في هذا النشاز الذي نعيشه
أو
ما بين التصرف والتصوف من وطيد الاتصال
عند كتابتي للصديق العزيز الذي تساءل كيف يبقى مسلما،* عاودني التفكير في ما لم يفتأ يهاجسني من أمر هذا النشاز الذي نعيشه بين فكرنا وتصرفنا، بين رؤيانا للحياة وهي تمضي وحياتنا على وقعها اليومي، بل اللحظاتي. فهناك أكثر من نشاز؛ هناك انفصام لا نعير له الأهمية التي تستحقها؛ وذلك بيت القصيد ومربط الخيل.
لقد سبق أن عبرت في كتابات لي عن اعتقادي الجازم بأن أغلبنا ممن يمتهن السياسة - وهي اليوم أكثر من أي وقت مضى مجرد الحياة بالمدينة -، لا في بلادنا العربية فقط بل في العالم أجمع، له أعراض الألزهايمر السياسي.
الفرق الفارق الوحيد هو في كيفية التعامل مع هذا المرض أو شبه المرض هذا، ودرجة حدته التي هي عندنا في بلادنا العربية من تلك المستعصية عند تطور المرض، إلا أنها أيضا مما يسهل علاجه إذا عرفنا كيف نحافظ على عاداتنا في عدم اعتبار مرض ما ليس هو إذ الخرف من الخرف أي الهرم العادي للمخ رغم أن تجليه غير عادي.
فالألزهايم، وقد دللت على ذلك بكتاب بالفرنسية** وآخر بالعربية في الطريق، ليس إلا شبه مرض وما صيره هذا المرض الذي نعرفه إلا الجشع المادي للصناعة الصيدلية. وهو كذلك في صبغته السياسية. وللنمطين دواء واحد وحيد اليوم لا غير، وهو ما أسميه بالمعالجة بالقبل Bécothérapie التي هي في االسياسة نظام المحبة Ordo amoris.
ولكن كيف نحب غيرنا ونحن غير قادين على محبة أنفسنا المحبة الحقيقة، تلك التي تقبل بذاتنا كما هي، بحسناتها وبسيئاتها، بشرورها وذنوبها إضافة إلى خيرها وبرها؟
نعم، إن العديد منا لا يحب غيره فلا يعرف إلا نفسه، إلا أنه في ذلك لا يحب نفسه في الواقع رغم كرهه لغيره، بل هو يكره حقيقة ذاته بما أنه يكره غيره، لأن كره الآخر هو الكره الثابت لذاتنا ما دمنا لا شيء بغير هذا الأخر، فهو حقا وحقيقة المرآة لنا، بل هو أيضا تلك المرآة بلا قصدير، نتمرى فيها ولا ندري أننا في نفس الوقت نظهر على حقيقتنا للغير، تلك الحيقة التي لا نراها كما لا نرى عيوبنا، بل ذاتنا كلها، فهي إن تبدو دوما في صورة مغايرة لما نعرفه، ليست خيالية، بما أننا نحن نتاج الآخر كما تصرف الآخر نتاج تصرفنا.
كم من مرة سمعت نقد زيد لمجتمعه وكأنه ليس منه، وكم من مرة تذمر عمرو من مساويء الناس وهو لا يرى مساوءه التي تغذيها لا محالة، لأننا كقطرة الماء الذي يملا الكأس، لا تفيد وحدها، ولكنها تفيضة أو تساعد على ملئه.
أقول هذا لأنه لا مناص من عودتنا إلى أنفسنا قبل الحكم على غيرنا أيا كان وإعطاء المثل قبل المطالبة به عند الغير؛ وما من شك أن في ذلك الصعوبة القصوى لأن إعطاء المثل من شأنه أن يجعلنا من العلو بمكان، في مكانة الأنبياء والأولياء. ولا غرو أن مكانة الأنبياء والأولياء ليست دوما بالمستحبة إذا حكمنا عليها حسب معاييرنا الدنيوية؛ فكم من نبي وولي لم يلق إلا القتل والتنكيل من أهله!
إلا أن هذا مما لا مناص منه إذا أردنا التصدي إلى الاصلاح وطلب الأمثل؛ ذلك أن الطالب الحق للأفضل عليه دوما أن ينظر إلى الشمعة وهي تحترق ذائبة ولكنها منيرة في نفس الآن.
فهل نريد إصلاح العطب بالإضاءة على الأقل فالتنبيه عليه ونقبل بالاحتراق والذوبان أم نخير الظلمات ومطباتها ولا نحترق؟ عندها لا بد من البداية بقبول ظلمة أنفسنا والتعامل معها على حقيقتها، لا نغطيها إلا في أفضل الحالات بما لا يعدو أن يكون من الأنوار الاصطناعية، هذا الزخرف الكاذب الذي لا فائدة منه تحت ضياء الشمس الساطعة.
إن تصرفاتنا تعكس على حقيقتنا ذاتيتنا، لذا علينا أن نعتبر بها ولا نحكم على الآخر إلا بعد الحكم على تصرفنا أو له؛ فالتصرف هو مفتاح الحكم السديد على الغير أو له.
ونحن إن انتبهنا لأدركنا هذا الاتصال الوطيد الذي يخفى من شدة بيانه بين التصرف المعتاد والحكمة السنية في التصرف التي هي هذا التصوف الذي عرفناه عند أقطاب الصوفية؛ فلا يميز بينهما إلا حرف وحيد.
فإذا عرفنا ذلك وتمعنا فيه، هان الأمر علينا لتحسين تصرفنا حتى نسهر على جعله من التصوف وهو من أفضل التصرف الذي أثمرته ثقافتنا في علميتها المستهجنة اليوم وعالميتها الثابتة رغم جحود زمن أسود غربيب.
* راجع :