حسب عبارة الجوزقاني (أو الجورقاني، وهي نسبة إلى قرية من همذان بإيران) في «الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير»، بأن «كل حديث يكون بخلاف السنّة فهو متروك، وقائله مهجور»، فالأحرى تطبيق القاعدة بالنسة للفرقان في قراءة مقاصدية، للإكتفاء بالقرآن وحده في الإسلام، كما يراه من نُعتوا بالقرآنيين، مع الاجتهاد مجدّدا في تثوير معانيه، وإن اقتضى ذلك اللجوء إلى بعض أحاديث أصح الصحاح، على الأقل ما ثبت منها ممّا اتفُق عليه، لكن فقط للاستنارة. يكون ذلك حسب مقاصد وروح الشريعة القرآنية لا حسب الحرف، سواء كانت قرآنية أو سنّية، وكل ما ارتبط بعقلية آنية أفرزها زمن الرسالة؛ ذلك لأنها لا زمن لها، بما أنها أزلية، وإلا فقدت هذه الخاصية الأولي فيها أي صلوحيتها لكل زمان ومكان. لذا، بعد غلق باب الاجتهاد وفتحه مجدّدا كما ندعو إليه، لعله من المنطقي أن يتم غلق باب علم الحديث بإحياء علوم القرآن التي لمّا نتبحّر فيها بما فيه الكفاية!
اليوم 27
الأربعاء 20 ماي 2020
لئن كان الله في اليهودية يتجلّى وفي المسيحية يتجسّد، فهو في الإسلام لا يحضر إلا بكلامه. هذا ما يؤكده القرآن؛ أمّا اليوم، مع اعتلاء السنّة المرجعية الأولى في الدين، فقد أصبح لنا في ذات الرسول ما في المسيحية واليهودية من تقديس له وتأليه لكلامه وسنّته حتى فيما لا يتجاوز وضعه البشري الذي هو من ثوابت الإسلام. لهذا، تعدّدت الأحاديث الموضوعة باسم الرسول وتنوّعت حسب المصالح وصفة الشوكة القائمة، ومنها حديث العدوى الذي بينـّا الإشكالية التي يطرحها والاجتهاد لتجاوزها، ومن ذلك موسوعة الطحاوي السابقة الذكر. فقد أخرج بها أكثر من عشرة آلاف حديث من دائرة التضاد لتبرئة المدوّنة الحديثية من الخور وتثبيت مصداقيتها وشرعيتها، علما وأنه من المدرسة الفقهية الأقل تعصّبا في الإسلام والآخذة بضرورة العقل والمنطق، إذ هو حنفي.
رغم ذلك، فقد تكفّل بمجهوده التوفيقي بين الأحاديث المتعارضة لا بصفة عقلانية علمية بحتة، بل وأيضا حسب أقوال شيرخ مذهبه، إذ هو يحيل دوما إلى أقوال أبي حنيفة النعمان وأبي يوسف القاضي ومحمّد بن الحسن الشيباني مثلا، فيأتي دفاعه بمثابة التأويل حسب المذهب الحنفي. بل إنّه لا يتردّد في الغلو فيه وحتى التوهيم؛ وبذلك لا يغلق البتة باب التناقض في الأحاديث المعنية وفي كل موضوعات المدوّنة الحديثية. كذلك كان شأن كل علم الحديث الذي طاله التوظيف الإيديلوجي وأفسدته السياسة، خاصة في ما سيظهر في القرن السادس هجري كفن للموضوعات، مدار حديث سيأتي، إذ ستتلخّص فيه جدلية الأحاديث الباطلة والصحيحة في أنّها التوظيف للانتصار لمذهب بعينه من خلال أحاديث أنصاره وتكذيب أحاديث المذاهب الأخرى، خاصة المعادية ورميها بوصمة الوضع والبطلان.
على أن هناك من اتى في اجتهاده في نفس الغرض والمقصد ما فيه بعض الجرأة التي نفتقدها اليوم في الفقه والتي سنراها تنمو بعض الشيء مع مرّ العصور. ففي محاولات تالية أخرى رأينا من أتى بآلية جديدة أو طريفة في تخريج تلك الأحاديث المشكلة مثل ما قام به ابن شاهين (هذا هو اللقب الذي عُرف به، بينما هو أبو حفص عمر بن أزداذ البغدادي) في كتابه «الناسخ والمنسوخ من الحديث» المعروف أيضا تحت عنوان «كتاب ناسخ الحديث ومنسوخه»، وأبو بكر بن موسى الحازمي الذي تبعه في ذلك بمؤلفه «الاعتبار في بيان الناسخ والمنسوخ من الآثار» قبل أن يأتي أخيرا، في القرن العاشر، صاحب «الميزان» السنّي المتصوّف عبد الوهاب الشعراني بما سُمّي بالتخريج التعادلي أو المحاولة التوفيقية لوضع حدّ في نفس الوقت للتناقض بين الأحاديث والتنافر بين الفقهاء والتناحر بين المذاهب.
لئن يبيّن هذا شيئا فإنه يؤكد على مرور التعاطي مع مشكل الحديث من مجرّد التأويل إلى آلية التخريج المصطنعة، وفي ذلك قصر الإسلام، الذي منطلقه روحي، كما بيّنه القرآن المكّي، على المنظومة الدنيوية التي أتى بها الوحي المدني. هذا سيساعد لا محالة على تطوّر آخر لذا الوضع غير المرضي. فلئن قبلنا بأن الحديث هو أيضا من وحي الله، ففي فرض صبغة المدني من الوحي على صبغته المكية بعض التعسّف، خاصة عندما يقع توظيف ذلك لأغراض سياسية، بل سياسوية، كما كانت الحال طوال تاريخ الإسلام. ولنا للموضوع عودة.
أمّا بخصوص إشكالية العدوى، فقد تمثّل الاجتهاد الجريء في اللجوء إلى آلية الناسخ والمنسوخ، المعروفة في القرآن، التي تعني القطع مع المجهودات السابقة في رد كل مختلف من الحديث إلى مؤتلف بالضرورة، إذ لا تناقض بين الأحاديث بما أن مصدرها النهائي إلهي ولو أنها نبوية، بما أن الرسول لا يتكلّم من تلقاء نفسه، بل بوحي من ربّه حسب الفهم الذي فرض نفسه منذ الشافعي. بذلك، فالالتجاء إلى آلية النسخ يعني قبول إمكانية التعارض بين الأحاديث للتخلص من تناقضها. هذا بغض النظر عن أن النسخ القرآني يختص بالأحكام الشرعية ولا يقع في الأمور الاعتقادية كما هي الحال في الحديث.
لعله من المفيد هنا التذكير بأن الآلية المستعارة وقع استنباطها في تأويل القرآن من الآية 106 من سورة البقرة التي ليس فيها أي شيء يوحي بتعارض أو تناقض ما في القرآن، وهو بالطبع من المستحيل، إذ النسخ القرآني يعني فقط تبديل آية بأخرى هي مثل الأولى أو أفضل منها : «ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها». أمّا في الحديث، فالنسخ يحتمل قصد رفع تناقض وبالتالي، عكس النسخ القرآني، فيه تأكيد للتعارض والتناقض، إذ هو يبدّل الحديث المنسوخ بحديث نقيض له وناسخ. هذا ما يقوم به ابن شاهين قبل نهاية القرن الرابع، وهو المتوفّى سنة 385 هجرية، ومن بعده ابن موسى الحازمي، المتوفّى سنة 584 هجرية. فما كان القول في حديث العدوى ورديفه حديث المجذومين المناقض له والذي حمل البعض، مثل ابن قتيبة كما سبق ذكره، إلى تأويل أحدهما، حتى لا يناقض الآخر، بأنه بمعنى الفرار لا من العدوى بل من الرائحة الكريهة؟
ابن شاهين يعتبر الحديث الثاني في المجذومين منسوخا بالأول، أي حديث العدوى، فيثبت هذا الحديث، أي أنه لا عدوى، وينفي صحة حديث المجذومين. وفي المنهجية المتبعة مخالفة لآلية النسخ القرآنية التي فيها المنسوخ يسبق الناسخ، بينما الأمر هنا على العكس. أمّا اعتقاد ابن شاهين فيها فهو، كسائر أهل زمانه، في أن التصديق بالعدوى لا يمنع نفيها باسم قضاء الله وقدره في عباده. ولا شك أن هذا كان يوافق تماما هوى ساسة ذلك الزمان ومتزمّتيه من أهل الدين ممن يدين بمذهب التوكّل المطلق على الله كما مثّله الحنابلة في الإسلام السنّي. وبمثل ما فعله ابن شاهين قال الحازمي أيضا، أي بتكافؤ الأحاديث الأضداد وترجيح أحدها على الآخر بالنسخ الذي لا يعني بذلك التضاد بل الفاعليّة التأولية فحسب.
أمّا الشعراني فهو يدلي بدلوه في هذا الباب بصفة طريفة وبهذه الروح الصوفية المثبتة لقدرتها دوما على الإبداع، ولو أنّه كان في الغرض سلبيّا لحد ما، بينما عرفنا الغزالي وخاصة الشاطبي أكثر إيجابيّة رغم اتحاد الجميع في مذهبهم السنّي. للخروج من مأزق الاحتيال التأويلي بل والتزوير الذي لا خلاص منه حقيقة مع اعتماد النسخ في الحديث، يأتينا الشعراني بما سمّاه الميزان، وهو الموازنة بين الحديثين المتناقضين مع نفي التناقض بينهما بما أنه عنده محض اختلاف في الوزن أو الدرجة، في النقص أو الزيادة أي التخفيف أو التشديد في الأحكام. بذلك، يتمّ الجمع بين الشريعة والحقيقة التي هي، في الرؤيا الصوفية، وحدة أصلية أصيلة. فكما أن الشريعة ليست إلا الاجتهاد البشري الناقص ضرورة، فالحقيقة هي ما يتوجّب دوما ودون لأي التطلْع له دون الوصول إليه، أي هو هذا الآفق الذي نحوه يسير السالك الطالب للحقيقة.
لعل تأخّر الشعراني هو الذي سمح له بهذه النظرة التوفيقية الجديدة، إذ كانت وفاته سنة 973 هجرية، في القرن العاشر الذي بلغ فيه الحديث غاية تضخّمه والفقه حدّه الأقصى من التحجّر سواء على مستوى الأصول أو الفروع. ولا شك أن هذا المشروع التعادلي كما ظهر في زمن صاحبه من تلك التباشير المحتّمة للدعوة لإسلام متجدّد من خلال فقه جديد. فلعّله يكون في ما أنعته بإسلام ما بعد الحديث، الذي يعنى هنا الخروج من متاهة المدّونة الحديثية الحالية، في نطاق الإـ سـلام ما بعد الحداثي، أي إسلام السلام روحيا ودنيويا، معنويا ومادّيا.
الفقه، كما يعرّفه إمام الحرمين، هو العلم بأحكام التكليف؛ وهو يحتاج إلى النظر والتأمل، أي الاجتهاد البشري، وهو فهمه للشريعة الإسلامية. هذا الفهم حسب الفقه الحالي هو الذي لم يعد صحيحا، وفيه سقم الإسلام. لذا، تتوجـّب العودة إلى القرآن أساسا لفهمه حسب مقاصده مع إمكانية اللجوء في تأويله مثلا لآلية الميزان التي يتمّ عندها استعمالها في القرآن كما حدث مع آلية النسخ في الحديث. وهذا من الاجتهاد الذي يعرّفه الجرجاني بأنه استفراغ الفقيه الوسع ليحصل له ظن بحكم شرعي. وهو، كما يضيف: بذل المجهود في طلب المقصود من جهة الاستدلال. فما الفقه إذا لم يكن الاجتهاد الذي غايته تحصيل الظن بحكم شرعي؟ والظن ليس له أن يكون أزليا وإلا حل محل الحكم الشرعي؛ كما لا بد للحكم الشرعي، حسب تطور االأزمنة والعقول البشرية، من ظنٍ جديدٍ يصل إليه الفقيه ببذل الوسع لبلوغ الغرض الذي يبقى، لا محالة، تناغم الحكم الشرعي مع زمنه عملا بمقاصد الشريعة، التي منها المصلحة الأعمّ. بذلك يستعيد الإسلام صحّته فتحميه من مزيد من الدعدشة بفتوحات إسلامية جديدة في استنباط فقهٍ متجددٍ يحترم الدين ولا يشينه.
المصلحة الأعم يمثّلها اليوم بتونس دستور البلاد؛ وهي في إعادة فتح باب الاجتهاد سريعا للتأسيس للفقهٍ الجديدٍ وشريعة إسلام ما بعد الحديث وما بعد الحداثة، لا ظلم للدين فيهما ولا للناس بالإعلاء من شأن الإيمان وإعطاء المؤمن حقّ قدره. هذا ضروري في العديد من القضايا الحساسة لصبغتها الرمزية، مواضيع مسكوت عنها عادة، ذكرنا بعضها ونعود إلى إحداها: المساواة في الإرث بين الجنسين. فهي أفضل القضايا التي تدلّل على الخلط الشائن في أذهان أهل الإسلام بين الدين والشريعة الإسلامية في لخبطة قيمية فاحشة تترك الأصل للفرع، وتمسك بما وصل إليه اجتهاد السلف في أصلٍ بقي مقيّدا بما تفرّع عنه فلا يتغيّر رغم تغيّر كل شيء حواليه.
إنّه لا بد من الإقرار بأن مقصد الله الذي لا محيد عنه في المواريث، كما في كل تعاليم الدين، هو العدل والمساواة بين المؤمنين، لا فرق بينهم إلا بالتقوى. ولا يمكن أن نقرّ بهذا عموما وننفيه خصوصا في قضية الحال؛ فإننا عندها كتلك التي تنقض من بعد قوّة أنكاثا ما تُبرم؛ وليس هذا الإسلام! فلو استعملنا ميزان القرن العاشر الهجري، لقلنا بعبارة الشعراني تقريبا إن القول بمنع المساواة في الإرث يعطي التشديد بالتمسّك بحرف النص والقول بحلّية المساواة يعطي التخفيف بالأخذ بروح النص ومقصد العدل والمساواة، فرجع الأمر إلى مرتبني الميزان. وبما أن كفة الميزان رجحت اليوم لحقوق المؤمنة المسلمة، فوجب رفع التناقض والخلاف لأن كل كلام الله ومقصده يجلّ عن التناقض، وكذلك يجب أن يكون كلام أئمّة الإسلام ومقصدهم الأوّل!
القول إذن باستحالة المساواة في الإرث لأجل حرف نص قرآني لهو الخور الذي ليس بعده خور؛ فلا بد من رفضه تمام الرفض، وإلا تكون قاصمة الظهر للإسلام الذي أصبح بعد غريبا. رفض صرف فهم النص القرآني حسب مقصده، بالتدرّج إن اقتضى الأمر، لهو تغليب الفهم البشري لكلام الله الذي ورثناه على كلام الله في مقصده، بينما هذا هو الأعلى؛ فما ورثناه فهم ذكوري بالأساس، غير عادل، يناقض المقصد الإلاهي. ثم إنه غير صالح لزمننا، إذ تماهى مع زمن ولّى وانقضى، كان فيه للمرأة الكثير بنصف حظ الرجل، بينما أصبح هذا النصف القليل اليوم. فقد زادت قيمة المرأة اجتماعيا في زماننا، هذه القيمة التي أعلى منها الإسلام أي إعلاء؛ فلعلها، حسب المقصد الإسلامي نفسه، تستحقّ بعد مثل حظ الذكرين!
إن من يرفض تحقيق العدل في الميراث بإقرار مبدأ الإسلام في المساواة التامة بين المسلمين ليتصرّف كالخوارج حين ثاروا على عليّ بن أبي طالب، رافضين مواصلة القتال لمّا احتال أعداؤه بأن رفعوا المصاحف منادين بالاحتكام إلى الله في صراعه على الخلافة مع سليل الأمويين. فلمّا رضخ لهم وقبل التحكيم وأرسل الحكم كما تفرضه الأعراف، تنكّروا لما كانوا يطالبون به، رافضين تحكيم الرجال في كلام الله، كأن كلام الله لا يحتاج للبشر لفهمه وتطبيقه. هؤلاء الخوارج، أصحاب البرانس، المتزمتّون الأولون في الإسلام، تزعّموا الثوة على الخليفة الشرعي وقتلوه، ليلة عيد الأضحى، في داره بالمدينة بعد أن حاصروه طويلا. فمن يتمسك بالشريعة ويرفض الاجتهاد في حرف القرآن لهو من طينة هذه الحرورية التي عانى الإسلام منها الأمرّين؛ قتلت الأبرياء والبعض من خيرة المسلمين، منهم عليّ بن أبي طالب نفسه؛ وهي أيضا التي كانت سببا في نشأة الشيعة، أي المغالين في حب علي وأهل البيت؛ فالتطرّف يأتي دوما بالتطرّف.
في الختام، لنقل في إشارة منّا إلى مشروع الرئيس قائد السبسي الراقد في أدراج مجلس نواب الشعب، أنه لا مجال في قانون المساواة في الإرث الإحالة لما في الشريعة الإسلامية الحالية من أمور مخالفة، إلا أن يكون على شكل استثناء لا يدوم طويلا، ينتهي بأجل مسمّى. فالحل الوسط الذي اقترحه رئيس الجمهورية السابق في ترك إمكانية تطبيق النص الحالي في عدم المساواة لا بد أن يكون مجرّد استثناء لفترة انتقالية، بخمس أو عشر سنوات مثلا، لا أكثر،؛ وإلا نقضنا ما أردناه من إصلاح. فنحن ننسف القانون الوضعي من الأساس بجعلنا الشريعة موازية له، إذ لا ضمان لعلوية القانون إلا يهيمنته على كل نص آخر، خاصة إذا كان يدّعي الصبغة الإلهية بينما ليس هو إلا من عمل البشر، تماما مثل الاجتهاد في تحقيق المساواة في الإرث. على أن هذا الأخير أكثر مطابقة للإرادة الإلهية كما نستشفها من روح النص القرآني وفي مقصده.
اليوم 28
الخميس 21 ماي 2020
العلم فن أيضا، أو فيه الفن؛ كذلك في علم الحديث فنّ ظهر في أواخر القرن الخامس الهجري مع كتاب للمقدسي، المتوفّى سنة 507، عنوانه «تذكرة المرفوعات» الذي تبعته العديد من المؤلفات، منها «الموضوعات من الأحاديث المرفوعات» المعروف أيضا باسم «الأباطيل والمناكير والصحاح المشاهير» للجوزقاني، المتوفّى سنة 543، وخاصة «الموضوعات في الأحاديث المرفوعات» لابن الجوزي (الذي يُعرف أيضا بالاسم الأول لكتاب الجوزقاني وكذلك بالكلمة الأولى فقط من العنوان). وغير هذه الكتب كثير، من بين أحدثها «تمييز المرفوع عن الموضوع أو المصنوع في معرفة الحديث الموضوع» للقارىء الهروي و«الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة» للشوكاني»؛ مع التذكير أن ظاهرة الوضع المنتشرة في مطلع القرن الثاني للهجرة تسارعت وتيرتها بداية من القرن الثالث.
هذا الفن يؤكد أوّلا أن الفكر النقدي في الإسلام ما انعدم بتاتا، مثلا مع ابن المقفّع والرازي وابن حنين وابن الراوندي والمعرّي، وغيرهم؛ لقد مارسه العديد، ومنهم من لم يصلنا ذكره، خاصة وأن ذلك كان فيه عادة هلاك صاحبه. أمّا بالنسبة للنقد الذي أتى به في هذا الفن ابن الجوزي، فقد كان من داخل المنظومة السنّية وممّن انتمى إلى مذهب بعيد كل البعد مبدئيا عن الفكر المتحرّر. وقد اتّهم الحنابلة الرجل، وهو منهم، بالاضطراب في عقيدته بل وحتى تبديله لها في آخر حياته والترفّض أي الانحياز إلى الرافضة، أي الشيعة. وهذا يؤكد، ثانيا، مدى الجرأة عند هؤلاء المفكّرين، وعند ابن الجوزي الذي لم يعجب كتابه طبعا أشياع من انتقده، فكتُبت التصانيف لتفنيد مقولته، لعل أرصنها كتاب الإمام الحافظ شمس الدين الذَهَبي «ترتيب الموضوعات» الذي كان بمثابة التهذيب لكتاب ابن الجوزي.
وبصفة أعمّ، بيّن هذا الفن ما لم نفتأ قوله عن الطبيعة السياسوية للحديث الذي استعمل جميع الوسائل والحيل لفرض سيطرة مطلقة على العقل الإسلامي، لعل أطرفها وأشدها تأثيرا في المتخيّل الشعبي هي المنامات، أي توظيف الأحلام وادعاء رؤية الرسول لتمرير كذبة معيّنة. بهذا غدا الكذب المذهبي حقيقة من الصعب الشك فيها أو ردّها نظرا لأن الخلاف السياسي والعقائدي لم يكن فقط بين علماء الدين السنّيين والشيعيين، بل طال أهل الاختصاصات الإسلامية الأخرى، ومها المؤرّخين. ومن الشبهات المشهورة والكبرى القول الذي فرض تقريبا نفسه عند أهل السنّة بأن معاوية بن أبي سفيان، الخليفة الأموي، كان كاتبا للوحي، بينما ثبت، وليس فقط عند أهل الشيعة، أنه لم يظهر إسلامه إلا عام الفتح. فهل كان كاتبا للرسول في آخر أيامه؟
ليس ظهور فن الموضوعات في زمن متأخّر إلا نتيجة للانقلاب السياسي والإيديولوجي الذي تمّ مع صعود البويهيين للحكم الطبيعي والديني، إذ كانوا من الشيعة التي ترفض احتكار أهل السنّة لتعبير السنة، بل تعتبر أن لا سنّة إلا سنّتهم؛ فكان أن ازدادت مدوّنة الحديث تضخّما لتثبيت نظرياتهم. دامت هذه الحال طوال الثلثي الأخيرين للقرن الرابع والثلث الأول من القرن الخامس إلى الانقلاب المضاد للأتراك السلاجقة السنّيين الذين تمكّنوا من السلطة سنة 429 هجرية. هذا أدّى بالطبع إلى تنقية أولى للمدوّنة الحديثية، كانت شيعية، ثم ثانية سنّية؛ وهذا بيّن في مصنّف الجوزقاني الذي لا يخفي النزعة الإيديولوجية عنده لإعادة إعلاء شأن السنّة بمفهومها المعتاد، أي غير الشيعي. بذلك، بخصوص عنوان الكتاب، كلمة الحديث المرفوع تحيل للحديث السنّي المضاف إلى الرسول سواء كان متّصلا في إسناده أم لا، ويقابله الحديث الشيعي الموقوف أي المضاف إلى الصحابي.
هكذا أصبح الحديث عند أهل السنة أفضل الوسيلة للكذب الحلال كغيرهم من الشيعة وعلى شاكلة التصرّف السياسي. مثال ذلك عند الخطيب البغدادي أن أصحاب الحديث وقع ذكرهم في القرآن، ويورد للتدليل على هذا رواية موضوعة تصرف الآية 122 من سورة التوبة في كل من رحل في طلب العلم والفقه والحال أنها في المنافقين ممن تخلف عن غزوة تبوك، كما بيّنه أكثر المفسرين، ومنهم الطبري. مثل هذا الغش والخداع نجده في حديث آخر قُوّل فيه عكرمة مولى ابن عبّاس أن الآية 112 من نفس السورة في طلب الحديث.
هذا، وقد ساهم الخطيب البغدادي، رغم ما في كتابه من بعض النقد لأصحاب الحديث، في إقامة صرح علم الحديث. فكما كانت للشافعي الريادة في التأصيل لعلم الفقه، كانت له في علم الحديث الريادة في تنظيمه بعد تضخمه، فالتنظير له، وقد كان أكبر نصير له ولأصحابه؛ بل هناك من يعتبره الرئيس الأول لهذا العلم. فحتّى تاريخه الشهير لبغداد ليس إلا التأريخ لمحدّثي المدينة وفقهائها. لذا، بمكن القول أن «قرأنة» السنّة التي بدأت مع الشافعي وانطلاقا من القرآن في الجزء الثاني من القرن الثاني انتهت مع الخطيب البغدادي في الربع الأخير من القرن الخامس. فمعه تم الفراغ، بما أتاه من تنظير في «الكفاية في علم الرواية»، من تأسيس الحديث كعلم قائم الذات وسنّة «مقرأنة»، أي هي بمثابة الوحي، بل وأحيانا أعلى منه درجة بما أنّها قاضية على الكتاب.
فالبغدادي يثبّت القول أن الوحي المنزّل ليس فقط القرآن، مدعّما الاعتقاد أن جبريل كان ينزل على الرسول بالسنّة أيضا كما ينزل عليه بالقرآن. وهذه التسوية لا تقف عند ذلك الحد بما أنّ السنّة تتقدّم في الأهمية على القرآن في عديد الحالات كما رأينا مع ابن حنبل الذي عنده مجالس الفقه أفضل من مجالس الذكر. هذا ما ينظّر له البغدادي، وهو عنوان باب في «كتاب الفقيه والمتفقه» . أمّا بخصوص التسوية بين حكم كتاب الله وسنّة رسوله، وهو عنوان باب افتتاحي في «الكفاية في علم الرواية»، يعدّد الأقوال الموضوعة على لسان الرسول في عدم كفاية القرآن في أحكام التكليف وتحذير أهل الإسلام من أن يكونوا قرآنيين خلّصا بالتوقف عند كتاب الله.
بهذا وقع إحكام القفل على أذهان المسلمين لمنعهم من الاجتهاد ورهن ذكائهم لاجتهاد من سبقهم ففرض لهذا السبق وحده رأيه وقراءته الخاصة لدين امتلكه دون سائر الناس بينما هو للناس أجمعين، ولا للمسلمين فقط بل للعالمين، كل من حسنت نيّته فحسن حتما إيمانه، وإلا كان كالأعرابي أسلم ولم يؤمن. ولا شك أن الإسلام الحديثي بموضوعاته هذه الإسلام الأعرابي. فمن الأحاديث الموضوعة، هناك أحاديث في دخول الجنة بالحديث لا بالقرآن؛ وهي تأتي في قالب منامات تعدّدت. بل إن الخطيب البغدادي يقارن، في كتابه «شرف أصحاب الحديث»، أهل الحديث بالملائكة، ذاكرا سفيان الثوري والقول المنسوب إليه أن «الملائكة حرّاس السماء وأصحاب الحديث حرّاس الأرض».
في واقع الحال، أصبح الحديث وعلمه العلم بحرب أيديولوجية في الإسلام، فيه الدين ساحة وغى كما بان عند تفشّي كتب الموضوعات عقب سقوط الدولة الويهية الشيعية، ككتاب الجوزقاني. ولا شك أنّ أكبر فائدة في هذا الكتاب، الذي اشتهر باسم «الأباطيل»، أنه سلّط كل الضوء على الطبيعة السياسية للحديث وصفة الوضع فيه، إذ الوضع هو نفسه في كل الأحاديث، سواء كان أهل صنعة الحديث من السنة أو الشيعة. ومن دلائل الغش والخداع عند الجميع في المقاييس الإخلال بمعايير الحديث نفسها، ومنها العمر واللفظ ودقة الأداء والذاكرة، كلها سقطت للأخذ برواية الحدث أو صغير السن، والقبول بالمعنى عوض اللفط والتسامح مع النسيان. سقط أيضا الإسناد، أس الأسس، فإذا المراسيل هي المعمول بها؛ والسماع الذي استغني عنه بالإجازة كما التواتر، إذ أصبح خبر الواحد هو القاعدة. ولم يعد التدليس يحفظ من شيء فقد قُبل أي حديث يأتي من ثقة؛ والجرح والتعديل، صمام الأمان لوقاية المدونة الحديثية غدا نسيا منسيّا بما أن الحديث أُخذ من الضعيف والسقيم والمنكر والمكذوب؛ كذ استشرى التعارض لسقوط شروط التعليل والعدد.
لقد سبق صاحب «الكفاية» أن بيّن ذلك بالتفصيل، ومدى وصول رواية الحديث إلى حد صارخ من اللامعقولية. لكن ما فعله بعده أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي في كتابه «الموضوعات» كان بأكثر دقة وجرأة؛ فهو سيناهض في كتابه الغلو في الحديث، مثل هذا القول لمعاصر للخطيب البغدادي، الإمام السمعاني الذي، رغم كل الهنات التي ذكرنا، يقول في «الانتصار لأصحاب الحديث»: «فصل ما بيننا وبين المبتدعة هو مسألة العقل، فإنهم أسسوا دينهم على المعقول... وأمّا أهل السنّة فقالوا: الأصل الاتباع والعقول تبّع».
وبما أنه لا دكترة بدون أيديلوجية تتحكم في الرقاب بتغييبها كل ما من شأنه تحرير الناس من ربقتها، فلا بد من كلمة السواء للأمل في إخراج الدين من هذا التقييد المقيت والمرض المزمن الذي أدّى إليه. فوجدنا بعض الشيء منها في كتاب ابن الجوزي الذي أتى في القرن السادس، أي في هذا القرن الذي كرّس الانغلاق التام للمنظومة الحديثية، لينتقدها من الداخل. فهو باسم العقل، يشكّك في موثوقية الحديث الذي كثر فيه الموضوع، وبعرّي حقيقة آلية الإسناد التي كانت أساس هذا العلم إذ قيل: «إذا صح الإسناد صح الحديث». ونظرا لكل ما شاب صناعة الحديث من فساد، فابن الجوزي يعطي الأولوية في تصحيح الأثر لمعقولية مضمونه، قائلا بالحرف الواحد: «فكل حديث رأيته يخالف المعقول أم يناقض الأصول فاعلم أنه موضوع. وقد يتفق أن رجال الحديث كلهم ثقات والحديث موضوع أو مدلّس».
وهو في كتابه لا يتردّد في تحقيق معقولية اللفظ ونقده، بل يعلّق أيضا على لامعقوليته؛ وكذلك الأمر بالنسبة لظروف السماع مع العناية بما لم يكن يخطر على بال من سبقه مما يتعلّق بسببية وغائية الحديث الموضوع. بلا شك، هذه عودة لافتة لمبدأ المعقولية الذي انتصر له المعتزلة، وكذلك نسبية مفهوم الثقة؛ فقد كانوا أول من أسقط صفة العدالة عن الصحابة لاقتتالهم على الملك الطبيعي، وأشاروا بتقريع الله لهم في محكم كتابه؛ بل ولم يسلم الرسول نفسه من هذا التقريع.
لئن نرى ابن الجوزي الحنبلي يلتقي بهذه الصفة نظريا مع عقلانيي الإسلام فله من الرمزية الحظ الوافر وليس إلا إفادة عن الحال المزرية التي صار عليها علم الحديث والتي زادها حدّة انتشار ما يسمّى بأدب المناقب لاستعباد أكبر للأدمغة بكل الوسائل الممكنة. فقد كثرت السير المعظمة وبصفتها القداسية في هذه الصناعة وبلغت أقسى مداها بأحاديث تسويقة همّها الإعلان والدعاية لا فقط للبشر بل وأيضا للأطعمة، ما دعّم الجانب الفلكلوري للحديث. لنذكر منها أشهرها، وهو الباذنجان، الذي أفرد له الحافظ الشافعي أبو إسحاق برهان الدين الناجي، المتوفّى سنة 900، كتابا: «قلائد المرجان في الحديث الوارد كذبا في الباذنجان» (والناجي نعت له لكونه كان حنبلي المذهب والعقيدة، واسمه الحقيقي إبراهيم بن محمد بن محمود). وليس هذا ممّا يُعجب له إذ صار الكذب عند العديد من رواة الحديث حرفة ومصدر رزق. وقد كان الخطيب البغدادي أشار إلى صفة التكسّب هذه بأن ساق في «الكفاية في علم الرواية» العديد من الأمثلة في «بيع الحديث» ونصيحة بعضهم لطالب الحديث ألاّ يطلبه من فقير، بل من غني حاله الموسرة تمنعه من نزغة الغش والتلفيق.
اليوم 29
الجمعة 22 ماي 2020
ما عُرف بمحنة خلق القرآن في الإسلام كان بداية انحطاط حضارته؛ ونظرا لفائدة المداواة بما فيه الداء، يتوجّب فتح قضية خلق القرآن من جديد للخروج من مأزق الإسلام اليوم. كانت المحنة بحقّ ردّة في الحقوق والحريات باسم الإسلام المتزمّت وانتصارا ساحقا للحديث على القرآن، أدّت إلى تسييس السنّة مع الانقلاب المتوكّلي بعد شرعنتها مع الشافعي. بذلك أُتيحت لها الفرصة المنتظرة للذهاب إلى أقصى مدى مذهب أصحابها مع أحمد بن حنبل الذي سيصبح إمام السنّة. ولم يشتهر كذلك إلا بعد المحنة التي بدأت بعد خمس عشرة سنة من وفاة الشافعي سنة 204 هجري؛ ومعه سينحصر العلم في الحديث دون غيره بما أنّه كان ممن يزدري الكتب إذ، بشهادة ابن الجوزي في «مناقب الإمام أحمد بن حنبل»، كان «ينهى عن وضع الكتب».
ولا يجب أن يخفى علينا الصراع المذهبي الذي كان بين أتباع الرجلين، ما سمّي بالشوافع من جهة والحنابل أو الحنابلة من جهة أخرى، إذ كان السباق بينهما في حلبة التزمّت؛ ولم يدم طويلا إذ نال السبق فيه الحنابل وقد استغلوا حادثة المحنة للخروج بهالة الشهداء ممّا ساعد على استفحال أمرهم، خاصة وأنهم نجحوا في نشاطهم قرب العوام. لنقرأ مثلا ما كتبه ابن الأثير في تاريخه عن حوادث سنة 323، علما وأن موت ابن حنبل كان سنة 242 وأن جنازته جمعت خلقا كثيرا : «وفيها عظم أمر الحنابلة وقويت شوكتهم، وصاروا يكبسون دور القواد والعامة، وإن وجدوا نبيذا أراقوه، وإن وجدوا مغنّية ضربوها وكسروا آلة الغناء... وإن مشى الرجال مع النساء والصبيان، فإذا رأوا ذلك سألوه عن الذي معه من هو؛ فإن أخبرهم وإلا ضربوه وحملوه إلى صاحب الشرطة وشهدوا عليه بالفاحشة، فأرهجوا بغداد... وزاد شرهم وفتنتهم، واستظهروا بالعميان الذين كانوا يأوون إلى المساجد، وكانوا إذا مرّ بهم شافعي المذهب أغروا به العميان فيضربونه بعصيّهم حتى يكاد يموت...». والبقية أشنع في الكامل في التاريخ عن هذه الفترة التي عرفتها خاصة خلافة الراضي، لتغيّر سياسة الخلافة من الموادعة إلى التشدّد لاستشراء التزمّت عند للعامّة، ممّا زاد من حدّة تصرفات الحنابل.
وبما أننّا ذكرنا استفحال الكذب إلى حد المنامات وتوظيف الحديث للإشهار للمأكولات، سنجد أتباع ابن حنبل يفعلون معه كغيرهم من أصحاب المذاهب الأخرى لشيوخها، أي أنهم، مثلهم في ذلك مثل المسيحيين مع القدّيسين، سيسعون لتطويبه. وهكذا ذهب بعض الحنابلة إلى القول أن الشافعي يتبرّك بماء غسيل قميص لابن حنبل وأنه بشّره بالمحنة بعد منامة رأى فيها الرسول. وتكفي العودة لكتب المناقب للوقوف على مثل هذه الأكاذيب التي كان الفقهاء يشجعونها أي تشجيع.
هزيمة المعتزلة في المحنة أتت بعد انتصار رسمي ثمثّل في اصطفافهم مع الحاكم ضدا على الشعب والعامة؛ لكنّها لم تدم إلا فترة قصيرة، بين الفترة الأخيرة لخلافة المأمون وخلافة أخية المعتصم ثم الواثق، ابن هذا الأخير، إذ تم الانقلاب عليها وعلى فكرها العقلاني مع الخليفة المتوكّل. هذه المحنة، التي أظهرها المأمون في رسالتين مشهورتين وهو في طريقه إلى بلاد الروم في ربيع الأول من سنة 218 هجرية (وكان موته أثناءها بطرسوس في رجب من نفس السنة لمرض ألم به)، هي التي فتحت الباب عريضا لأسطورة ابن حنبل كإمام للسنّة.
هذا، ولم يكن المنعرج الذي سُمّي بالانقلاب المتوكّلي بالأساس لأسباب دينية لاهوتية، بل سياسية لمصلحة الملك. فالمتوكّل ما كان يبتغى إلا ترضية العامّة وقد انقلبت على السلطة باسم الدين، مستعملة إياه كسلاح لنجاح دعاية أهل التزمّت في صفوف شعب كانت له الفرصة لتحدّي سلط ظالمة همّها مصالحها وملاذها. وكانت الحال تلك بالنسبة للخليفة الذي عُرف باللهو، لا همّ ّله بالدين؛ فالسيوطي، في تاريخ الخلفاء، يبيّن أنه «كان منهمكا في اللذات والشراب».
لعل البعض من ملامح هذه المحنة يذكّر بحادثة أخرى لا تبعد عنها كثيرا في بعض أطوارها، هي نكبة البرامكة، خاصة تلك التي تؤكد النزوع الثابت للسلطة، أيا كانت الوسائل المستعملة، لفرض هيمنتها من جديد حال شعورها بانفلات الأمور من قبضتها. هكذا كانت الحال مع عاشر خلفاء بني العبّاس المتوكّل، الذي يُروى عنه قوله «كانت الخلفاء قبلي تتعصّب على الرعية لتطيعها، وأنا ألين لهم ليحبّوني ويطيعوني» كما ساقه ابن العمراني في «الإنباء في تاريخ الخلفاء». لذا، عقب صعوده للخلافة، وقد اختاره القوّاد الأتراك بعد موت الواثق واستصغارهم لابنه، بادر برد الاعتبار لأهل الحديث واسترضاهم والإغداق عليهم، وسعى أيضا إلى ترضيتهم بتعزيز «موقعه عند العامة بإجراءات شديدة في حقّ أهل الذمّة» كما بيّن ذلك فهمي جدعان في «المحنة. بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام».
فبخصوص أحداث سنة 235 مثلا، يكتب الطبري: «في هذه السنة أمر المتوكّل بأخذ النصارى وأهل الذمّة كلّهم بلبس الطيالسة العسلية والزنانير... وبتصيير زرّين على قلانس من لبس منهم قلنسوة، مخالفة لون القلنسوة التي يلبسها المسلمون... وأمر بهدم بيعهم المحدثة وبأخذ العشر من منازلهم، وإن كان الموضع واسعا صيّر مسجدا، وإن كان لا يصلح أن يكون مسجدا صيّر فضاء، وأمر أن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب مسمورة تفريقا بين منازلهم وبين منازل المسلمين... ونهى أن يتعلم أولادهم في كتب المسلمين، ولا يعلّمهم مسلم، ونهى أن يُظهروا في شعانينهم صليبا، وأن يشمعلوا في الطريق، رأمر بتسوية قبورهم مع الأرض لئلا تشبه قبور المسلمين». كما أن ابن الجوزي يضيف في «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» أنه «في، سنة ثمان وثلاثين، أخرج النصارى عن الدواوين ونهى أن يُستعان بهم وعزلهم عن الولايات ونهى أن يُستخدموا في شيء من أمور المسلمين... وفي سنة أربعين ومائتين أخذ أهل الذمة بتعليم أولادهم السريانية رالعبرانية، ومُنعوا من العربية، ونادى المنادي بذلك، فأسلم منهم خلق كثير».
هذا، وابن حنبل لم يكن، في الحقيقة، الضحية التي تحدّث عنها أنصاره؛ فالمعتصم لم يكن عدوّا له، بل كان يقدّره. لقد حيكت الأكاذيب حول رفضه القول بخلق القرآن وضربه بالسياط وحبسه لاكتفائه بالقول، تقيّة، أنه «كلام الله لا أزيد عليه». وهذا ما يؤكده الجاحظ في رسائله، وهو الأقرب للأحداث، وقد يبيّن أيضا رمزية الضرب. ثم إنّ الطبري، مثلا، لا يذكر شيئا عن محنة الرجل، بل يكتفى بذكر أنّه تم استجوابه كغيره (ومنهم من قُتل وصلب)، ويذكر ردّه ما ردّ، وأن المأمون طلب إعلامه بأنه «قد عرف فحوى تلك المقالة وسبيله فيها، واستدل على جهله وآفته بها». مع العلم أن الطبري غطّى الأحداث إلى سنة 302، أي سنوات عدّة بعد أمر المتوكّل «بتخلية كل من حبسه الواثق في خلق القرآن في الأمصار والكور» وكتابته «إلى الآفاق بالمنع من الكلام في مسألة الكلام والكف عن القول بخلق القرآن، وأن من تعلّم علم الكلام أو تكلّم فيه فالمطبق مأواه إلى أن يموت. وأمر الناس أن لا يشتغل أحد إلا بالكتاب والسنّة لا غير... فارتفعت السنّة جدّا في أيام المتوكّل»، كما دوّن ذلك لنا ابن كثير في «البداية والنهاية». مع العلم أن المطبق المذكور هو سجن بغداد، بناه الخليفة المنصور سنة 146 وأن المتوكّل صعد سدّة الخكم سنة 232 هجرية وقُتل سنة 247.
هذا، وكما يقول صاحب «تاريخ الخلفاء، «كان المتوكل معروفا بالتعصّب»، ويضيف ابن الأثير في «الكامل في التاريخ» أنه كان «شديد البغض لعلي بن أبي طالب ولأهل بيته». لذلك رأيناه، في سنة 236، كما نقرأ في تاريخ الطبري، يأمر «بهدم قبر الحسين بن علي وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يُحرث ويُبذر ويُسقى موضع قبره، وأن يُمنع الناس من إتيانه».
وبعد، لاشك أن كلام ابن قتيبة يلخّص قضية خلق القرآن بكثير من الرويّة في مصنّفه السّابق الذكر «كتاب الاختلاف في اللفظ والردّ على الجهمية والمشبّهة» الذي تحدّث فيه عن الاختلاف في اللفظ في القرآن بمناسبة كلامه في القضية. ولئن انتقد المعتزلة فقد أنحى أيضا باللائمة على أعدائهم، وهذا ما يهمّنا هنا بعد ما قلناه عن أخطآء المعتزلة : «وكان آخر ما وقع من اختلاف أمرا خاصا بأصحاب الحديث الذين لم يزالوا بالسنّة ظاهرين وبالاتباع قاهرين... إلى أن كادهم الشيطان بمسألة لم يجعلها الله أصلا في الدين ولا فرعا، في جهلها سعة، وفي العلم بها فضيلة، فنما شرّها وعظم شأنها حتّى فرّقت جماعتهم وشتّتت كلمتهم ووهّنت أمرهم وأشمتت حاسدهم وكفت عدوّهم بألسنتهم وعلى أيديهم، فهو دائب يضحك منهم ويستهزىء بهم، حين رأى أن بعضهم يكفّر بعضا، وبعضهم يلعن بعضا، ورآهم مختلفين وهم كالمتفقين ومتباينين وهم كالمجتمعين، ورأى نفسه قد صار لهم سِلما بعد أن كان لهم حربا. وليس ما اختلفوا فيه مما يقطع الإلفة ولا مما يوجب الوحشة، لأنهم يجمعون على أصل واحد وهو القرآن كلام الله غير مخلوق... وإنما اختلفوا في فرع لم يفهموه لغموضه ولطف معناه، فتعلق كل فريق بشعبة منه، ولم يكن معهم آلة التمييز ولا فحص النظّارين ولا علم أهل اللغة... وقد بلي المستبصر المسترشد بإعناتهم ومحنتهم وإغلاظهم لمن خالفهم وإكغاره وإكفار من شكّ في كفره؛ فإنه ربّما ورد الشيخ المصر فقعد للحديث وهو من الأدب غفل ومن التمييز، ليس له من معاني العلم إلا تقادم سنّه وأنه قد سمع (... {هنا ذكر بعض المحدّثين المعروفين} أسقطناه) فيبدأونه قبل الكتاب (عنه) بالمحنة، فالويل له إن تلعثم أو تمكّث، أو سعل أو تنحنح، قبل أن يعطيهم ما يريدون، فيحمله الخوف من قدحهم فيه وإسقاطهم له على أن يعطيهم الرضا، فيتكلّم بغير علم، ويقول بغير فهم، فيتباعد عن الله في المجلس الذي أراد أن يتقرّب فيه منه. وإن كان ممن يعقد على مخالفتهم سام نفسه إظهار ما يحبّو ليكتبوا عنه (الحديث). وإن رأوا حدثا مسترشدا أو كهلا متعلّما سألوه، فإن قال لهم: أنا أطلب حقيقة هذا الأمر وأسأل عنه ولم يصحّ لي شيء بعد، وإنما صدقهم عن نفسه واعتذر بعذره، والله يعلم صدقه... كذّبوه وآذوه وقالوا: خبيث فاهجروه ولا تقاعدوه».
باستثثناء فترة محنة خلق القرآن ولخصوصيتها، لم يكن التوظيف الإيديولوجي للخلاف السياسي في الإسلام، والذي عدّدنا مظاهره، على المضمون اللاهوتي عموما، بل اختص في الأغلب بتجلياته العملية والفرعية. لذلك من الممكن دوما في إسلامنا المريض تجاوز إشكالية هل أن «الإيمان يزيد وينقص»، وهي عقيدة ابن حنبل السنّية ضدا على عقيدة أهل الإرجاء والاعتزال في أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، حصرا منهم للتكفير في الكبائر، والتي هي واحدة، من وجهة نظرنا، تتمثل في عدم توحيد الله في الإسلام المحض. ولا شيء، في رأينا، يمنع ضرورة وإمكانية المرور في الإسلام من التكفير إلى التفكير الحرّ. وبما أن كتابة الحديث أتت متأخرة، ثم أصبحت صناعة بينما نهى الرسول عن كتابة حديثه، فنحن نقف عند هذا النهي بترك حديث استشرى الكذب فيه. ولئن يبقى مرجعا للاستنارة، كما قلناه، فلا يكون ذا بجعله ضدا على الوحي، خاصة المكّي؛ ثم الأخذ به يتم تماما كما يتم تأويل آي القرآن. فلعلنا بهذا نتوصل للمرور بالنظرية المقاصدية من مقاصد الشريعة إلى مقاصد الإيمان الذي هو أولا وآخرا التوحيد الإناسي أي توحيد وإناسة في علم توحيد جديد إ-سلامي.
لقد مثّل الانقلاب الأيديولوجي الشافعي حداثة الفقه بانتصار السنّة والحديث، الشيء الذي مهّد لانتصارات سياسية حاسمة. وبما أنّ فترة الحداثة عقبتها اليوم فترة جديدة هي ما بعد الحداثة، نقول بمرور الإسلام من حداثة الحديث، بمعنى الابتداء وصغر السن لا المعاصرة، إلى ما بعد الحداثة فيه، أي فترة النضج والكهولة للحديث، أو فترة ما بعد الحديث؛ يعني هنا العودة إلى القرآن والسلطة الأوحد له في الإسلام. هذا يؤدّي بالتزام دعوة القرآنيين والاجتهاد القرآني الخلّص، أي من القرآن وبالقرآن. ولهذا للاجتهاد المتجدّد أن يصبح الجهاد الصحيح الذي لا حلال غيره بعد إبطال المعنى الحربي المتقادم. فلئن هو حرب، فقد انتهت مع الآخر وكان فيها صغيرا، بينما لا تنتهي الحرب مع النفس ونوازغها، وهو الجهاد الأكبر.
فلتكن الجرأة من أهل الإسلام على ذلك، سواء من أهل السياسة أو الدين، والأفضل أن يكونا من أهل الدين في قراءة صحيحة له، مثل تلك االآخذة بقاعدة وجوب تغيّر الأحكام بتغيّر الأحوال، التي لم تعمل بها للأسف إلا القلة القليلة من الأصوليين. فعلا، فمنذ قرار الخليفة الثاني عمر في إلغاء حكم المؤلفة قلوبهم الوارد في القرآن، لم يجرؤ أهل الدين على شيء فيه إصلاج الفساد الذي استشرى في الإسلام، فما كان، عند حدوثه، إلا من أهل الساسة، عندما السياسة عندهم أخلاقية، أي سياسة الإسلام بالمعنى الاشتقاقي للكلمة؛ وهذا نادر.
فحتّى ما سمّي بفتوى ماردين، الصادرة عن علماء مختلفين من العديد من الجنسيات سنة 2010 في مؤتمر حول الفتوى انعقد بهذ البلدة الواقعة اليوم جنوب تركيا، جاءت ضدا على فتوى ابن تيمية الذي سُئل إن كانت ماردين بلد حرب أم سلم. ذلك أن التتار استولوا على البلدة التي أغلبها مسلمة فأصبح يحكمها غير المسلمين. فكان ردّه أنها ليست لا هذا ولا ذاك، بل «مركّبة: فيها المعنيان، ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام، لكون جندها مسلمين. ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار، بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه،ويعامل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه». وقد لحق النص تصحيف إذ تمّ تعويض كلمة «يعامل» الثانية في الجملة الأخيرة بكلمة «ويقاتل»؛ وكذلك اشتهرت الفتوى وبقيت معروفة رغم هذا التصحيح الذي تمّ بعد الرجوع إلى المخطوطة في المكتبة الظاهرية بدمشق. ولعله من المفيد الإشارة أن الفتوى أتت في كتاب تلميذ ابن تيمية ابن مفلح «الآداب الشرعية والمنح المرعيّة» حسب ما ذكرناه.
تقول الفتوى المضادة لمؤتمر مارس 2010 أن «فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية في ماردين لايمكن بحال من الأحوال أن تكون متمسكا ومستندا لتكفير المسلمين والخروج على حكامهم... بل هي فتوى تحرم كل ذلك». فيها إذن صراحة الإلغاء لمبدأ الجهاد على مستوى العلاقات بين الدول؛ على أنها لا تذكر الجهاد من جهة النظر القرآنية، مكتفية بالرد على فتوى ابن تيمية، أي تعرّضت للفصل مع ترك الفصل في الأصل؛ وهذا ضرب من المناورة لا يخدم الهدف الذي سعي هؤلاء الفقهاء إليه ولا يخدم الإسلام. لئن يساعد هذا الاجتهاد علي المرور بالفتوى من الخرافة إلى الحقيقة، فهو لا يفيد في المرور المماثل المتحتّم فيما يخص الجهاد من الحلية إلى التحريم.
وكما وجب العودة للفهم الصحيح للفتوى في الإسلام، وأنّها مجرد رأي يأتيه المسلم الذي علم حقا شؤون دينه وتفقه فيه ليبدي وجهة نظر ورأي يفيد بهما عامة أخوته المسلمين، وأنها ليست بالأمر ولا القانون ولا الحكم الإلاهي، كذلك وجبت العودة للفهم الصحيح للحلال والحرام في دين الحنيفية المسلمة. وبالطبع، لن يكون بذلك اي انتهاك للمحرّمات أو تحطيم للأيقونات، ولا بترك الحديث لأجل الشك فيه، بما فيه ما في أصح الصحاح؛ فقد سبقنا الحاكم النيسابوري، المتوفّى سنة 405 هـ، إلى القول إن الصحيحين لم يخلوا من التدليس، ولو أنه لم يسمّ، مستحسنا عدم «ذكر أسامي من دلّس من أئمة المسلمين صيانة للحديث ورواته».
إن ّ كل ما عاشه الإسلام ما كان له أن يكون لو لم تُحكم السلفية قبضتها على عقول الناس باسم قضية خلق القرآن، مستعملة أسلوب العقليين الذين اعتقدوا خدمة العقل بينما كانوا يهدمون صرحه. والحال اليوم نفسها عند السلفية؛ فهي تعتقد خدمة الإسلام بينما لا تعمل إلا على هدم أساسه، فما خدموا إلا أصحاب الشوكة، أهل سياسة غير أخلاقية. فلبّ لباب الإسلام هو الحرية في فهم أحكامه وتصريفها حسب مقاصده دون التقيّد بمقتضيات زمن ولّى واجتهاد سبق؛ ذلك لأن قوة دين القيمة في الاجتهاد المستدام. ثم السلفية الحالية ليست تنافح إلا على نفوذ سياسي وسلطة معنوية تضيفها إلي تسلط مادي لمجرد التحكم في عقول البشر وقد خلقهم الله أحرارا. فمتى استُعبد الفكر في الإسلام المحض كما تجلّى في الوحي المكّي؟ هلاّ عُدنا للكلام فيما أدّى للظلامية لتقويم ما اعوجّ فينا وفسد؟
إن الحرام في اللغة العربيّة هو الممنوع وكذلك الحرمة والتحريم والحرمان. وهو النهي أيضا، فالممنوع هو المنهي عنه. وهو أيضا المحظور، إذ المنع هو الحظر. أما فقها، أي حسب الاجتهاد الذي وصلنا وليس هو قرآنا للالتزام به - بما أنّه لا بد من مواصلة الاجتهاد لأجل فقهٍ جديد -، فالحرام هو ما فعله إثم، إذ المحرّم هو ما مُنع فعله أو مُنع من فعله؛ وهو ما يُثاب على تركه ويُعاقب على فعله. إلا أن الفقه الحالي يخلط بين الممنوع بنص إلهي وبين الممنوع بتسخير بشري، والفرق واضح. فإن كان للتسخير الإلهي الأمر، فليس للاجتهاد البشري إلا التأويل؛ لذا، لا يكون الحرام ضد الواجب إلا بأمر إلهي، وإلا يمكن له ألا يكون ضد الواجب بل من الواجب حسب مقاصد الشريعة التي من شأنها أن تغيب عن أذهان البشر؛ مع العلم أن مما شأنها أيضا أن تأتي في الموانع أيضا لخاصية الإسلام الذي تدرجت تعاليمه في تأقلمها مع كل العصور . لنأخذ في ذلك مثال قطع اليد، فرغم ورود نص في القطع، لا نبتر بعد اليد لأجل أن مقاصد الشريعة تمنع اليوم هذه الفظاعة.
أمّا الحلال، فهو الحل، بمعنى الفتح والإطلاق؛ وهو ما جاوز الحرم. وأصله من حل العقدة، فهو نقيض العقد. وفقها، هو المطلق بالإذن شرعا. فالتحليل إطلاق الفعل لمن يجوز عليه المنع والحجر والتقييد بالإذن. الحلال إذن هو ما لا يُعاقب عليه أو ما انتفى عن حكم التحريم أو لإباحةٍ فيها تخيير. مع العلم أن الحل هو أعم من الحلال شرعا، إذ يُطلق على ما سوى التحريم، إذ هو يقابله. وبما أن الحلال يُقابل الحرام، فهو يشمل ما عداه من المباح والمندوب والواجب والمكروه، هذه التقسيمات التي أتى بها الفقهاء، بينما ليست هي في القرآن ولا في الإسلام الصحيح الذي لا يعرف إلا المباح إذا لم يكن محرّما بنص صريح. فخلافا لما ذهب إليه الفقهاء، كل حلال مباح وكل مباح حلال. مثال ذلك الطلاق الذي ذهب الفقه إلى أنه حلال مكروه، وهذا لا معنى له، بل هو من الخُلف.
من المجاز في العربية قولة الحُلو الحلال أي الكلام الذي لا ريبة فيه، وهذا ما يجب أن يصبح عليه فقهنا عوض تحريم كل ما ليس حراما وقد سهّل الله دينه فعسّرناه بفهم صلح لزمن وفسد اليوم. فهلا حلّلنا فقهنا كما يُقال لليمين، أي كفّرنا عن سوء فهمنا لديننا بما جعلنا نظلم الناس فنجعل الإسلام يتدعدش كما نراه، إذ داعش تأخذ بهذا الفقه الذي انتهت صلوحيته. لتكن للفقهاء تحلّة فقههم هذا الذي بار، مع العلم أن التحلُة هو ما كُفّر به، أي ما أذن الله به من كفّارات، كما في اليمين، إذ نقول تحلّ المرء فيه إذا حلف ثم استثنى استثناء متّصلا بما يُحلّلها.
القاعدة الإسلامية الأساسة التي لا محيد عنها هي الحلّية في كل ما ورد من تعاليم الفرقان لا تحريم صريح فيها؛ إذ ليس التحريم إلا بصريح العبارة. بل وإن التحريم أيضا حتى بهذه الصفة لا يتم تطبيقه إذا تعارض مع مقاصد الإيمان الإسلامي التي تبقى المرجع الأوحد للدين القيّم. فلا مناص من الاحتكام دوما للفهم المقاصدي لتعاليم الإسلام حتى نتوصّل للأخذ بروحه، لأن ما يميّزه هو أزلية تعاليمه وصلوحيتها لكل زمان ومكان. ولا شك أن هذا لا يكون إلا باجتهادٍ متواصل لفهم الدين حسب مقاصده الإناسية. ومن هذه المقاصد أن القاعدة في دين الإسلام هي الحلال والاستثناء هو الحرام، إذ النية الحسنة هي مناط هذا الدين الذي يرحم الله فيه ويغفر كل الذنوب بما فيها السرقة والزنى، إذ لا إثم في الإسلام إلا الإشراك بالله؛ مع أن له أيضا، إن أراد، أن يغفر ويصفح عند التوبة النصوح. هذا هو إسلامنا المريض الذي شوّهه أهله أكثر من أعدائه، والذي نسعى لإشفائه منه حتّى يستعيد بسرعة صحّته لاستئناف ما توقّف من ماضيه النّير، زمنه الذهبي الذي هو على قيد الحياة في اللاوعي الإسلامي.
اليوم 30
السبت 23 ماي 2020
نوّهنا في يومية سابقة بموضوعية ابن الجوزي في كتابه «الموضوعات»؛ وبالطبع هي نسبية ككل شيء، أهمّيتها متأتّية بالأخص من مخالفتها لما طغى من المعروف في الميدان، أي الغش والكذب والانحياز. وقد كنّا بيّنا أنّه حنبلي، فما يميّز هذا المذهب كفكر لم ينتف تماما من تصرّف الرجل؛ على أننا وإن لم نجهله لا نعيره أهمّية إذ المبدأ عندنا التنبيه لما في الطبيعة البشرية من تعقّد وما يفرضه هذا من ضرورة التنبّه دوما إلى التصدّي إلى نزغة المانوية في فكرنا إذا رغبناه بحق حرا متحرّرا بالقدر الأكبر.
أمّا الصفة الحنبلية في ابن الجوزي فهي تتجلى في كونه تجاهل في «الموضوعات» كل ما وُضع تقريبا من أحاديث تمجّد أهل الحديث وتشيد بمرجعية السنّة وحجّيتها التشريعية؛ فكما بيّناه، أصبح أصحاب المسانيد فرسان الإسلام. وقد وُضع، مثلا، على لسان الشافعي قوله « إذ رأيتُ رجلا من أصحاب الحديث فكأني رأيتُ النبي حيّا»؛ وهذا يبيّن إلى أي حد وصلت الدكترة الحديثية في الإسلام وصفتها السياسية كتلاعب بالدين وأدلجة للعقول ودمغجة للأفهام. فالسياسة القمعية التي فرضت نفسها في بلاد العرب والإسلام استغلت سيادة الحديث على القرآن فكان لها الحضور الكلي تماما مثل تسلط السنة وفهمها الخاطىء للقرآن على العقول فلم يبق «من نصاب آخر لأهل القرآن سوى الغياب» كما يؤكد ذلك صاحب «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث. النشأة المستأنفة»، جورج طرابيشي. بذلك، أصبح أصحاب الحديث دون القرآنيين «حزب الله». وليس أدل على هذا التعبير الأخير للتأكيد على الطبيعة السياسية للدين الإسلامي، إلا أنها مع هؤلاء سياسة بلا أخلاق تقتضي الأخلقة.
لذا، كان الأحرى بابن الجوزي ذكر مثل هذه الأحاديث، خاصة وأنها في الأغلب ليست إلا تنبّؤية، تنسب إلى الرسول ما ليس من خصائصه بنص صريح من القرآن. فالنبي، في العديد من هذه الأحاديث الكاذبة، يعلم الغيب وله القدرة على الحديث فيه، مخالفا بذلك منطوق الآيات القرآنية، مثل الآية 50 من سورة الأنعام (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب) والآية 65 من سورة النمل (قل لا يعلم من في السماوات والأرض والغيب إلا الله). ثم إنها أحاديث حكم عليها المتخصّصون في علم الرجال أنها منكرة وباطلة، كما هي الحال مع سنن الدارقطني، وعنوانه الكامل «المُجْتَنَا من السُّنن المأثورة عن النبيّ صلى الله عليه وسلَّم، والتَّنْبيه على الصحيحِ منها والسَّقيم، واختلاف النَّاقلين لها في ألفاظه» أو الذهبي وابن حبان البستي في «ميزان الاعتدال» و«كتاب المجروحين من المحدثين»، وهم، عدا الذهبي، ممّن سبق ابن الجوزي بقرنين.
لا شك أن غياب تلك الأحاديث الموضوعة من كتاب ابن الجوزي يتنزّل في خانة التغييب الكبير للقرآن عند أهل الحديث الذي تقوم عليه المرجعية السنّية والتي غيّبت العقل بتغييب القرآن. ذلك لأنه، في الثقافة الإسلامية التي تقوم على النص المقدّس، العقل فيها بالضرورة نص يتطلّب التأويل؛ فإمّا هو حرّ متحرّر، وهذا ما ترفضه السنّة، وإمّا هو مقيّد، محض تصديق لنص مفصّل يجب اتباعه، وهو طبعا نص الحديث والأثر النبوي. وقد كنّا ذكرنا السمعاني سابقا في هذا الخصوص في «الانتصار لأهل الحديث»، ونضيف هنا منه ما يؤكّد عنده وعند أهل الحديث طرّا من أنّ «طريق الدين هو السمع والأثر... فمن الدين معقول وغير معقول، والاتباع في جميعه واجب. ومن أهل السنّة من قال إن الله لا يُعرف بالعقل ولا يُعرف بعدم العقل... فإذا سمعنا شيئا من أمور الدين وعقلناه وفهمنا فلله الحمد في ذلك... وما لم يمكنّا إدراكه وفهمه ولم تبلغه عقولنا آمنّا وصدّقنا به».
هذه الفلسفة الدينية للعقل خاطئة في فلسفة الإسلام العقلية. لذا، وبما أن الحديث في الواقع هو القرآن، وليس هو في الأصل إذ يبقي القرآن الأوحد هو الفرقان، فلا بد من تعويض الحديث اليوم بالكلام والعودة إلى علم الكلام عوضا عن علم الحديث، إذ كلاهما يحيل إلى القرآن؛ إنما كلام الكلام للفرقان فيه كلام ورأي، بينما قرآن الحديث قران للفرقان لا كلام فيه بغيره ولا برأي. كذلك يتم ضبط المعرفة لأنها لا تحصل بالحديث بل بالعقل ومنه، وتثبت به على ضوء المقاصد الإلهية؛ فهو بالتالي فيض إلهي في العقل البشري.
وقد علمنا أن رأي ابن حنبل، إمام أهل السنّة، هو أن «أئمّة الكلام زنادقة» كما يذكره السمعاني في كتابه المذكور رغم أن علم الكلام لم يستعن بالعقل إلا للدفاع عن الإيمان في دين تميّز بعدم القيام على ظاهرة المعجزة، إذ معجزة الإسلام الوحيدة في البيان والعقل القرآني البليغ، أي الكلام الإلهي. فكيف الأخذ بكلام الله دون الكلام به وفيه؟ لهذا، عمل أهل السنّة على «استئصال شأفة الفلسفة في الإسلام»، كما يقول جورج طرابيشي في «مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام». وطبعا، المعجزة والعقل ضدّان لا يجتمعان مبدئيا؛ إلاّ أن هذا لا يصحّ إلاّ على مستوى أرضية مسطّحة، أما إذا كانت مقوّسة وفيها انحناء، وهذه حال محيط الإسلام بنتوءاته المختلفة، فالضدان يجتمعان لا محالة. وقد تمّ هذا للقضاء على التعدّدية الأصلية في الإسلام والتي كانت أكبر ميزة للحضارة العربية الإسلامية في القرون الأولى.
إن في ضياع هذه التعدّديات في الإسلام، حسب تعبير المستشرق هنري لاوست، مرض هذا الدين والذي يتعيّن البرء منه بالعودة إليها، ففيها صحّته والخروج ممّا سمّاه جورج طرابيشي — الذي استعنّا كثيرا بكتاباته في هذه اليوميات، خاصة تنظيره لإسلام الحديث في الكتاب الذي سبق أن ذكرناه — «قرون وسطى جديدة» في كتابه «من النهضة إلى الردّة». وهذا واقع الحال بالنسبة لتعداد السنين الهجرية إذا قارناه بسني المسيحية بما أننا في القرن الخامس عشر هجري! إلا أن الأخطر من ذلك كلّه هو أن ديننا أصبح وهما عند العديد ممن يتاجر به ومجرّد إيمان افتراضي عند من يعتقد التعلق به. فالإسلام، وهو الدين والدنيا، دين بالقرآن المكّي ودنيا بالقرآن المدني. أمّا القرآن المكّي، أي الذكر الأوّل، فمداره أساسا عالم الغيب لا الدنيا ونوازلها التي هي من توافه الأمور بأعراضها المتقلبة. هذا القرآن المكّي، مناط الإيمان، أي تمام تزكية النفس بجهاد معنوي لإنقاذ النفس من جحيم الدنيا والآخرة، أصبح في القرآن المدني ماديا، مناطه نعيم الدنيا قبل الآخرة. وهنا بيت القصيد، فنحن نأخذ بعشرين سورة من القرآن هي تمام السور المدنية، أو قل على الأكثر اثنتين وثلاثين سورة إذا أضفنا الاثنا عشرة سورة التي فيها اختلاف، ونترك اثنا وثمانين سورة مكّية هي أكثر عددا وأعمق معنى وأرشح عقيدة لكونها صالحة لكل زمان ومكان.
هذا، ومعلوم، سواء بالبديهة أو بالعقل والمنطق، وحتّى من الزاوية الفقهية، أنّ ما هو من الدّين أزلي، لا يتبدّل ولا يلحقه تغيير، أمّا ما هو من الدنيا وسياستها بمعناها الاشتقاقي، فهو كحال من فيها، ناقص بالضرورة، متغيّر لا يقبع على حال. وقد علمنا أنّ القرآن هو الإسلام، إلاّ عند من ألّه الحديث؛ ولكنّنا ممّن لا يرى للحديث، والسنّة عموما، إلا الدرجة الثانية للمرجعية المحورية للقرآن، ويعتقد في حتمية تأويل القرآن حسب مقاصده والسنّة حسب مقاصد القرآن. لذلك نقول إن القرآن المكّي هو لب لباب دين الإسلام؛ أمّا القرآن المدني فهو دعامة دولة الإسلام. فما دام الإسلام دين، يدوم كما هو في وحيه المكّي، الأس الذي يقوم عليه الإيمان والعقيدة؛ وهذا أزلي. وما دام الإسلام أيضا دنيا، فقد أنتج دولة، التي لئن قامت على أسس الدين، فلها قواعدها المدنية. وهذا يحتّم القول بأنه ما دامت دولة الإسلام دنيا، فقد دالت تعاليم الدين للدنيا، أي بعض ما في القرآن المدني مما لم يعد صالحا للزمن الراهن، وذلك كما تدول الدولة حسب تعاليم الدين نفسه، أي القرآن المكّي.
والإسلام مكّي ومدني، مثل القرآن الذي قُسّم إلى فترات؛ فهو أيضا ينقسم إلى فترات علينا تبيّنها في الدين كوحدة وككلّ. لا شك أنّ أهمّها هي تلك التي تفصل بين إسلام ما قبل الفتح وإسلام ما بعد الفتح، أو الإسلام المؤسِّس (بكسر السين) والإسلام المؤسَّس (بفتح السين) أي القائم. فالإسلام الأوّل هو الدّين الثائر بينما الإسلام الثاني هو الدين المحافظ على ما وصل إليه من فتوحات ونظام من واجب أهله الحفاظ على دوامهما. والدين الثائر هو أولا وقبل كل شيء الإيمان القلبي والكسب على ضوء تعاليمه، فهو من شأن المؤمن، بينما الدين المحافظ هو من شأن السلط القائمة به. وبما أنّ قناعتنا في أن الإسلام كان أساسا ثورة عقلية في عصره ويبقى هذه الثورة لغير عصره، وتلك أزليته، فمن المنطقي والمعقول، بل والمفيد، الاعتبار بما حدث ويحدث فيه وخارجه وفي تاريخ البشرية من أحداث وتغييرات وثورات. فليست، طبعا، ثورة البداية هي نفسها عند مختلف أطوارها، ولا خاصة في نهاية مدّها الأوّل الرافض للنظام، وبالذات عندما يُعاد تأسيسه مع اختلاف كبير لما كان عليه. من ذلك ترك ما ساد من الكلام في مقاصد الشريعة للقول الأصح بمقاصد الإيمان الإسلامي الذي هو توحيد وتنزيه عن أي وساطة بين الله والمؤمن به. بذلك تكون مقاصد الإيمان أوسع وأقرب، لكنه دوما الإسلام في حرفه وروحه كخاتم الأديان وصلوحيته لكل زمان ومكان.
ومنه أيضا، بعد التخلص من دكترة السنّة، التحرّر في تثوير معاني القرآن والتأويل الباطني والترميزي لفهم المعنى الصحيح لكلام الله بالتمعّن مثلا في ما كتبه بعض كبار علماء الإسلام ممن كانت له جرأة تقلّصت أو ضاعت، نذكر منهم هنا إمام الحرمين الجويني في فهمه الحصيف لكلام الله كما قدّمه وعلّق عليه في فهم قاصر السيوطي في «البرهان في علوم القرآن»؛ عسى أن يكون من شأن مثل هذا التبصّر إرساء فهم متجدّد لكلام الله دون أي مسّ بقداسته: «وقال الجويني: كلام الله المنزل قسمان : قسم قال الله لجبريل : قل للنبي الذي أنت مرسل إليه: إن الله يقول: افعل كذا وكذا، وأمر بكذا، ففهم جبريل ما قاله ربه، ثم نزل على ذلك النبي وقال له ما قاله ربه، ولم تكن العبارة تلك العبارة، كما يقول الملك لمن يثق به: قل لفلان يقول لك الملك: اجتهد في الخدمة، واجمع جندك للقتال. فإن قال الرسول: يقول الملك لا تتهاون في خدمتي ولا تترك الجند تتفرق، وحثهم على المقاتلة، لا ينسب إلى كذب ولا تقصير في أداء الرسالة. وقسم آخر قال الله لجبريل: اقرأ على النبي هذا الكتاب، فنزل جبريل بكلمة من الله من غير تغيير. كما يكتب الملك كتابا ويسلمه إلى أمين، ويقول: اقرأه على فلان، فهو لا يغيّر منه كلمة ولا حرفا. انتهى. قلتُ: القرآن هو القسم الثاني، والقسم الأول هو السنّة، كما ورد أن جبريل كان ينزل بالسنّة كما ينزل بالقرآن . ومن هنا جاز رواية السنّة بالمعنى؛ لأن جبريل أداه بالمعنى ، ولم تجز القراءة بالمعنى؛ لأن جبريل أداه باللفظ ، ولم يبح له إيحاءه بالمعنى.»
في نهاية هذه اليوميات، لنعد للكلام عن عادة تحرّي الهلال التي تمّ الاستغناء عنها في نهاية رمضان كما كانت الحال في بدايته لاعتماد الرؤية العلمية التي تبقى رغم كل شيء حسية ويكفي في المستقبل اعتمادها، إذ هي أيضا رؤية، بما أنه لا استغناء للعين أيا كانت طريقة اللجوء إليها. وإلا توجّب الاستغناء عن كل المستحدثات في الدين، مثل مضخّمات الصوت بأعلى منارات المساجد. بذلك، بالنسبة لرمضان هذه السنة، كانت الرؤية أصح من الأعوام السابقة في احترامها لمقتضيات الدين بما أنه علمي؛ فمن له نقض هذه الحقيقة؟ ولعله كان من الأفضل عوض انتظار آخر لحظة للإعلان عن رؤية هلال رمضان ثم العيد، المبادرة حسب الحساب الفلكي، وهو مرئي بعيون المختصين لا محالة، أن رؤية بداية شهر الصيام تمّت يوم 23 أفريل على الساعة الثانية و27 دقيقة صباحا بالتوقيت العالمي؛ أما الرؤىة لعيد الفطر فكانت على الساعة الخامسة و40 دقيقة بتوقيت جروينتش بعد ظهر يوم 22 ماي. ففي ذلك الوقت تم الاقتران بين القمر والشمس وفيه ميلاد الهلال. أمّا من يرفض هذه الرؤيا ومنطقها الوثيق الصلة بالإسلام، فحري أن يطبّق منطقه في الرؤيا على كل شيء في دينه، بما في ذلك رؤية وجه الله وقد علم أنه يُرى لكن بعين القلب ! إن استدامة الطريقة البالية في فهم الرؤيا لا تدلل إلا على شيء واحد هو انعدام الإيمان الصحيح عند من يقول بها، بما أن الإيمان من الذكاء، ونحن لا نراه بالعين المجرّدة عندههم.
ثم من المعلوم أنه ليس هناك هلال، بل قمر يدور حول الأرض التي تدور حول الشمس التي لا تطلع ولا تغيب، فليست هي إلا نجم في السماء بين العديد غيرها في كون نجهل كل شيء تقريبا فيه وعنه، إلا أن علمه عند الله. أمّا العالم الحق فهو الساعي في الجهل، لا في العلم، لرفع النزر القليل منه، إذ العلم جهل يتقشع، لكنّ غيومه لا تنتهي لتعود سريعا لتغطيته. لذا، من ظن أنه علم، خاصة في الدين، فقد جهل؛ لأن ّ الدين حكمة الله التي لا معرفة بشرية لها على الإطلاق، إنما مجرّد اجتهاد في ذلك، هو جهاد لا ينتهي. وكما قال كانط في العلم أنه انتظام المعرفة بينما الحكمة انتظام الحياة، يمكننا القول بأن الإسلام بصفته كشعائر هو انتظام الدين، بينما هو انتظام الحياة كلها بصفته كثقافة. فما أبعدنا عن هذه الحكمة وعن هذا الإسلام الذي أضاعه أهله تكالبا على خداع الحياة الزائفة!
إنّ التمسّك بتجليات مرض الإسلام، مثل تحكيم الحديث في القرآن لتكون السنّة قاضية على الكتاب لا العكس، أو رؤية هلال العيد ورمضان دون التعويل على العلم، لا علاقة له بالإيمان الصحيح، فهو يمسخ روحه كلّها، وهي علمية أساسا. إنّما تلك سياسة، بالمعنى غير الأخلاقي للسياسة، متّبعة من طرف الفقهاء ومن في سدّة الحكم. هذا يذكّرنا، لا محالة، بما عُرف في المسيحية واليهودية من التحام المصالح بين الكنيسة والعسكر، ما أنتج التعبير المشهور : الحسام ومرشّة الماء المقدّس، والذي يعطينا تعبيرا مماثلا بعد تقاسم أهل السياسة والدين في بلاد الإسلام التحكّم في رقاب وعقول عباد الله: الدبّوس والمسبحة.
ومن مظاهره ما رأيناه مجدّدا هذه السنة، إذ لم يبدأ رمضان ولم ينته في نفس الوقت في كل بلاد الإسلام. ولن تتغير الأمور، لأن السياسة التي تفرّق بين الأنظمة يدعمها دين مريض متفرّق الأوصال، وهي حاله منذ قبل قيام الدول الإسلامية الحديثة. لذا، لا تغيّر للأوضاع إلا سياسيا، بما أن الإسلام سياسي بالطبع، إذا عرف الصفاء سبيله إلى هذا الدين في تجلّياته السياسية، أي أخلقتها؛ وذا مرتهن كذلك بصفة مماثلة لمن في سدّة الحكم، أي أخلقة السياسية. ولا نعتقد أن يتمّ ذلك لا بسهولة ولا قريبا، لأن الإسلام أصبح رهينة رهان عالمي يتجاوز مؤمنيه والأنظمة الآخذة به أو المدّعية ذلك، إذ هناك الكثير، داخل بلاد الإسلام وخارجها، ممن يعمل على بقائه مريضا، بلا روحانيات خالصة، فهو بذلك تحت السيطرة. ولا شك أن ممّا يسهّل هذا حالة التخلف، لا الاقتصادي فقط، ولو أن من الأنظمة الثرية ثراء فاحشا، بل الفكري والأخلاقي خاصة.
ومن الأسلحة التي يستعملها اليوم أهل المصالح في الغرب والشرق ضد الإسلام الروحاني الخالص، إضافة للتحالف بين التزمت المتوحّش الرأسمالي والإسلاموي، الحرص الشديد على أن يتقوقع أهله داخل حدود بلادهم المغلقة كما كان حالهم داخل جزيرتهم قبل الانتشار في العالم مع الإسلام وباسمه. فبذلك تزداد انقساماتهم، إذ من المعلوم أن انعدام الآفاق الرحبة يأتي بالتأزم لا محالة. وهذا معروف عند ربّات البيوت في الطبخ ممن تستعمل القدر الضاغظة الذي لا بد من تهؤئته؛ لهذا، لأجل هذا النزعة في النشأة المستمرّة للتزمّت في مختلف تجلياته، زخر التاريخ العربي الإسلامي سريعا بصفحات مخزية حتى عند الزمن الذي عُد إشراقا، أي زمن الفتوحات.
إلا أنه من الخطأ الاعتقاد أن جدليّة التزمت هذه تنفي قابلية المسلم للعيش المشترك المسالم، فالإسلام يبقى في روحه الأصلية الأصيلة سلام روحاني، إذ لا شك في مدنيته لأنه مدني بطبعه لما فيه من اهتمام بالمدينة والمدنية إلى حد التلوّن بالسياسة ومفاسدها من الغلوّ والتزمّت. على أن هذا الثراء، كما أنه يأتي بالأفضل، من شأنه الانزلاق إلى الأسوأ؛ لذا، من الواجب العمل الدؤوب للعودة إلى منابع الإسلام خارج سجن الفقه والشريعة. فليسا إلا الاجتهاد البشري الذي بار وفسد، بل وأفسد طبيعة دين محمّد فتهوّد وتنصّر جرّاء ما رسب فيه من إسرائيليات خلقت البيعة والكنيسة في دين لا رهبنة فيه ولا كهانة.
ختاما، وفي اختزال شديد، هذه أصول الإيمان الإسلامي كأس لعلم ما بعد الحديث في إسلام ما بعد الحداثة (الإ-سلام) : الإسلام هو القرآن أوّلا وآخرا، والسنّة له تبع حسب مقاصدها متفقة مع مقاصد الفرقان؛ وهو دين ودنيا، أي إيمان وسياسة، التي هي أخلاقية: أخلقة سياسة؛ والإسلام كالقرآن، مكّي ومدني، فيه مقاصد الشريعة مقاصد الإيمان الذي هو، تماما مثل الدين، خاتم الإيمان التوحيدي، لا يرتبط بالإسلام الشعائري وإلا اختص بالأعراب؛ فالإسلام ثقافة بالأساس للعالمين في كل زمان ومكان، وفي ذا أزليته؛ والإسلام هو العهد الأخير للمؤمنين من أهل الكتابات السموية الآخذين بسنّة إبراهيم الخليل.
شفى الله إسلام اليوم من مرضه، وكل عام والإيمان الحنيفي بخير!