Mon manifeste d'amour au peuple 2/3
 




Mon manifeste d'amour au peuple 3/3


I-SLAM : ISLAM POSTMODERNE








Accès direct à l'ensemble des articles منفذ مباشر إلى مجموع المقالات
(Voir ci-bas انظر بالأسفل)
Site optimisé pour Chrome

mercredi 13 mai 2020

يوميات رمضان 2020

رمضان زمن المرض
يوميات في مرض الإسلام
 الأسبوع الثاني

اليوم 8
الجمعة 1 ماي 2020


بما ذكرنا من أمثلة لمشكل الأحاديث، وبغض النظر عمّا من شأن بعضها إثارته من اشمئزاز أو تقزّز كما هي الحال مع حديث الذباب، رغبنا الإلماع إلى أن السؤال الحقيقي الذي تطرحه غرابة هذه الأحاديث وأمثالها ليس في مدى صحّتها أو صدقها. فنحن نعلم أن الروح العلمية لهي الأولى التي تحتّم الامتناع عن الكلام، بداية أو نهاية في صفة الأمور المدروسة، بمنطق الإقرار بصدقها أو كذبها بما أن من ميزات العلم أنّ من شأنه القابلية للنزاع حال ورود الحادث الطارىء الذائع الصيت منذ بيانه من طرف باشلار.
ثم، إضافة لهذا، وفيما يخص حديث الذباب، فإن التوجهات الحالية في علم التغذية والفائدة في استهلاك الحشرات من شأنها أن تقرّ بعدم مخالفته لا للذوق الحسن ولا للعلمية كما يرى ذلك البعض ممن تعلّل بالحس العلمي والمعقولية لرفض هذا الحديث أو التهكّم على الأخذين به، ناهيك عن المنسوب إليه ولو كان كذبا. فهذه التوجهات تدعم مقولة من يدافع عن مثل تلك الأحاديث ولو أنها تفعل ذلك للصفة القدسية التي تسربلت بها.
وهنا مربط الخيل. فالسؤال الرئيس، في الحقيقة وفي رأينا، الذي يطرحه مشكل الحديث والذي سعينا للتحسيس به، لهو في هذه النزعة الدغمائية عند أهل الإسلام التقليدويّين الذين ليس همّهم إلا فرض صبغة القداسة على كلام وفعل أتى من الرسول أو تُسب إليه، هذه السنّة التي أصبحت أعلى مقاما من القرآن بما أنها قاضية عليه في الواقع منذ الشافعي، وحسب مقولة الإمام الأوزاعي «السنة قاضية على الكتاب ولم يجىء الكتاب قاضيا على السنّة» كما أوردها السيوطي في «مفتاح الجنة في الاعتصام بالسنّة».
إنه فقط أو أساسا لأجل تلك الصفة المكتسبة للحديث، والتي ليست ضرورة من صفاته في بداية الإسلام وعند أوائل المسلمين، ومنهم كبار الصحابة، ترفض غالية فقهاء الإسلام المريض حتّى الكلام في متن الحديث، ناهيك عن مناقشته، رغم علمهم، وقد ذكّرهم دينهم بذلك قبل مرضه الحالي، أن الحقيقة تسطع من النقاش والمجادلة والمباحثة. فلا أحد ينكر أن المناظرات مما اعتاده العربي المسلم وامتهنه حتى يحصحص الحق؛ ولا شيء يمنع ذلك، أيا كانت صفة موضوع الجدال، ما دامت النية صادقة بدون أي توجيه دغمائي، دينيا كان أو علمويا.

اليوم 9

السبت 2 ماي 2020


قلنا أن مناط الاجتهاد بدون أي قيد أو شرط في الإسلام هو النية الحسنة، فبها كآلية ومنهجية إضافة لكونها أخلاقا يحافظ هذا الدين - الذي كاد أن يكون علما - على بقاء الباب مفتوحا على مصراعيه أمام الاجتهاد والمناظرة العلمية بلا دغمائية. ولا شك أن أغلب أهل الإسلام ممن حسنت نيّتهم وعزيمتهم يقولون نفس الشيء، بما فيهم من تزمّت منهم في فهم تعاليمه بما أنّ شغلهم، إن لم يكن هدفهم الأوحد، كما بيّنا، هو الدفاع عن دينهم. وبديهي أن هذا همّنا المشترك؛ إلا أنهم يسعون للإساءة بينما نريد الإحسان، ولا جزاء لكليهما في ديننا إلا بمثلهما. فكيف التفريق بين الإساءة والإحسان إلا بحسن النية أوّلا ثم حسب نتيجة سعي كل منّا، وهل يستوى سعي المتزّمت في مزيد التفرقة بين عباد الله وكسبنا للتأليف بين مختلف الأهواء والملل والنحل؟ ذلك أنّ منهاجنا وغايتنا، بل وسعينا، التهيئة للعودة لصفوة الإيمان الذي هو، ولا غرو، هذه المحبّة التي أعطى أهل التصوّف أفضل التجلّى لها. لذلك أقول مثلهم في وصف حال أهل التزمّت مع محاولة تجنّب أن أنحى دوما باللائمة عليهم لما يمكن أن نجده لهم من أعذار في تزمّت المناوئين لهم ممن أسمّيهم بالسلفية المدنية؛ أقول بمنطق صوفي إنهّم في غيبة، وهي عند أهل الخرقة أن يغيب المرء عن حظوظ نفسه فلا يراها، حسب مقولة صاحب «التعرّف لمذهب أهل التصوّف». إلا أن هذه الغيبة عند متزمّتي الإسلام هي عن حظوظ الإيمان الصحيح لإجل حظوظ النفس الأخذة بالإيمان الخاطىء.
إنّ الحقيقة التي لا تغيب اليوم عن كل ذي نية طيّبة وعزيمة صادقة، والتي لا مناص من الاعتراف بها ولا مجال للغيبة عنها أو فيها، هي أن حال الإسلام لا يُحسد عليها منذ انحطاط الحضارة العربية الإسلامية وتسلّط الاستعمار عليها، خاصة هذه الامبريالية الذهنية التي خيمت بكلكلها على فهم الدين. والكل يعلم أنها ليست بسعي من أعدائه فحسب، إذ من المنطقي ألا يسعى العبد إلا لمصلحته، فما أدراك بالعدو أو من نعدّه عدوّا؟ إنّها أيضا أو خاصة بكسب من أهله بما أنه لا قدرة للعدو، أو على الأقل لا قدرة دائمة، بدون الاعتماد على شراكة داخلية تؤمّن هيمنته. هذا ما يؤسس اليوم لما أسميته بالامبريالية الافتراضية.
المسلمون في نوع من الغيبة المتجددة، اعتادها البعض القليل منهم، فيما يخص حظوظ أنفسهم باختيار ذاتي بالتزهّد في الدنيا، تحاشيا لريائها، مخيّرين الظل على الضياء. لكن ليس هذا إلاّ ممّن حافظ على سلامة دينه، إذ الحال عند الأغلبية في غيبة الذهن عمّا يجري وما لا يجري من أمور العلم بالدنيا والدين واللهث وراء كل نور خلّب. وهي غيبة متواصلة، لا ما نجده عند المتصوّفة، أي الحضور مع الغيبة في نفس الحين، ما يسمّونه الحال بلا الحال، أى الحال مع الذات ولا الحال مع ما عداها. إنّ غيبة عموم المسلمين، وخاصة الخاصة منهم من أهل الذكر، هي عما شغل ويشغل الإسلام من مواضيع حسّاسة تعددت وفاقت الطاقة ولات مناص من الانشغال بها. فلا بد من إخراج هذه المواضيع من نطاق المسكوت عنه لأجل تفاقم الخطر المحدق بدين أصبح في هذه الغربة التي ذكرتها بعض الأحاديث لصاحب الرسالة والتي فيها اضمحلال الدين لا قدّر الله. هذا يتحتّم خاصة ونحن في زمن ما بعد الحداثة الذي ثبتت فيه العودة إلى منابع الإيمان الأصلية الأصيلة، أي الروحانيات؛ وهي حقيقة الإسلام ولبّ لبابه.
الحقيقة أيضا أنه للحالة المتردّية للحريات في بلاد الإسلام لا تتردد النخب المستنيرة فيها أحيانا في تجاهل ما يفرضه عليها واجبها من قول كلمة السواء للحفاظ على النفس أو درء المشاكل نظرا لانعدام صفو المشاعر وصفاء القلوب اللذان لا مناص منهما لتجلية ما تفرضه الحالة الراهنة من حقائق. على أن حال من أسلم نفسه لسياقة مقاديرية حسب روح دينه، أي الإسلام التام لله وتسليم النفس والمصير إليه - وهذا بلا شك يرتقي عند أهل التصوّف إلى مرتبة السياقة الروحية -، هذا الحال يحول دونه وما يأتيه غيره من بدع في دينه بالمعنى المرتذل للبدعة الذي فرض نفسه في الفقه. إنّه يشعر أكثر من غيره بوجوب وحتمية ظهور من يتحمّل مسؤولية إنقاذ الإسلام من غربته؛ فالمتصوّفة تؤكد بمقولتها في الأبدال أن الأمل لا ينعدم أبدا في وجود من يقوم بالواجب المتحتّم حين انعدام الأمل في الخلاص تماما. كذلك تسهر المقادير على الأفضل في سعيها الدؤوب لإيقاظ الهمّة عند الوسن للحفاظ على غيبة الذات، لا لأجل تلاشيها أو تلاشي وجود الغير، بل لحضور ما لا بد من حضوره، حقا بلا شك. على أنّ هذا يقتضي أحيانا استدامة الغربة زمنا لأجل العمل في الظل (أليس ذا ما ينعته هيجل بصنعة السالب؟) لحفظه من الضياء الكذوب إلى حين وقته لعودة النور الأسنى لا يشوبه أي خداع.
ولا مراء أن المقادير تسهر على عودة الإسلام إلى ما كان عليه من نبوغ بعد غربته اليوم؛ فليست هي إلا نوعا من الفناء في التجلي الذاتي الصحيح بعد تنقية الإيمان الإسلامي من كل ما ظغى فيه من انحرافات. وفي ذا الكثير من الحث لكل نيّة صادقة على السعي الصدوق، مع لزوم التفرغ إن أمكن له وبأكثر همّة، لتعاطي واجب التذكير الذي فيه النفع للمؤمنين. فكيف السهو عن أن السبيل التي سلكتها حضارة الإسلام اقتضت الطرح والحجاج والمناظرة، أي كل ما أصبح إليها الافتقار الأعظم في دين جفّت فيه الأنفس وتحجرّت العقول لطغيان الاجترار للمعتاد وتفشّي الجهل للمعروف رغم منكره. كلّ هذا يفرض على سالك محجّة الإيمان الصادق وسبيل الحكمة اللدنية التي لا حد لها الحرص على ظل التواضع لا غيره لمواصلة السعي بثبات نحو الحق. ذلك أن العالم، بما في ذلك في الدين، لا يزال عالما ما دام في طلب العلم كالجاهل به؛ فإذا ظن أنه علم، فقد جهل. فبما أن العالم الأوحد هو الله، وهو أعلم العلماء، فليس لأحد الادعاء بحيازة علمه وفرضه على غيره ممن يجتهد من ناحيته وبصدق نيّة لفهم حكمته؛ فالكل سواسية في ذلك، فقراء لعلم الله؛ والأعلم منهم لهو الذي يعترف بجهله ولا ينكره وقد ثبت !
ولئن تأكّد اليوم واجب السعي والتذكير، فليس هو وقت الصحو بعد، بما أنّ فيه خطر المحق؛ ولا شكّ أن محق الذات في الظل لأجل الحق أفضل من محق الفكر في الضياء لأجل الباطل؛ وهذا ما انتبه إليه المتصوّفة، وهم من أفضل مؤمني الإسلام، فقالوا إن قدر صاحب الوقت الصوفي أن يكون مقهورا في كلا حالتي الوقت من فقد ووجد. وهي حالهم وحال كل من يأمل أن يعود للإسلام حال وقت الصفاء في آن دائم لإيمان اكتملت تنقيته ممّا فسد فيه جرّاء المرض المتفشّى. ولعل في ذلك الضيم لمدى ما يتمنّاه المرء من خروج سريع للإسلام من الغربة الحالية، لكنّه ليس إلا لأجل ترك البعض والنزر القليل للارتقاء للكل، بما أنّ زبدة المعرفة في التذكير بكلمة السواء، وتواصل الذكر بها بلا هوادة ودون ما عداها حتّى أوان تجلّي الحقيقة المنشودة.
وبديهي أن الإيمان الإسلامي الشعبي غزير بالفضائل، إلا أنّها مع تعددّها ظلّت على شحّ من الإمكانيات، سواء المادية أو المعنوية، أي تلك التي تسمح بتجلّيها والأخذ بها، أو على الأقل عدم منعها، عدا القناعة بدوامها في النفس حتى وإن قزّمتها ظروف الواقع المعيش. لذا، من المفيد التذكير بها من حين لحين إذ في ذلك دعم السعي غير المتواصل لإثراء تلك الخصلات أو إحياءها إذا توفّر الوقت وخاصة العمل الدؤوب حتّى تحيا مجدّدا في الجمهور الغفير باتّصال بعضهما بعضا كاتصال الوارد بقلب الصوفي.
ورغم أن سيف الوقت من شأنه أن يقطع هذا الكسب أو يجعله يتقطّع، فإن تداعياته في اللاوعي الجماعي والمتخيّل االشعبي لهي بأهمّية لا حدّ لها. ولا شك أن كلمة السواء الإسلامية (أو الإ-سلامية) التي نعمل على التذكير بها في هذه اليوميات وفي غيرها من كتاباتنا ليست تماما للاستهلاك الآني؛ فعدا استثنائات تُعدّ على الأصابع، لا فائدة كبرى لها قبل حين وقبل حينها الذي يقدّره الله لها. وهذا يمهّد له الوقت للكلام ثم يأتي وقت الفعل، فكلّ يأتي بحكم وقته وإلا كان في أوان الحجب حسب تعبير الصوفية. وهذه الخطرات أو النفحات من روحها، تركنا لها العنان كمدخل للكلام في اليومية الموالية عن هذا الإيمان الذي ظلمه أهله ومن لا يبتغي الخير للإسلام رغم أن فيه أفضل الوصفات للخلاص من مرض الإسلام.
اليوم 10
الأحد3 ماي 2020

تمثّل الصوفية في نظرنا اللّقاح الوحيد والناجع ضد مرض الإسلام الراهن خاصة وأن لها الاعتداد بكونها تكوّنت مع بداية الإسلام حين كان سليما قبل مرض أهله وعدواهم لإيمانهم بعقلية مريضة توقّفت عندها عن التماهي مع روح دينها. ولهذا لم يكفّ الإسلام الرسمي القائم عن مناوءتها، معتبرا إياها هرطقة بينما ليست هي إلا العودة للإسلام الصحيح. ولهذا نؤكد أنه لا إسلام إلا صوفيا وأن التصوّف وحده بإمكانه دون غيره إنقاذ الإسلام من غربته، سيكون هذا حتّى وإن لم بتمّ الالتجاء إليه في عملية الإنقاذ المتحتّمة، إذ لن يسهر غيره عليها. ففي هذا القرن الجديد، نرى العودة قوية للدين، خاصة على الأرضين العربية حيث ثقافة الإسلام متجذرة، وهذا يؤهل قيام التصوّف بإخراج دين الإسلام من الإفراط في التديّن والورع إلى سمته الأولى التي هي روحانيات، ما يقتضي التخلّص من سمته الحالية كمجرد تعبّد وإقامة شعائر دينية يتمّ تقزيمه بها إلى صبغته الأصلية ونزعته الأصيلة، أي أنه ثقافة عموميّة كونية.
هذا، وكلامنا في التصوّف لا يعنى إلا صوفية الأساطين الأوائل لا النسخة الممسوخة منه والتي آل إليها جرّاء ما لقيه من عداء وقدح واغتياب أدّى به إلى الانقلاب عند الجماهير الشعبية إلى فلكلور لا يمثّل البتّة تصوّف الحقائق، ولو أنه يستقي من روحه المتحرّرة من قيود التزمّت؛ فهو يقلّد تصرّفات الإسلام الرسمي، سواء السنّي أو الشيعي منه، أي الأغلبية والأقليّة. فالتصوّف عندنا يحيل إلى أهل الصفّة، وهم أوائل المسلمين الذي اتبعوا الرسول وعاشوا بالمدينة تحت صفّة مسجده لانعدام الامكانيات عندهم، بما أنهم كانوا من الفقراء المعدمين أو الزهاد الذي اختاروا القناعة بحياة النقصان من كل شيء للزيادة في الفناء في ذات الله بإيمانهم المتجرّد من كل أوساخ الدنيا. فبمثل هذه الفلسفة في الحياة يمكن الوصول إلى الكف عن الخلط في الإيمان الإسلامي بين التعبّد الشكلي والروحاني، بين الشعائر والثقافة. والصوفية اليوم وحدها هي السد الحصين الواقي من غسل الدماغ المتزمّت، تعطينا أفضل القراءة للإسلام في جوهره الإناسي والروحاني، بل والمتحرّر الإباحي. فلا مجال للتصدّى للسلطة المعنوية التي يمثّلها تواجد المساجد في كل حي من مدننا وقد غمرتها نزعة عارمة جوهرية متزمّتة إلاّ بسلطة مضادّة لها نفس القوّة والمشروعية، وهي التي تمثّلها الزوايا المتواجدة في كل مكان، وبخاصة بكل قرية، أي البلاد الحقيقية أو العميقة، ضدا للبلاد الشرعية، بلاد المدن. فمن الضروري التنبّه إلى أن السلطة الرسمية القائمة لا قدرة لها على منع الانحراف المتزمّت بالدين؛ إنما يتأتّى هذا من السلطان المطلق على الأذهان الذي من شأنه أن يكون لدين أعاد اكتشاف ذاته، وهي الحبّ والتسامح كما تقمّصهما التصوّف الأوّل في تناغم تام مع إسلام البداية. لهذا كان للتصوّف الأثر الكبير في الإسلام المغاربي فاق ما يمتاز به أيضا من تأثّر عميق بالتقاليد الأشعرية والمالكية؛ فرمزية شخصية الجنيد السالك عظيمة في تجليات الإسلام الشعبي بالمغرب العربي الأمازيغي.
هذا هو الإسلام الخالص من وجهة نظر العقيدة المطلوب عودته بقوّة في خضمّ زمن ما بعد الحداثة لتمتين الصلة والوصال بين الروحانية وأفضل ما في العادات الشعبية. فالبون شاسع بين الإسلام الواقعي والإسلام الشرعي، إسلام الحقيقة الشعبي وإسلام الرسم النخبوي؛ ليس الإسلام إلا الإيمان الأول، أي الشعبي، وهو صوفي بالأساس! إن الاجتهاد الجدّى والصادق يتعيّن في الدين الإسلامي لتخليصه من تسلط الحرف ودكتاتورية النص لدعوى قدسيّته، إذ هي لا تمنع التنصّل من واجب التأويل الذي لا يمكن له الاكتفاء بالنص والحرف، بل يتعيّن عليه أيضا الأخذ بعين الاعتبار بروحهما ومقاصدهما. ولئن تلكأ الفقهاء في ذلك فبدعوى وضوح النص القرآني أو النبوي وأنه إثباتي، وقد تناسوا أن للإثبات أكثر من معنى وحيد مع اتساع العربية التي تمتاز بكثرة كلماتها الأضداد، ما يمكّن من إنكار معنى بمعنى آخر. ثم إنّ هذا الانكار من شأنه أن يتأتّى من روح معاكسة حسب أخذنا أم لا بالظروف المحيطة نظرا لما يمتاز به الإسلام من شديد اللصوق بالواقع المعيش وبالمصلحة الأعمّ لكل زمان للبشر. غاية روح النص هذه ، عندما نغلّبه على حرفه، تمكّن من الحفاظ على هذا الطابع الأزلي الذي يجعله صالحا لكل أزليا من خلال مقاصده، باطنية كانت أو ظاهرة؛ وذا بالضبط من خصائص الإسلام، خاتم الكتابات السماوية. والإمام الشاطبي لم يقل غير هذا في القرن الثامن الهجري، إذ مكّن الفقه من ساقه الثانية التي افتقدها طويلا قبله، فكان أعرجا، لا يمشي إلا على ساق واحدة.
إعادة الحركة الكاملة للفقه باستعادة المشي الصحيح وعلى ساقين، بعد أن جعله التزمّت مقعدا، تعني الجرأة على إعادة فتح باب الاجتهاد في النص الديني الذي تم غلقه دغمائيا وبصفة غير مسؤولة عجّلت بانحطاط الإسلام. ولعله كبداية قويّة تكون مثل الصدمة الكهربائية الضرورية نظرا للظروف لإنقاذ الجسم من حالة موت متحتّم، يتوجّب الإعلان رسميا عن غلق الجهاد الأصغر، أي الجهاد المسلّح بما أنه لا مكان لأي جهاد مشروع في الإسلام منذ انتهاء الهجرة إلا الجهاد الأكبر، أي مجاهدة النفس. كذلك يزكّي المؤمن نفسه وينقّيها من مفاسدها، وهذه أفضل التقوى إذ فيها التقمّص الكامل لمكارم الأخلاق اهتداء بالرسول، الذي أتى لإتمامها، كما نجح أهل التصوّف في الاقتداء به. إن إحياء الروح الصوفية في الإسلام المريض لهو استعادة نزعته الأولى كدين توحيدي كان سبّاقا في تعظيم حقوق وحرّيات المؤمنين، فليسوا هم عباد الله إلا لأن لهم كامل الحقوق والحريات، وإلا فسد تسليمهم أمرهم كاملا لله. وبالفعل، لم تتحرّر اليهودية والنصرانية من ربقة الكتاب المقدّس الذي لم يقدّس الحقوق والحريات إلا بانتشار الديمقراطية بأراضيها، بينما دخل هذا النظام السياسي بلاد الإسلام بفضل دينها، على أنه تم تجاهله ونبذه من بعد، عقب سقوط حضارته الباهرة، وذلك بخضوعها لإمبريالية داخلية وخارجية لا تزال قائمة. فبعد احتلال الأرض، تمّ احتلال الذهن ما يجعل العديد من المسلمين لا يرون في دينهم إلا عادات وتقاليد متزمتة، لا إناسة فيها. وهذا طبعا زيادة فاحشة في مصيبة دين تميّز بالروحانية؛ وهي من مرضه الذي يجعل من أهله شركاء موضوعيين لكل من ينكر أو لا يقرّ أنه دين حقوق وحريات رغم أن التصوّف بيّن ذلك منذ البداية أفضل بيان.
لهذا نرى أهل هذا الإسلام المريض اليوم يلذّ لهم ما يتميّزون به من لخبطة قيمية متأتّية من تعدّد المصادر المقدّسة. لقد رأينا كيف لم يعد الاكتفاء بالقرآن للكلام في الإسلام؛ إلا أن الأدهى في التأويل الخاطىء للنص المقدّس الأول المفترض الذي تأتي سنّة غير صحيحة لتأكيده ثم يثبته إجماع للسلف رغم أن الدهر أكل عليه وشرب. قراءة الإسلام الحالية بلا شك بارت ولا بد من التشهير بها لأن فيها كل الخطر لديمومة الدين الإسلامي. وطبعا لا يعني هذا النبذ للدين كما يعتقده البعض في أرض الإسلام ممّن يتعامل معه تماما وكأنه دين اليهودية أو المسيحية رغم اختلافه التام معهما وتميّزه عنهما. ما يتعىّن فعله هو العودة إلى الطريقة الصوفية، القراءة الوحيدة المقبولة مع قابلية الاستمرار لهذا الدين، وقد استفادت من لبابه وأشادت بروحه ومقاصده. وهذه هي ركيزة التقاليد الإسلامية بالبلاد المغاربية حيث الأرض مضطرمة بالروح الصوفية قبل أن ينغّصها إسلام رسمي يتعلّق بالرسم دون الجوهر والحرف دون الروح، ويهادن أهل التزمّت. وهي التي يتوجّب إعادة الاعتبار لها مع عدم السهو عمّا بيّنه الفيلسوف والتر بنيامين في طروحاته في فلسفة التاريخ في أنّه «لا وجود لوثيقة في الثقافة ما كانت في الوقت ذاته وثيقة في التوحّش».
لقد قلناه بعد ونكرّره دون هوادة: العادات الإسلامية الحالية، تماما مثل الاتجاه المتزمّت، إذ ليست هي إلا التصريف الليّن له، تجعل من الدين مجرّد شعيرة في حين كونه أولا وأساسا دين ثقافة. هنا يكمن الاختلاف بينه وبين العبرانية والنصرانية حيث تنعدم هذه الوحدة الثنائية لإيمان هو سياسة مدنيّة. لذا، لا مجال للمسلمين ذوي النوايا الصادقة السكوت أكثر على ما يقوم به من تقويض هداّم لصرح الإسلام البعض علنا، في داعش وبلاد الإسلام المتزمّت، أو خفية، في غيرها من الأماكن والذي لا هدف له سوى قلب القرآن الكريم إلى وثيقة توحّش بينما هو أساسا وثيقة سامية ورسالة سماوية إناسية روحانية. لهذه الغاية، لا شيء غير التصوّف يعين عليها، هذه القراءة التي كانت الطاغية قبل أن تدحرها السلفية في نطاق ردّة فعل الإسلام الضرورية ضد الامبريالية التي عاني منها. وفي الحقيقة، خلافا للمظاهر، فإن زمن السلفية انتهى، إذ هي إسلام زمن الضيق وشدّة الأزمة. أمّا اليوم فالإسلام مؤهّل لليقضة من سباته والبرء من مرضه بإحياء الصحيح فيه الذي مكّنه من حضارة وثقافة عظيمتين من شأنه استعادتهما. والإسلام الصوفي لهو القائم بهذه المهمّة لأنّه لا مكان إلا لإسلام وحيد، إسلام السلام والإناسة والإيمان المسكوني، ألا وهو إسلام التصوّف.
لئن نؤكد أن التصوّف يمثّل الأفق النّير لإسلام الصحّة والعافية، فذلك لأنّه تقمّص الإسلام كدين متمدّن ومتحضّر لا كدين توحّش وهمجية، محترما تعاليمه في جوهرها كتعاليم للحقوق والحرّيات. كان هذا خاصة عند أشهر أعلامه، زعماء صوفية الحقائق، أصحاب فكر حرّ بدون أي دغمائية. وهذا همّنا في هذه اليوميات التي نحاول فيها إيراد كلمة السواء درن جزمية وثوقية وتسليم بلا تمحيص، بل حسب قواعد الروح العلمية، هذه التي ميّزت روح الإسلام الأوّل. ونحن نندّد بصفة أخص بالعلامات الواضحة لمرض الإسلام الذي يقلب درّة الإيمان الثقافي الحبلى بحضارة نضرة إلى بعرة شعيرة ظلامية تحمل الآخذين بها إلى تطرّفية النفي المطلق له وإنكاره التام. ونعني بالذات هنا تحويل الاجتهاد الذاتي في مجاهدة النفس لاستحقاق الله كما يفعل الصوفي، أي الجهاد الأكبر، إلى ما يدّعي الانتساب إلى الجهاد، حرب ضد النفس وضد الغير بالأخص بينما هو الصورة الأخرى للنفس والذات. هذا مثال حيّ للحال المتردّية لفقه الماضي الذي نعمل به إلى اليوم والذي لا يقدّس فحسب أحاديث فيها إشكال وتناقض، ولكن أيضا حربا تحت مسمّى الجهاد غير صحيح بتاتا. فالحرب المقدّسة ليست من تصوّرات الإسلام حيث لا جهاد بمعنى الحرب والحرابة إلا في قراءة مريضة وفهم شيطاني لهذا الإيمان الذي سعى للسكينة والسلم والعدل والإخاء والاحترام المطلق للغيرية.
في الحقيقة، وبالتوقّف عند الأهم، نحن نرى أن الموقف السخيف للبعض من الإسلام المريض مأتاه شعور متشنّج من الريبة والاحتراس ممن يُعتقد أنهم أعداء يعملون على تقويض أهمّ ما لهم أو ما بقي لهم، أي إيمانهم، سواء كان هذا السبب حقيقة أم خيالا. هذه ردّة فعل قاعدية دفاعية لحفظ النفس ولعلّها تقتضي اللجوء للطريقة المعروفة في الهجوم كأفضل وسيلة للدفاع؛ وهي تكوّن نوعا من الشعور بعلوّ الشأن لتجاوز ما في الذات من إحساس بالدونيّة والنقص، فهو أساسا مركّب وعقدة. وقد لوحظ مثل هذا الشعور المركّب عند أول المسلمين إزاء أهل الكتاب، وخاصة من التقليد اليهودي الذي كان شديد الانتشار بالجزيرة العربيّة، مهد الإسلام. كان العرب يشعرون بنقص لصفتهم الأمّية، أي انعدام الكتاب السماوي عندهم، فتحوّل إلى شعور بالتعالي بعد البعثة، ما حدا بهم إلى السعي لفرضه على غيرهم، على الأقل كمرجعية وحيدة للوحي الربّاني. وقد أدّى هذا، وبشكل متناقض، إلى أسلمة العديد من العادات اليهومسيحية التي لم يكن لها أي علاقة بالإيمان الإسلامي الأوّل، فأتت تحرّم فيه ما لم يحرّمه وتقلّم الحقوق والحرّيات التي كانت فيه مطلقة.
وهذا ما يستمر اليوم مع من يُسمّى بالحداثيين الذين ليس همّم إلا توطئة الإسلام لنظرة غربية؛ وهي دون أدنى شك نظرة زمن التنوير فيه، على أنها لم تكن أيضا أساسا إلا نتاج عادات يهومسيحية. لهذا، نرى عند من يعاديهم ويعادونه يقظة لردّة الفعل القديمة التي تحدّثنا عنها لأجل الحفاظ على النفس وعلى إيمان يرون أو يعتقدون أنه في خطر لاستهدافه لهجوم يرمى إلى هدمه. وذا بلا مرية يشوّش على قضية الحقوق والحريات على أهمّيتها إذ يقلبها إلى مجرّد قضيّة حرب أيديولوجية. وما يعقّد الأمور أن بعض المصالح لا تتردّد في استعمال قضية الحقوق والحريات لأجل استدامة الحالة الراهنة لما فيها من دوام لامتيازاتهم. لهذا أتحدّث عن ضرورة روح جديدة إسلامية بالدعوة إلى العودة إلى إيمان البداية لإسلام ثوري كان دين حقوق وحريات. وهو إسلام زمنه، أي ما بعد حداثي، اقترحت كتابته بمطة: إ-سلام لبيان القطع مع التقليد الحالي والسنّة الحالية لإسلام مريض، الإرث الذي أصبح مهجورا.

اليوم 11
الإثنين 4 ماي 2020


مثّل التصوّف الجانب المضيء لبداية الإسلام، محافظا على روحه الثورية التي أتت بها الرسالة المحمّدية، فكان فاتحة لتيارت فكرية وعقدية في الإسلام تعدّدت وتنوّعت. وقد عرف التاريخ الإسلامي في أوج حضارته من الملل والنحل ما لا يدخل تحت الحصر خلافا لما قيل في الحديث الموضوع المروي عن أبي هريرة الذي قصر عددها على السبعين. ولئن وجدنا ونجد الكثير من روح التصوّف في التيار الشيعي كما بيّنت ذلك مثلا الكتابات الفلسفية لابن سينا، فهناك فرقا دينية أخرى تناغم فكرها مع التحرّر الصوفي من قيود الدغمائية إلا أنها اندثرت، منها المرجئة. كانت هذه الفرقة بحق نموذجا للحريات ورمزا لها من بعد في زمن بداية التقهقر إلى الوراء في هذا الميدان وغيره، مؤشرا على المرض العضال الذي لا يزال الدين الإسلامي وأهله يقاسون منه.
طبعا، وخلافا لما كُتب ويُكتب في ذلك عن هاجس الانقسام والفتنة، إذ اعتُبر التعدّد والاختلاف تخلّفا وضياعا للدين، فقد كانت هذه الفرقة وغيرها الدليل الثابت على أن ذلك لهو الثراء في الدين والإثراء له. إنّه بحق من علامات التحضّر؛ وهو من تلك المؤشّرات التي تبيّن ما أسمّيه «الحداثة التراجعية» لحضارة الإسلام، أي حداثته السابقة لحداثة الغرب. لقد كان بمثابة تعدّد الأحزاب اليوم في الدول الديمقراطية، حيث تتنوّع الرؤى وتختلف؛ فكما الديمقراطية هي في التعدّد والتفرّق سلميا، لا الاجتماع الذي يُفرض قهرا، كان الإسلام كذلك في الرأي والرأي الآخر في الدين قبل أفول حضارته.
فلنقل كلمة في حق هذه الفرقة الرافعة للواء الحريات كرمز لا بد منه للاختلاف الذي هو التمهيد الضروري للائتلاف الصحيح حول الأصح من الأمور، لا الالتفاف على الحقوق والحريات بل حولها وخدمة لها، إذ هي المشروعة للعبد في ملّة تقدّس حريته؛ فهي من أفضل ما يلخّص الإسلام في صفائه الأول وسماحته الجوهرية المفقودة.
إن ّالمرجئة من بين الفرق الإسلامية المهمّة؛ وهي القائلة إن قيمة الكسب البشري في النية والقصد أساسا، إذ كانت تعتقد في تأخير حسابه ومجازاته اللذان هما من أخص خاصيات الله، فليس إلا له الحساب والعقاب أو المغفرة. لذلك، هي تقول بأنه «لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة.» لذا، عرف هذا التيّار الإناسي العقلاني انتشارا واسعا عند أهل الإسلام بمختلف تياراته؛ فعدّ منها الشهرستاني في كتابه «الملل والنحل» أربعة أصناف: «مرجئة الخوارج ومرجئة القدرية ومرجئة الجبرية والمرجئة الخالصة... وكذلك الغيلانية أصحاب غيلان الدمشقي أول من أحدث القول بالقدر والإرجاء.» وهناك من المرجئة، مثل غسان الكوفي، من فرقة المرجئة الغسّانية، من عدّ أبا حنيفة النعمان من فرقته؛ إذ كان يُحكى عن صاحب المذهب الحنفي كلاما مثل مقولات مذهبه. يقول الشهرستاني: «كان يقال لأبي حنيفة وأصحابه : مرجئة السنّة، وعدّه كثير من أصحاب المقالات من جملة المرجئة، ولعل السبب فيه أنه لمّا يقول: الإيمان هو التصديق بالقلب وهو لا يزيد ولا ينقص، ظنّوا أنه يؤخر العمل عن الإيمان.» هذا، وبيّن صاحب الملل والنحل أن للإرجاء معنيين: «التأخير، كما في قوله (قالوا أرجه وأخاه) [الأعراف، 111- الشعراء، 36]، أي أمهله وأخّره. والثاني إعطاء الرجاء.» والمعنى الفقهي هو ما يضيفه، أي : «تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يقضى عليه بحكم ما في الدنيا : من كونه من أهل الجنة أو من أهل النار».
قبل اندثارهم، عدّ أهل الإرجاء، هذه الفلسفة الدينية التي تقتضي الإحياء، ما لا يقل عن اثنتي عشرة فرقة حسب تعداد الأشعري في «مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين»، انقسمت إلى تيارات لاختلافات في الإيمان. فمنهم من يزعم «أن الإيمان بالله هو المعرفة بالله وبرسله وبجميع ما جاء من عند الله فقط، وإن سوى المعرفة من الإقرار باللسان والخضوع بالقلب والمحبة لله ولرسوله والتعظيم لهما والخوف منهما والعمل بالجوارح، فليس بإيمان... وأن الكفر بالله هو الجهل به». ويضيف الأشعري أن هناك من زعم «أن الإيمان بالله هو المعرفة فقط والكفر هو الجهل به فقط، فلا إيمان بالله إلا المعرفة به، ولا كفر بالله إلا الجهل به». ونجد أيضا فرقة زعمت «أن الإيمان هو المعرفة بالله والخضوع له وهو ترك الاستكبار عليه والمحبة له؛ فمن اجتمعت فيه هذه الخصال فهو مؤمن».كما هناك من رأى أن الإيمان هو «المعرفة بالله والخضوع له والمحبة له بالقلب والاقرار به أنه واحد ليس كمثله شيء». وغير بعيد عن هذا وذاك من قال «أن الإيمان هو الإقرار بالله وبرسله وما كان يجوز في العقل أن يفعله وما كان جائزا في العقل أن لا يفعله فليس ذلك من الإيمان».
رغم هذه الانقسامات التي ساهمت في زوال المرجئة، فإنها لم تتعلّق إلا بدقائق وتفصيلات معنى الإيمان لا بمعنى الإرجاء وهو المهم في فهم الدين. فقد أجمعت كل الفرق، حسب الشهرستاني نفسه، على «أن الدار دار إيمان وحكم أهلها الإيمان إلا من ظهر منه خلاف الإيمان، واختلفت المرجئة في الاعتقاد للتوحيد بغير نظر: هل يكون علما وإيمانا أم لا». المهم الملاحظة أن المرجئة، أو أكثر فرقها، كما يقوله صاحب مقالات الإسلاميين، «لا يُكفّرون أحدا من المتأوّلين ولا يكفّرون إلا من أجمعت الأمة على إكفاره.»
هذا هو الأهم بدون أدنى شك في ذا التيار الفكري في الإسلام الذي يقتضي من المسلمين النزهاء إحياءه، إذ من الضروري لأمة الإسلام اليوم، وهي تعيش أتعس أيامها مع لخبطة قيمية فاحشة ومرض لعله يودي بحياتها، العودة إلى قراءة سليمة سلمية للإسلام مثل قراءة المرجئة. فبلا منازع، هي من الفهم الصحيح للدين، إذ تؤكّد قيمة الإيمان فيه دون ما عداه من مظاهر الشعائر، إذ الإسلام هو الإيمان الصحيح والتقوى الصادقة قبل الحرص على الشعائر التي من شأنها ألا تكون إلا مظاهرا خادعة. فحسن النية لا يظهر ضرورة في الجوارح، إنما محلّه في مكنون القلب وصفاء السريرة، وهذا لا يتجلّى إلا في الفعل والكسب. ألم يأت في الحديث الصحيح (وهو في البخاري ومسلم) أن من آمن بالله ورسوله دخل الجنة وإن سرق أو زنى؟

اليوم 12
الثلاثاء 5 ماي 2020


بعد كلامنا في التصوّف والإرجاء، لا مناص من ذكر المعتزلة وقد اعتبرهم الكثير أهل العقلانية في الإسلام، ومصباح الإسلام التنويري الأفضل؛ وليس هذا صحيحا تماما. فلا بد من التنبّه إلى أن لأهل الاعتزال بعض المسؤولية في مرض الإسلام الحالي إذ كانوا طرفا مهمّا فيه. وهذا يتحتّم اليوم، إذ التاريخ يعيد نفسه مع أهل المقولة الحداثية التي تجهل أو تتجاهل أن الإسلام لا يمكنه أن يكون حداثيا بما أنه عرف الحداثة قبل الحداثة الغربية، وهي «الحداثة التراجعية» التي تكلّمت بعد عنها. لذا ليس للإسلام التنويري في زمننا ما بعد الحداثي إلا أن يكون دين ما بعد الحداثة أو الإسلام ما بعد الحداثي؛ وقد خصصت له كتابا من خلال ما أعتقده بالإمكان كفتوحات متجدّدة، تونسية هذه المرّة. وسنعود في اليومية التالية لهؤلاء الحداثيين، معتزلي الأيام الحالية، الذين يعملون - لاشعوريا على الأقل - على دوام الحالة المرضية في الإسلام على ما هي لسوء الاستراتيجية المستعملة إذ، في عديد المسائل، نجدهم الشركاء الموضوعيين لأهل التزمّت. لهذا قلتُ أن هناك سلفية مدنية حليفة موضوعية لنوايا السلفية الدينية، وهي أصحاب مقولة اللائكية التي يأتي الكلام فيها لاحقا. 
أما بخصوص معتزلة أيام الإسلام الزاهرة، فنعتقد انطباق المثل اللاتيني عليهم، وهو القائل ما معناه أن »الوصول لأعلى المراتب لهو بداية النهاية»؛ وليس ذلك إلا ما عبّر عنه شاعر الأندلس في صدر هذا البيت : «لكل شيء إذا ما تم نقصان».
وبما أن ذكرهم اندثر، لنبدأ بالتذكير بأهم أعلامهم في القرن الثالث الهجري، مع الإشارة إلى أننا نجد إشارات عدّة لفكرهم الذي ضاع للأسف في كتابات التوحيدي. ولنبيّن، قبل تعداد أبرز روؤس المعتزلة، أن منها هشام بن الحكم الذي كان في الواقع من أبرز متكلّمي الشيعة، ما يؤكّد بداية الفكر الشيعي كفكر حرّ، وقد بيّنا ذلك من خلال علاقته الوطيدة بالتصوّف؛ وقد مات هذا الشيعي المعتزلي سنة 199 هـ. أما من كان من المعتزلة المتقدّمين فهاشم أو هانىء الأوقص، وعبيد الله بن الحسن الذي تولّى قضاء البصرة للمأمون. وأمّا بقيّة جهابذة المعتزلة فهم : أبو الهذيل العلّاف، رأسها الأوّل، توفّى في سنة 227 هجرية؛ وإبراهيم بن سيّار النظّام، رأسها الثاني ومنظّرها الكبير، المتوفّى سنة 231 هـ؛ وثمامة بن الأشرس، من أساتذة علّامة العصر، الجاحظ، مات سنة 213 هـ، وقد عُرف بكونه من روّاد نظرية خلق القرآن، مثل حفص الفرد الذي تناظر مع الشافعي فكفّره هذا الأخير، لذلك فهو ممن يعرفه جيّدا أهل الحديث؛ ومويس بن عمران، من أساتذة صاحب البخلاء أيضا؛ وأخيرا صالح قبّة، وهو مع الجاحظ من الطبقة السابعة للمعتزلة حسب التقسيم لطبقاتهم الذي أتى به القاضي عبد الجبّار. 

اشتهر المعتزلة بكونهم أصحاب العقل في حضارة الإسلام، فكان فكرهم مستنيرا عقلانيا، إلا أنهم لئن كانوا على مستوى البحث في عليين ، فقد تصرّفوا في مجتمعهم كما يتصرف النوكى، مما أدى إلى هدم كل ما بنوه، جاعلين ما أسدوه من خدمات سنيّة للفكر الإسلامي الحرّ في سجّين، ممّا زجّ بكل الفكر العقلاني في غياهب الانحطاط. ذلك أن المعتزلة أرادوا فرض رأيهم بالقوة ، رغم وجاهته وعلو كعبه، فاستغلوا حظوتهم قرب السلطان لحمله على فرض القول بخلق القرآن فرضا. هذا ما أدّى إلى محنة كان الفكر الإسلامي في غنى عنها، إذ لم تكن فحسب محنة الرافضين لفكرة خلق القرآن، وأغلبهم من المحافظين والمتزمتين، بل محنة الفكر الإسلام عامة، مما أدّى إلى غلق باب الاجتهاد. فتماما كما أراد المعتزلة فرض رأيهم النيّر بالقوة، جاء بعدهم أصحاب الفكر الظلامي ففرضوا رأيهم الأخرق بالقوة أيضا؛ وهذا ما نقاسيه إلى اليوم. بذلك كانت محنة خلق القرآن بداية انحطاط الإسلام، أي مرض الإسلام الذي هو مثل الفيروس التاجي الذي يمكن أن يحمله الجسم المريض دون أن تكون له أية علامات، إلا أنه ينخره من الداخل شيئا فشيئا بلا هوادة إلى موت مفاجيء لا خلاص له. 

إنه ليغلط من يربط حصرا انحطاط حضارة الإسلام بالاحتلال الخارجي. نعم، لا شك أن ما حاق ببلاد الإسلام، بداية من الغزو المغولي إلى الحروب الصليبة، أضعفها، مانعا عودة الصحّة إلى بدنها المعتل. إلا أن هذه الهجمات الخارجية لم يكن لها أن تفعل فعلها إذا لم يمهّد لها الفكر الإسلامي ذاته الطريق بغلقه باب الاجتهاد؛ بذلك حكم على العقول بالتحجّر فغدت غير قادرة على التصدّي بنجاعة لأي عدوان. وقد بدأ الإسلام السلفي منذ انقلاب السلطان على أهل الاعتزال بالتسلّط على كل تجلّيات الفكر العقلاني معتمدا في ذلك على نفس الآلية التي استعملها عقليو الإسلام، ألا وهي شوكة الحاكم. بل إن منظّريه طوّروها حتّى أصبحت سلاحا فتّاكا بين أيدي الحكّام يخدمون به في نفس الوقت طغيانهم وذلك بطمس كل علامة تحرر في فهم الدين وصرف معانية البليغة. أين نحن إذن من هذه الطفرة التحرّرية التي سبقت قيام الدولة العباسة ثم ميّزت عصر التدوين في بدايتها فأعطت للإسلام أفضل ما أمكن للعقل البشري اختراعه من فكر علمي عالمي تميز بالحرية التامة فالإبداع والعبقرية؟

اخترع العربي المسلم قواعد لغته وتفنن في فهم القرآن بغريبه ومجازه، فلم يستح من قراءته على أوجه مختلفة، بل ومتناقضة، لأن القرآن ورد على أحرف متعددة وكان متقدما على زمانه. ذلك أن العقل فيه لم يكن ما فهمه المعتزلة وتغلّب من بعد على الغرب، أي هذا العقل الجاف الديكارتي، إنما كان عقلا حسّيا، لا تتنافض فيه الأمور بقدر ما هي تتفاعل وتتكامل، تماما كاللغة العربية بما فيها من ثراء إلى حدّ أن الكلمة تعني الشيء وضده. ولا شك أن مثل هذا البديع اللغوي الذي منه معجزة القران (كما ينعت الشافعي القرآن) هو ما يسمّى في العلوم الاجتماعية المعاصرة بالفكر المركّب والفكر الأضدادي. وهو أفضل ما يميّز اليوم العلوم، إذ لم يعد العقل في فترة ما بعد الحداثة التي نحياها الفكر العقلاني كما عرفناه زمن الحداثة الغربية، إنّما هو فكر ذوقي بالأساس، هذا الفكر الحسي كما تفطّن له الغزالي وكما نظر له أخيرا عالم الاجتماع ميشال مافيزولي. فلا مجال اليوم بعد الفتوحات العلمية المختلفة، ومنها ما أتت به الفيزياء الكمّية، للتمسّك حصرا بالمنطق العلمي الاستدلالي مع نبذ المنطق الحدسي، وهو من العلم أيضا، إذ الحدس كمّا بيّنه صاحب «روح العلم الجديدة»، باشلار، فيه الكثير من الحدس. ولعلّ هذا ما غاب مثلا على مفكرنا المغربي عابد الجابري في «نقد العقل العربي»، فاكتفى بنظرة عقلانية غربية رغم أنّها أصبحت علومية، كما لم يفت تبيينه ناقده جورج طرابيشي في «نقد النقد». 

إن كل ما نعاني منه من مرض في الإسلام ما كان له أن يكون إذا لم تحكم السلفية الفكرية قبضتها على عقول الناس باسم قضية خلق القرآن، مستعملة نفس الأسلوب الذي اعتمده العقليون وهم يعتقدون خدمة العلم بينما كانوا يهدمون صرحه. والأدهى أن الحال اليوم نفسها عند السلفية الذين ـــ على الأقل عند مخلصي النية فيهم، كما كان حال زعيمهم الإمام ابن حنبل ـــــ يعتقدون خدمة الإسلام وهم لا يعملون إلا على هدم أساسه. فأس الإسلام هو الحرية في فهم أحكامه وتصريفها حسب مقاصده دون التقيد بمقتضيات زمن ولّى واجتهاد سبق؛ ذلك لأن قوة دين القيّمة في الاجتهاد المستدام. فالسلفية اليوم ليست تنافح إلا على نفوذ سياسي وسلطة معنوية تضيفها إلي تسلّط مادي لمجرّد التحكّم في عقول البشر وقد خلقهم الله أحرارا. فمتى استُعبد الفكر في الإسلام وقد أتى حريّة فكرية متحرّرة من كلّ عبوديّة؟
استُعبد الفكر الإسلامي منذ فتح العقليّون الباب لذلك باعتمادهم على الحاكم لفرض مقولتهم؛ فإذا بهم يشوّهونها ويفتحون السبيل أمام أعداء الفكر الحر؛ فليس للفكر الحر من راع إلا مثيله من الفكر الحر ! هذا الذي ينقصنا اليوم، فكر عقله ذوقي حسّاس، لا حِجر فيه ولا تسلّط عليائي استعلائي؛ وهذا ما علينا استعادته إذ هو ممّا كان لنا بمثابة اللِبَسَة في بداية الإسلام حتى أوج العقلانية في عهد المأمون، أي بداية النهاية. فبما أن التاريخ يعيد نفسه، لأنّ كل شيء فيه إلى عود على بدء بما أنّ الزمن مابعد الحداثي لولبي، لا بد لنا من العودة إلى حيث وقف بنا الزمن الأول: مثلا إعادة الكلام في قضية خلق القرآن الحسّاسة والخوض فيها مجددا، ولكن على قاعدة سليمة هي الحرية التامة بعقل لم يعد مغاليا في الديكارتية إلى حد العلومية؛ أو أيضا حرية نقد مشكل الحديث أو غلق باب الجهاد الأصغر والتشهير به كمجرد حرابة لا تمتّ بصلة للإسلام وقد انتشر وثبت في القلوب قبل الأرضين. 

لقد فات زمن العقل الديكارتوي، أي العلموي، ولّى زمانه في نطاق ما عهدناه من الوضعية التي نضبت منابعها كنفي للروحانية لتصبح كما هي في آخر حياة صاحبها أوغيست كونت الذي قال بشعيرة الأموات الأحياء. ولنا أن نستلهم إبداعاتنا من الفكر المداعب الحساس وعلم اجتماع القصف والعربدة، وذلك طبعا بالمعنى الاشتقاقي للكلمة في اللغة اللاتينية حيث هي الاكتناف الانفعالي ، وهو أهم ميزة لما بعد الحداثة. فالمجون من أغزر الفيض ولهو أفضل علامة للتحرر والانعتاق من ربقة كل قيد فكري، خاصة الفكر السلفي المناهض لروح الإسلام التحررية. بذلك نتوصل لجعل زمن المرض هذا، الذي سادت الظلمة فيه كل فكر، اللحظة الحاسمة للاستنارة والتنوير، ما يُسمّى سوسيولوجيا باللحظة السرمدية. ولا شك أنه يتسنى لنا عندها، في نطاق فكرنا المركب، قلب بيت شاعرنا أبا البقاء الرندي قائلين بحق وبالدليل: «لكل شيء إذا ما نقص اكتمال!»
اليوم 13
الأربعاء 6 ماي 2020

تكلّمنا بعد في مسؤولية مرض الإسلام التي تقع على عاتق عقلانيّيه لأجل المحنة التي أحدثوها فيه بالقول بخلق القرآن، هذا الموضوع الحساس الجلل والذي لا بدّ من إعادة طرحه في نطاق فتح الباب للاجتهاد من جديد حسب منطوق المداواة بما كان الداء. طبعا، يكون هذا خلافا للاستراتيجة المعتمدة من طرف المعتزلة والتي بينّا في اليومية السابقة، هذه الاستراتجية الخبيثة، وهي نفسها اليوم عند أهل التزمّت في جانب الاعتماد على شوكة الحاكم، وهي أيضا نفسها عند معتزلة هذا الزمن، من يقول بالحداثة، في مجال الطرح السيّء لقضيّة هامّة، هي العلمانية اليوم. فهي بصفة أو بأخرى مثيل المجادلة في خلق القرآن، تبيّن ما لا يجب اعتماده كمنهجية، وسنتحدّث فيها على حدة في يومية لاحقة حيث ندلّل أن الإسلام بعد لائكيّ، إلا أنه كذلك حسب مبادئه الخاصة لا بتقليد أعمى لتاريخ الغرب وعاداته.
في يومية اليوم نعرض لرؤيا الحداثيين للشخصيّة العربيّةالإسلاميّة من زواية مفهوم الفرد ونقدهم للحتميّة أو الجبريّة التي ينتجها عندهم هذا المفهوم في رأيهم. سنرى كيف أنّ أحكامهم في هذا الصدد بعيدة عن الموضوعيّة، لا تخدم قضيّة الحقوق والحرّيات، التي هي همّهم مبدئيا، بقدر ما تسعى في ركاب الأيديولوجية العلمانيّة والانتقاد السافر لدين الإسلام. وهذا يساعد على تقوية مناهضيهم وأعدائهم المتزمّتين الذين يعتبرونهم نخبا منبتّة، تستحي من ثقافتها ومن دينها، ما ينجرّ عنه أكبر الإساءة لأفكارهم التحرّرية الأنسيّة. لا جرم إنّ من حقّ كل الناس، باسم حرّية التعبير، النقد في الدين أو الثقافة؛ إلا أنّ الرسالة التي يوجّهها للعموم يرتبط دوما بصفته كقائل وزمن المقولة. ولا يخفى أن حداثيينا يتكلّمون كثيرا باسم الغرب ونموذجه رغم أنّه والعالم الذي لا يزال يهيمن عليه في حال أزمة خانقة تفرض نبذ الأنموذج الحداثي المترهّل وقد تجاوزته الأحداث في زمن ما بعد الحداثة.
ولئن لا يخفى فعلا أن البرمجية المعمول بها في الإسلام هي اليوم مهجورة، إلا أنّ هذا لا يتأتّى من لبّ المنظومة ونواتها، أي الإيمان، إذ هي سليمة؛ فسبب هذا الهجريتمثّل في انعدام التحديث للتطبيقات وللبرمجية عموما؛ وهذه مسؤولية المهندسين، أهل الفكر هنا، وبالأخص الرافع من هؤلاء لواء التنوير الفكري. مع الملاحظة أن البرمجية الحالية تعمل حسب مواصفاتها القاعدية، ما يعني أن العديد من الإمكانات المتوفّرة فيها غير مستعملة، إذ تقتضي تفعيلها خاصة، وأنّ من شأنها تحسين المردود بصفة هامّة وأنّ هذا لا يقتضي عموما إلاّ الإرادة لذلك والرغبة فيه أؤ العلم به، أي ما يعادل وضع علامة في خانة التطبيقة المعنيّة. ولا غرو أن المنظومة المعتمدة في الإسلام تقتضي تحديثا هامّا لا يمكن القيام به إلاّ من داخله ومن قبل مفكّريه الذين من واجبهم عدم الاكتفاء بالنقد والانتقاد، إذ ليس فيهما فائدة، بل الضرر كلّه. هذا، في زمن يتواصل فيه طغيان الغرب على العالم رغم أفول ما كان له من رونق وأزمة منظومته أيضا، وقد تحدّث عنهما أحد مفكّريه، أزوالد سبنغلر منذ بداية القرن الماضي؛ رغم ذلك، فهو يواصل التمسّك باستكباره وعنجهيته واعتبار نفسه وفكره محور كل شيء للحفاظ على ما يميّز العالم من اختلال وفوضى فيهما مصلحته لا محالة. لذا، نراه يوقظ ما في خبايا فكره من نزوات ماضية يهومسيحية أفرزها الصراع القديم بين اليهودية والمسيحية والإسلام للعمل على منع هذا الدين من مغادرة الردب أو الطريق المسدودة حيث عمل على إحصاره به خلال زمن الامبريالية التي أركعت بلاد الإسلام. وهو اليوم يستغل بقاء تعلّق نخبها بنموذجه على حاله، رغم عدم صلوحيته بعد اليوم لخصوصيات واقعهم، وذلك طمعا لإدامة احتلاله لهم، الذهني هذه المرّة. لهذا، نجد المقولات عند مفكّري الإسلام تساعد على دوام الحال التعيسة الراهنة للإسلام في زمن أصبح فيه ممكنا كل شيء للتغيير.
من بين المهجور من الفكر الغربي اليوم مفهومه للفرد وبالتالي نظرته للفرد غير الغربي، الشرقي خاصة، ما يحمله على تكوين صورة نمطية غير حكيمة للذات العربية المسلمة على أنها متميّزة بهذه الحتميّة أو الجبرية التي تصنعه ولا يصنعها. هذا طبعا اختزال فيه، على الأقل، الكثير من الانتقاص لشخصيّة لعلّ أهم ميزاتها أنّها مركّبة بالمعنى الأسنى لكلمة. فلئن يتكلّم الحداثيون عادة عن الذات البشرية كفرد متميّز لا مجال لنفي تفرّده، فهم ينسون أن هذه الذات مجرّد وهم نظري، إذ البشر حيوان مدني، جماعي واجتماعي؛ هذه ميزته الأولى، بل وتعريفه. ونحن نعلم صيرورة ابن آدم عند فرادته أو وحدانيته، أي حين ينشأ خارج المجتمع؛ فهو لا يرتفع عندها أعلى عن مستوى التوحّش.
لقد انفرد الغرب بنظرية الفرد كمولى لنفسه وللمخلوقات، ثم استعملها لفرض هيمنته على كل الدنيا، ومنها مسؤولية تمدينه وتحضيره، كما كان يقول. ويمكننا اليوم التعرّف على مدى الوضع الذي وصل إليه الفرد في الغرب، إذ هو في حالة غنمية من الخنوع لمجتمع استهلاكي، ليس فيه فرصة لمحاكاة التعبير الحرّ عن ذاته إلا خلال مهزلة الانتخابات في نطاق ما ينعته علماء السياسة بديمقراطية التدجين. فأحرى بالفرد العيش في ديمقراطية متوحّشة، التي لا يستحيل ظهورها في الأرضين الإسلامية، حيث ينصبّ الاهتمام أكثر على الأصل قبل الشكل وعلى الصيرورة لذات من شأنها التطوّر. فالاكتفاء بالاهتمام بوضعية الفرد ونظرية الحقوق والحريات الفردية، بدون الانتباه للمحيط الوطني والعالمي الذي يتصرّف فيه الفرد، يحمل إلى العناية فقط لجوهوه، وهو هذا الدّبال أو التربة العضوية التي هي تعريف ابن آدم باللاتينية (وهو الأدم، أي الأرض، بالعربيّة) لا ما يصير إليه وما يزكّي تلك الحال القاعدية الأولى المزرية وإن كانت هامّة حتّى يرتفع هذا البشر من مجرّد بهيميّة إلى ما هو، أي الحيوان العاقل.
إن الحداثيين المتعلّقين بما كان من تقدّم في الغرب يعتقدون أن الإسلام ينتقص من قيمة الفرد الذي ألّهه تقريبا الغرب، إذ يجعل منه مجرّد علّة أو سبب مع السهو عن القول بأنه كذلك فقط مع الله، إذ لا يُسلم أمره إلاّ له. ثمّ إن هذا الإله ليس فحسب وضرورة التعالى والعظمة حسب ما يفهمه أهل التزمّت، فهو كل التعالي وكل التفوّق والعظمة، بما في ذلك في الطبيعة البشرية. مع العلم أن الفكر الغربي نفسه تبرّأ أخيرا من شطط مقولته أنّ الإنسان هو سيّد العالم ومولاه، معيدا إياه إلى مكانه، أي مجرّد حيوان من الحيوان، من شأنه أن يسقط إلى أبعد حدّ من هذه الطبيعة، أي البهيمية. لذا، لئن كان المسلم علّة وسببا لضوابط ومعايير وبدون صفة متأتّية من فرادته كصاحب حقوق، تلك الصّفة التي يتعذّر انتقاصه منها في الغرب، فليس الأمر كما تقول به نظرة الحداثيين المشوّهة، إذ تقول أنه مطالب بواجبات تجاه الله؛ ذلك أن هذه الواجبات هي تجاه مجتمعه وقومه نظرا لطبيعته كمخلوق اجتماعي. هذا هو مغزى الواجب في الإسلام، فهو غائي، له غاية؛ فليس الله هو المرسل إليه، وليس الواجب موجّه إليه، بل يتّجه للإنسان نفسه من خلال صورته، أي الآخر؛ فالأنا هو دوما الآخر، كما قالها الشاعر رامبو.
في نهاية الأمر، وحسب روحانيّي الإسلام، أهل التصوّف، ابن آدم هو الذي يخلق ربّه كما هو مخلوقه قُدّ على صورته. في هذه الصدد، نعت عالم الاجتماع دوركايم المجتمع بأنّه الاجتماع الربّاني، وأنّه هذه الآلة التي تصنع الآلهة، بدءا بأصنام البدائيين إلى ربّ اليهودية المرعب أو داعش اليوم. هذا، وقد بيّنته، لنذكّر أن الأمّة في الإسلام متفتّحة جوهريا على الغيرية، فهي في تعبيري «تفاعل غيري». بذلك كان الإسلام دين أهل الكتاب الأكثر مسكونية، فيه امتداد لروح القدس يسوع؛ وهو ما يؤكّده التصوّف، القراءة الأصحّ لهذ الدين.
هكذا إذن نجد العديد من الأخطاء في مقولات النخب المنبهرة بالأنوار الغربية وهي بصدد الانطفاء لطغيان المادّة على القيم الروحانيّة. ولعل ما ينساه الحداثيون أنّ الرأسمالية ما فرضت نفسها في الغرب إلا بعد التحالف مع الأكثر تزّمتا في المسيحية، البروتستانتية؛ وقد ييّنت بصفة باهرة أعمال ماكس فيبر ما أخذه رأس المال من الروح البروتستانتية، وهي التي لا زالنا نعاين صحّتها. وقد رأينا بتونس والمغرب، وغيرها من بلاد الشرق، كيف يستعمل الغرب نفس الاستراتيجية مع الإسلام المتزمّت في خدمة مصالحه ومقاصده. هذا ينقص من قيمة مقولة الحداثيين في الدفاع عن الحريات في عيون عامّة الناس ولا يخدم إلا مصالح المتزمّتين أعداء هذه الحريات. هكذا إذن، في أفضل الحالات، يكدّ الحداثيون اللائكيّون ويتعبون لمصلحة الغير، أي الإمبرياليين الجدد وحلفائهم الحقيقيين، المتزمّتين المسلمين. وإنها لقاصمة الظهر أن لا ينتبهوا لذلك، إذ هم الضحيّة المثلى لهذا الائتلاف المتوحّش الرأسمالإسلامي والذي تقمّصته تونس منذ سنة 2011 على أفضل هيئة.
لئن تقادمت في علوم الاجتماع الحالية وتهافتت نظرية الفرد التي لا يزال يأخذ بها حداثيونا المناهضون للدين، فالأمر نفسه بالنسبة لتحليلهم بخصوص الظاهرة القانونية إذ يدّعون وجود اختلاف بين التعبير بالفرنسية والعربية لكلمة«القانون» لانتقاد الدين الإسلامي وثقافته، حيث يعني في رأيهم «الحق». وليس من الضروري هنا التذكير بما في اللغة العربية من دقائق ولطائف ومن كلمات أضداد، أي كلّ الآليات البلغية التي تسمح باتساع مهول فيها لفهم المعاني والألفاظ، ومنها كلمة «القانون» الذي يعني أساسا، من بين ما يعني: أصل الحقّ والمطابقة رالموافقة. ولكن لنبيّن أن حداثييّنا يقولون أن «الحقيقة» في العربية تقوم بديلا عن الحقّ؛ ولأنّها تعني التعالي، فهي تتجاوز العبد وحقوقه لإخضاعه لواجباته نحو خالقه. وبما أنّا بيّنا أعلاه خطأ هذا الفهم للتعالي ووضّحنا معناه الأصح، فلنضف أن تعبير التعالي بالفرنسية يعني بلاتينية القرون الوسطى «مايتجاوز الطبيعة»، ومن البديهي أن الحقوق الفردية تتجاوز طبيعة الفرد الذي يأتي للعالم بلا أي شيء، فيحصل على حقوقه في عائلته وفي مجتمعه. ونحن ندّعم هذا التفسير بالمعنى الصحيح لكلمة «القانون» أو «الحق» في الغة الغرب نفسه. فهو مشتقّ من اللاتينية البدائية المتأخّرة بمعنى «مجموع القواعد الشرعية». فلنتسائل عما تكون، يا تري، الغاية من جماع هذه القواعد الشرعية، سوى العدل؟ ولنواصل السؤال عن ماهية العدل، أليس هو الحقيقة حسب الاشتقاق اللاتيني نفسه لهذه الكلمة؟
في نهاية الأمر، وبصفته وحي منزل، لا علاقة للإسلام مع الاستنتاجات الخاطئة لحداثيّينا حتّى وإن كانت، في البداية، نتيجة مجهود للتأويل البشري يجدّد العهد مع الاجتهاد في الإسلام. فلئن جاز لهم القيام به وحقّ لهم الدعوة إلى إعمال الفكر في الدين، فهم لم يصيبوا في اجتهادهم كما فعلوا. ذلك لأنهم لا يأتون بحل للمعضلة، بل بكتفون برجع الصدى لتحاليل المستشرقين المتهافتة، أي أنها جزء من المعضلة، لا تساعد البتّة على تجاوزها. وهذه مصيبة المسلمين اليوم الذين يداومون الاعتماد على فقه تجاوزته الأحداث بمجرد الخطأ في اعتباره من الوحي بينما ليس هو إلا اجتهاد بشر باد مثلما بادوا. إن كلام الله وحده هو الذي يدوم ويبقى تأويله وفهمه موكولا للعباد حسب مقاصده؛ وفي هذا أزليته. ومقاصد الشريعة تسمح بكل الحقوق وكامل الحريات، بما في ذلك ما وصل إليه الغرب وأمكنه الحصول عليه في مسيرته نحو الديمقراطية. ولنذكر في ذلك مثلا، وهو أن الغرب لطالما عاقب التعرّي والجنس، خاصة المثلي منه، قبل أن يصدّر لأرض الإسلام مثل هذه الجنايات، إذ لم تكن تعاقب فيها، ثم ستفرض نفسها مع الاحتلال فتدوم بها كتراث امبريالي متسربلة كذبا بلباس إسلام التزمّت، أفضل الحليف للغرب بالأمس واليوم.
الإسلام في حاضر الزمن بحتاج لمن يثوّر مجددا وبذكاء معانيه، وهو دور نخبه العضوية لإصلاح ما فسد من فهم له عوض اجترار مقولات منتصرة لغرب هوى وثبت تهافتها، ما يمنع أن تتغيّر الأمور بسرعة في تونس مثلا حيث الظروف جدّ مواتية لذلك. فمناضلونا الحداثيون لا يكفّون عن تلك الطروحات التي لا تمت بصلة مع الواقع المعيش، بما فيه الشرعي، يشجّعهم في ذلك الغرب الذي لا يشعرون بأنه يتلاعب بهم لأجل مصالحه، بما أنّه أفضل مناصر لأهل الدين المتزّمت، وقد أتى به إلى الحكم، ليسعى جاهدا وبكل الوسائل في ركابه؛ فهو كذلك، يستعمل لهذا سلاحا فتّاكا، هو خدمة رأس المال المتوحّش حتّى لا يتغيّر أي شيء بالبلاد، خاصة قوانينه المخزية. رغم ذلك، ليس من المستحيل بتاتا تغيير الأمور الحالية وبسرعة؛ على أنّ هذا يقتضي أن يتمّ باسم الإسلام، على الأقل لأن الدستور يحيل إليه؛ فهذه هي الشرعويّة! وهذه مصيبة البلاد التونسية؛ إلا أنها ليست ضرورة مأساة، لأن المآسي جزء من الحياة، وهي التي تحفّز على تغيير الأمور فالتطوّر؛ ذلك أن أيّ عالم جديد نشأ بداية من الفوضى، فلنتذكّره! وليكن أيضا في البال أنّه من الواجب الاستعداد للتغيير بالسلاح الفعّال لا بما فسد منها ومن المفاهيم القديمة. هذا يبدأ على مستوى الفكر والعقلية بأن نحرص على أن يكونا من الإيجابية بمكان، في تحرّر تام من كل توضيب أيديولوجي، ليس فقط من طرف من يتمسّك بالماضي من أهل الدين أو الدنيا، بل وأيضا وخاصة من المحيط الغربي للبلاد الذي يجد بها وهي على حالها اليوم مصلحته الآنية.
ولنختم بالتأكيد على أن الفكر هو الذي يرفع الإنسان، وله في الإسلام قدر مكّن من ثقافة عالية الكعب وحضارة كونية في زمن كان الغرب فيه، هذا الذي يستلهمه اليوم حداثيونا، في ظلمة مدقعة مثل التي عليها جهّال الإسلام من أهل التزمّت. بل إن الذات العربية المسلمة التي يحقّرها هؤلاء أتت بروحانية من أعلى طراز، الصوفية الإناسية الكونية فأعادت للإيمان نبله، رافعة إياه إلى درجة كادت أن تكون علمية، هذا العلم المبني على عقل حسّي، لا علموي ولا عقلانوي. ولنبيّن أيضا أن التراث الإغريقي تمّت إعادته إلى الغرب كاملا مع إثرائه من طرف فلاسفة مسلمون أو من ثقافة إسلامية ومن كل حدب وصوب مساهمين بذلك في النهضة الغربية التنويرية.
كيف لا نتذكّر هذا الماضي، ولو أنه يقتضي ألاّ نتوقّف عنده، لانتقاد حال ورثته للسبب الوحيد أنهم مرضى إلى اليوم؟ إن المريض يُداوى ولا فائدة لأن ننجى باللوم عليه كما يفعل محتقرو الدين ومزدروه! إنّهم يقومون بذلك بسبب ما تأتيه في هذا الدين أقليّة دغمائية تغالط الأغلبية بفضل الشراكة الموضوعية مع من يحقّرها ويزدريها، أو يموّه بذلك، النخب الحداثيّة المتعلّقة بالنموذج الغربي. هم يقولون بانحطاط يعتبرونه نهائيا للإسلام؛ وهو لئن كان محتوما لحضارته لأجل صروف التاريخ البشري، فليس بالنهائي ولا ممّا يستحقّه نظرا لما له من مذخور طاقي صحّي يكفي الاغتراف منه لاستعادة ما كان له في الماضي من إشراق وسناء.
                                 
اليوم 14
الخميس 7 ماي 2020

سبق أن بينّا أن العلمانية أو اللائكية أصبحت عمليّة معادية للإسلام لأطراف مغالية في التمسّك بحرفها محرّفا إذ هي تدّعي بذلك النضال لأجل الحقوق والحريات بينما لا تخدم في نهاية الأمر إلا أوساط غربية تسعى لإدامة مرض الإسلام. بذلك ليس همّها الحقيقي قضية الحقوق والحريات بما أن نجاحها لا يتوقّف على فرض المفهوم الغربي للعلمانية إذ لها ما يعادلها في دين الفرقان، لائكية إسلاميّة هي حقاّ وحقيقة التفريق بين المجالين الخاص والعام. لهذا، نفرد للموضوع هذه اليومية للتدليل أنه يكفي الأخذ بهذا المفهوم الإسلامي للعلمانية للنجاح في خدمة صائبة لقضية الحقوق والحريات الفردية في بلاد الإسلام حيث تقتضي الشرعية الدستورية نفسها احترام المبادىء الإسلامية. ففي الحقيقة، نحن حيال مسمار جحا الشهير تستخدمه الأوساط العاملة على دوام حالة المرض في دين الإسلام، ولعلنا نعرض لهذا المسمار في يومية أخرى.
لم يعد يخفى على أحد أنّ بقاء الإسلام على حالته المرضية الحالية في صالح من يدّعي وجود تضاد نهائي بتونس وغيرها من البلاد العربية الإسلامية بين الروح العلمانية والروح الدينية؛ وهي، عند البعض، تستقي حدّتها من التعلّق بالإسلام، وعند البعض الآخر، من النبذ التام للدين، أو لنقل بصفة أقل إطلاقا من رسوخ القيم الإسلامية من ناحية والتعلّق بالنزعة التحرّرية للديمقراطية من ناحية أخرى. أيّا كان الشأن تجاه هذه المواقف المتناقضة، فالنزاهة تفرض تخطئة الجميع، على الأقل بالنسبة للمسألة الأهمّ التي تفرّق بينهم إلى حد التناحر أو الشراكة الموضوعية، أي المعنى الحقيقي لهذه اللائكية المحتفى بها والمشنّع عليها في الآن نفسه.
بادىء ذي بدئ، خلافا للمتعارف عليه، ليست العلمانية تجريد الدولة من عاداتها الدينية، على الأقل في تجلّياتها المحسوسة والثابتة إلى اليوم بفرنسا مثلا التي تبقى مرجعا عاما في الغرض. فعلا، كما بيّنته العديد من الدراسات العلمية، ليست اللائكية بها في واقع الأمر إلا هذا الانحراف لتغليب هيمنة بعض المعتقدات على غيرها، التقاليد المسيحية هنا بالأخص. إضافة لهذا، وبالعودة للمعنى الاشتقاقي للكلمة، فللائكية مفهوما مخالفا تماما لما اعتدناه من القول، إذ هي الشائع والموروث الأصلي، والأغلب من المظاهر الشعبية. هذا، ولا شك أن الشائع الشعبي بتونس وغيرها من الأرضين العربية الإسلامية، أي ما يميّز الشعب في غالبيّته الساحقة هي القيم الإسلامية. لذا، فاللائكي في معنى الكلمة الأصح الاشتقاقي لهو الذي يأخذ بعين الاعتبار هذه القيم.
على أنّه لا يجب أن ننسى أن التعلّق الشعبي في اتّساعه العريض، بصفة واعية أم لا، بما هو بمثابة الهوية الإسلامة - خاصة بصفتها الدالة على مصداقية وأصالة هذه الهوية - لا يعنى الانضمام لصفوف من له نظرة للإسلام فيها غلوّ وبالتالي مشوّهة له. والدليل على ذلك أنه حتّى في أوج ساعات الإسلام الحالكة التي عقبت أفضل فتراته في عظمة حضارته التنويرية، توفّر البقاء لثقافة هذا الدين، خاصة في جانبه المغربي وبالأندلس، متسامحة ومحترمة عموما، خلافا للروح الغالبة في ذلك الزمن، ما ظهر فيها من هرطقات عند أهل الدين أو بخصوصه؛ وليس ذلك بالضرورة لأنّها حافظت على نوع من التحفّظ أو الكتمان، بل لابتعادها خاصة عن الإثارة. ذلك أنه من بين السنّة الصحيحة المذكورة في أصح الصحاح يأخذ المسلمون بالحديث القائل بتسامح جوهوي يكتفي النبي فيه بشهادة الإيمان بالتوحيد دون الاعتبار بتصرّف العبد، حتّى وإن خالف الثابت من التقوى، فذلك موكول إلى حكم الله وحده. هذا، وقد يبق أن تكلّمنا عن تيّار المرجئة الذي تقمّص في فترة عزّ حضارة الإسلام أفضل تجلّياتها. أمّا اليوم، فالإسلام مريض والبلاد التي تؤمن به متخلّفة اقتصايا (وحتى إن كانت غتية فهي في تبعية لأسيادها) ، وليس ذلك بسبب هذا الدين إنما هو نتيجة منظومة تفقير عامّة وعالمية تتجاوز مجرّد العقل الديني. وهذا الأخير بنفسه ضحية الفقر المدقع الذي عليه البلاد الآخذ شعبها بتعاليمه والتي ترزح تحت نير إمبريالية قلة من أغنياء العالم وأتباعهم ممن يتاجر بالدين كأفيون الشعب للحفاظ على امتيزاتهم؛ لذلك يسعون لدوام ما فيه ثراؤهم: التخلّف وما يتبعه من مرض الدين.
بعد التصحيح الذي بيّنا للمفهوم الأصلي لللائكية، فإنه بالإمكان في بلاد الإسلام القول بالعلمانية على حد السواء للداعين إليها وللمناهضين لها، فليس ذلك، لا محالة، إلا الاعتبار بما يميّز الغالبية في البلاد من هذا الشعور الدنيوي الرحاني. وهذا يفرض نفسه بالأخص بتونس إذ دستورها يكرّس مبدأ الدولة المدنيّة، هذه الورقة الرابحة التي لا نستفيد منها لعدم استعمالها كما يجب لانتهاج مسلك العداء للإسلام في هذه القضية عوض صرف مبادئه في خدمتها وكما نذكّر بها. ولنا عودة لمفهوم الدولة المدنية هذه والصفة الفضلى لإقراره في خضم رجعة للإسلام الأول بتونس تنقذه من مرضه.
في النهاية، الجدل القائم حاليا بتونس والعالم العربي الإسلامي حول اللائكية لهو مثال الجدل البيزنطي، فهو تقليد أعمى لعقلية نشأت في ظروف خاصة بواقع أجنبي لا يخص إلا الغرب، والبلاد الفرنسية بالأخص، أي المحتل السابق لتونس. وحتى نخلّصه مما شابه من مغالطات، لا بد لنا في البداية من التسليم بأن اللائكية هي ظاهرة اجتماعية لا محيد عنها اليوم بتونس؛ وهذا يعنى أيضا هؤلاء المتديّنين الساعين لجعل الإسلام أكثر حضورا في المجتمع التونسي. علينا أيضا الكفّ عن محاولة الانحراف عن الأخذ بالواقع وحقائقه، إذ من الغلط المطالبة بحصر الإسلام في زاوية الدين كما يقول به الآخذون بالطرح اللائكي التقليدي. فخاصية الدين الإسلامي في ثنائيته كإيمان ديني وكسب سياسي بمعنى سياسة تنظيم للحياة في المجتمع وفلسفتها التطبيقية. كما أنه من الخطأ رفض اللائكية، كما هي الحال مع المتديّنين، اكتفاء بما يأخذونه من فهم غير صحيح لها عند من يخالفونه الرأي، أي التفريق بين الكنيسة أو الدين والدولة أي السياسة؛ فهو المفهوم الذي فرضه الغرب رغم مخالفته للمعنى الصحيح للكلمة. ولا جدوى في إفراغ الدين الإسلامي ممّا فيه من شحنة سياسية هي زبدته، بل خلاصة جوهره.
عوض التجادل حول القضية التي لا صحة لها في التفريق بين الديني والسياسي، من الأحكم العمل على تطوير فهمنا لها يكون أريبا ومتّزتا لموافقته للحقيقة ولمعقولية العلاقة بين طرفي القضية. فبما أن الإسلام دين ودنيا أو سياسية، يتحتّم مقاربة هذا الدين كثقافة لا فقط مجرد شعائر، والنظر إلى السياسة لا فقط كصراع لأجل الحكم، بل كسياسة حكيمة للمدينة بمعنى التصريف الذكي لشؤونها. بهذا يمكن للمسجد، الذي أصبح مجرّد مكان للشعيرة، أن يسترجع مكانته كمركز علمي، لا فقط العلم الديني، بل كل ما يخص الحياة الاجتماعية. ففيها كانت تناقش كل أمور المجتمع؛ عند حدوث أمر هام، يقع الآذان للصلاة التي لم تكن ما صارت إليه، أي شعيرة حركات آلية أو تكاد، إنما هي أساسا المجهود الكبير والجدّي في التركيز الذهني حول مشاغل الحياة اليومية، يحاول المؤمن تدبيرها وسياستها بالتماس العون من ربّه. كذلك كان المسجد، الجامع خصوصا، ساحة ثقافية بامتياز، فيه ملتقى الشعراء والخطباء والعلماء، كل يلهج بعلمه، ولا يتردد أحيانا حتى في القصف والعربدة. وللتعرّف على هذه الظاهرة، يكفي العودة لتلك المصنّفات التي أثرت الثقافة العربية الإسلامية في كل ميادين المعرفة، لنتبيّن مدى ما وصله الإبداع من حرية لا حدّ لها في زمن كان أقل تفتّحا بكثير من الزمن الحاضر في حرّية التعبير. فقد كانت للأدباء والمفكّرين طلاقة لسان عجيبة مع جرأة لا شك فيها في شؤون الدين، بل وسلاطة لسان أحيانا؛ وهذا ليس غريبا فقط اليوم، بل من المستحيل بما أن مقولات ذلك الزمان تذهب أبعد مما يقع التنديد به في أيامنا باسم انتهاك المقدّس ودعوى السباب والتجذيف يعاقب عليهما بالسجن، إن لم يقع إهدار الدم لأجلهما.
وعندما هجرت تلك الجحافل المستنيرة ساحات وقاعات المساجد، حل محل الفكر الدنيوي المتحرر فكر ديني متزمّت فرض نفسه فيها ومفهومه التمامي للإيمان المخالف لنص وروح إسلام الدين والدنيا، دين المجال الخصوصي ودنيا السياسة المعقلنة للحياة المجتمعية. الحاصل أن هذا التراكب في الإسلام والتداخل بين الخاص والعام من الحياة اليومية سمح بتلك الحرية في الكلام والفعل التي ضاعت بمعناها التحرّري الثائر على القيود لتصبح اليوم مسخا للحرية في اتجاه معاكس، كهذا التصرّف عند بعض المتديّنين الذين يتحرّرون من كل قيود اللياقة والأدب بأن يقيموا مثلا الصلاة بالشوارع بين الأوساخ، كأن لا هيبة البتّة ومظهر ارتسامي للقاء المصلّي بربّه. لكن عوض انتقاد مثل هذا التصرّف على أنه مخالف للأدب وأصول الوطنية، إذ عندها لا أحد يسمعه، من الأفضل التذكير بأصول الصلاة وقواعدها في الإسلام، بمعنى أنّها لا تتوقّف عند حدود الشعيرة، بل هي في احترام جميع قواعد العيش المشترك، خاصة احترم الغير والحرص على آداب الطريق مثلا. بهذا نكون أكثر تلاءما مع مقتضيات الدين مع حظوظ أكبر لإسماع صوتنا بهذا الكلام المختلف عن الدين؛ فهو لا ينتقد بل ينقد بالعودة إلى أصوله، دون التوقّف عمّا شذّ فيه من حماقات رغم شيوعها عند هذه الأقليات من أتباعه أو ممّن يعاديه. ولعل الحجة الفضلى عند الأقوى دينا أو الأحسن نيّة ممن أخطأ فهم دينه في التأكيد أنّ الأتقى في الإسلام ليس من يؤدى شعائره بحذافيرها، بل هو الذي يحرص على مكارم الأخلاق في معاملاته مع الغير، الآخر الذي تتجلى فيه حقيقة تقوى مثيله. وهكذا يبقى الأمل في تطوير وضعية المواطنة في بلداننا حيث لا زال منطق القوّة يطغى على منطق الحق، خاصة وأن القانون، عادة فيها، لا عدل فيه.