Mon manifeste d'amour au peuple 2/3
 




Mon manifeste d'amour au peuple 3/3


I-SLAM : ISLAM POSTMODERNE








Accès direct à l'ensemble des articles منفذ مباشر إلى مجموع المقالات
(Voir ci-bas انظر بالأسفل)
Site optimisé pour Chrome

dimanche 7 septembre 2014

I-slam, le génie de la foi 3

سأل صديقي : كيف أبقى مسلما ؟



سأل صديق لي عزيز عليّ وقد أخذ به كل مأخذ ما يفعل الغوغاء باسم الإسلام : «كيف أبقى مسلما بعد هذا الذي نرى؟» 
وقال مستدلا بكلام فنان مثله مرهف الإحساس مثله: « للأسف، المسلمون لا يفكرون إلا بالسلطة والمال؛ والله ، في عُرفهم، ليس إلا ذريعة لتبرير مصالحهم الشخصية... فما يحدث في العراق أو باكستان هو تكرار حرفي لِما حدث في جزيرة العرب في زمن محمد بن عبدالله ، نبي المسلمين... الإسلام بقي جامدا في تلك النقطة ولم يتطور قيد أنملة منذ انطلاقته الأولى، أي منذ حوالي 1435 عاما، ولن يتطور أبدا كما تطورت المسيحية التي استطاعت أن تتكيف مع تحولات العصر...»
ثم أضاف، مؤكدا ما لا يقبل النقاش : «إن العطب الكبير هو إسلام الشريعة... جُبن الكثيرين ومجاملاتهم وخوفهم يمنعهم من قول ذلك... وسأقولها و أكررها... الإسلام كابوس تاريخي على العقلاء والاحرارا من مسلمي "الوراثة" أن يضعوه وراء ظهورهم ، وعلى الحقوقيين أن يفتحوا عريضة عالمية تندد بفظاعات هذا الدين وخطره على الناشئة ومستقبل العقول الحرة والنفوس الأبية بل والحضارة الإنسانية برمتها...».
هذا ما يقوله صديقي وأنا لا أقبل قيله ذاك رغم معزته الكبري عندي، بل لأجلها، إذ أعلم تمام العلم ما للقنوط من مأخذ على النفوس الأبية.  
إجابتي المبدئية :
قلت لصديقي العزيز والحسرة تملأ فؤادى مع معرفتي أن ليس فيها فائدة : « إن ما يتراءى لنا اليوم من الفهم المشوش لما يمكن له الإنقاذ من الهوة السحيقة التي نحن بها هو الفهم غير المعتاد لأسباب هذه الهوة، فهكذا يُنعت كل جديد حادث لم تعتده الأدمغة إذا تشبت بالمعروف المعهود؛ وهذا وإن كان مما لا أستغربه من العامة، فأنا بكل صراحة أستغربه من أستاذي. فهو أدرى وأعلم من أي أحد أن الفكر المركب ليس الفكر المتهافت ولا المتنافض بما أنه لا تناقض في فكر ما بعد الحداثة. 
لا فائدة للعودة هنا لمسألة الشريعة التي جعلت منها قبة وهي  مجرد حبة في فكرنا الأضدايدي (هكذا أترجم  .Pensée contradictorielle 
نعم، لا أشد خطرا على الناشة مما يُسمون أدمغتهم به من أحكام انتهت صلوحيتها كما نقول للدواء، فهي مما صلح وعافى طويلا إلا أنها اليوم أصبحت السم الزعاف، لهذا أعود للتأكيد على دور المثقف، وأنت سيدهم، للتصدي لهذا الزحف المغولي الإسلاموي عوض البكاء على أطلال ليست هي إلا أطلال عروش كانت مشيدة ويمكنها من جديد الارتفاع شامخة مهيبة. 
لقد حان الوقت لرفع كل ما تحنط من الفكر الإسلامي النير حتى نعيد له رونقه. فدعك من إسلام الشريعة المحنطة لأن الشريعة الحقة هي ما شُرع لهذا العصر حسب مقاصد الشريعة وروحها؛ أما ما كان صالحا لعهد مضى، فهو لم يعد من الإسلام الأزلي التعاليم العلميها العالميها. 
إن كلامك يا أستاذي العزيز يبين شدة تأثرك بما يحدث وهذا مما أفهمه، إلا أنك تحمل من الأنوار في نظري ما يحتم عليك تجاوز مثل هذا الألم الحاد الذي يمنعك من إفادة الناس بعلمك النير واستعماله كمنقذ من الظلال لهم وكمنقذ من التحسر لك. 
فليس أشد من الألم والحسرة منعا للعالم أن يفيد الناس بوافر معرفته، فهذا واجب النخبة الحقيقية.
كان الله في عونك للعمل على إنارة الناس ورفع الغشاوة على أعينهم ! فإن لم تفعل أنت هذا، فمن يفعله، يا أستاذي الكريم؟
كن بورميثيوس، ولا تستسلم لليأس، فذلك من نوع الحرام السلفي الذي لا تعترف به الأذهان الحرة المتحررة، وإنت لها القدوة !»
إجابتي المستفيضة : 
وها أنا أعود حتى أُبدل مكان الحسرة ما من شأنه رفع حيرة الصديق العزيز، لأن مثل هذه المهارات والأنوار التي يزخر بها ذهنه المتفق لا ينبغي أن تُهدر في التشنيع بلا فائدة على ما ليس من شأنه لا الإفادة ولا الضرر إلا بفهمنا له؛ ولا فهم بغير المجاهدة، مجاهدة النفس ثم مجاهدة الغير، للوصول إلى المعرفة الصحيحة التي هي دوما أعلى من العلم المجرد ولو كان علميا، فالعالم هو الجاهل طالب العلم أبدا، لا من ظن أنه علم، إذ عندها يبدأ جهله فلا قاع له.    
أبدأ بالإتيان بالبعض مما ذكره صديقي من سيء الحسن، لأن السوء والحسن مقترنان في الذات البشرية، فلا حُسن وحسنى بدون سيء وأسوأ؛ هذا قدر الإنسان الذي يعرفه خير المعرفة أستاذي الكريم.
يقول صديقي في غيض من فيض ما اختنقت به نفسه، مستشهدا بنماذج من القرآن وقد وضع بين معقوفين صفتنا له بأنه  كتاب الرحمة المهداة، يقول ذاكرا ومستشهدا بتعليقات لما به من وجوب قطع الرؤوس وإطارتها : 
«{فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق}  [سورة محمد:4]. قال القرطبي رحمه آلله: (لم يقل فاقتلوهم لأن في العبارة بضرب الرقاب من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل، لما فيه من تصوير القتل بأبشع صوره، وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه). وقال ابن كثير رحمه آلله: ({فضرب الرقاب}  أي إذا واجتموهم فأحصدوهم حصدا بالسيوف). وقال أبو بكر الجزائري: (أي فاضربوا رقام ضربا شديدا تفصلون فيه الرقاب عن الأبدان). قال الكاساني رحمه آلله: ({فأضربوا فوق الأعناق}  وهذا بعد الأخذ والأسر لأن الضرب فوق الأعناق هو الإبانة من الفصل ولا يقدر على ذلك حال القتال ويقدر عليه بعد الأخذ والأسر)».
هذا ما يقوله الأستاذ صديقي العزيز وهو من صفوة الصفوة المثقفة ببلد من بلاد المغرب المستنير بغزارة ما فيه من أهل التصوف وقد جعلوا من أرضه هذا التيرب الخصب لنماء إسلام جديد متجدد. 
إنه ما من شك أن ما يدل على ما في هذه الاستشهادات من نشاز مع فكر أستاذي العزيز هو ما يُترجمه ويبرع فيه لعالم الاجتماع الفهيم أستاذنا ميشال مافيزولي، وهو من أبرع المنظرين للنظرة الأنسية الجديدة للأمور والمقنن لفترة ما بعد الحداثة. والكل يعلم أني، تماما كصديقي، من تلامذة مافيزولي، وأنا أعمل على التنظير لإسلام ما بعد الحداثة ببلاد المغرب وسائر أرض الإسلام على هدي فكره السني الذي يعربه الأستاذ صديقي في أبهج الحلل وأرقاها.
فلنقرأ لصديقي الحزين ما يلي من ترجماته وسأرويها تباعا لترك المجال للتمتع ببراعة الترجمة وعظمة الفكر المافيزولي وقد فتح له صديقي الباب على مصراعيه بمغربنا الزاخز بالمتناقضات، الباحث عن ذاته.    
في مقولة تبين عظمة الجزئي بين الفن الكلاسيكي و الباروكي، يبين الأستاذ ميشال مافيزولي بتعبير صديقي الأنيق الرائق: «كيف أن الحكمة الشعبية ذات جذور أنثربولوجية لا يرقى إليها شك. ومن خصائصها المائزة أنها تشيح بوجهها عن المستقبل ، مقابل انهماكها في الحاضر وتجذُّرها في تربة المعيش، وتستنكف أيضا عن إهدار طاقتها في تنكّب الآتي و ترقب مجيئه.» ويضيف صديقي دون التفطن لمدى تناقضه في مقولاته في الإسلام وما يترجمه : «إن الإهتمام الشديد بالصغير والمتناهي بالصّغر ليس له أبدا أنْ يُضيِّق دائرة الحياة أو يجعلها تتحجر و تتكلّس. ليس له ذلك طالما هو طريقة، من جملة طرائق، في تدبير النمو الاشتدادي السائر باتجاه العمق ، عكس النمو الامتدادي المهووس بالتوسع ولا شيء غيره.»
الرد على حجة إسلام الشريعة :
فما يستشهد به صديقي مما يسميه إسلام الشريعة ليس من الشريعة إلا للآخذ بها، بينما الإسلام لكل الناس، والذي يميز هذا الدين عن سائر الأديان هو إبطاله لكل الأصنام بما فيها المعنوية، وجعله للعلاقة بين الله وعبده مباشرة لا واسطة بينهما. فكل من انتصب قائما بين الله والمؤمن المسلم للكلام عن الدين، زاعما تبيان أحكامه، ليس إلا من الأحبار والكهنة وقساوسة كنيسة ليس لها أي مكان في إسلامنا إذا أخذنا به الأخذ الصحيح. لذا، فكل من يتكلم عن الإسلام دون العودة إلي مقاصده يحنط تعاليمه بأن يمحي منها كل حرية في التأويل، جاعلا القداسة لا للدين وإنما للحرف، نازعا عنه روحه، وبذلك فهو يعبد صنما أقامه بنفسه لا هذا الدين العلمي العالمي الذي يبقى أزليا في تعاليمه لأنها تتأقلم مع كل زمان ومكان نتيجة العودة إلى مقاصدها التي هي الوحيدة التي لا تتغير فلا تتسنه.  
لنقرأ  ما يقول أستاذي بنفسه في معرض حديثه عن الجزئيات التي هي بوصلة المجتمعات و محرارها : « هذا ما يُفسّر أن الاقتدار الاجتماعي، وهو تعبير آخر عن الأُنسيّة، يستمد قوته وعنفوانه من تفاعله الموصول بين العياني والحسي من جهة، والتجليات المعتادة جدا في ثنايا الحياة اليومية من جهة ثانية. والحال أنه من تفاعله الخلاق هذا يستلهم قدرته على مقاومة إملاءات السلط بكل أنواعها. السلط أو أنظمة الحكم والتحكّم التي يواجهها و يُوازنها باقتداره. فالطريف والخالي من الدلالة، أو ما أراده العقل الإنتاجي الربحي كذلك، ينتصبان، في كل الأحوال، كدرع واقٍ ورادع للصخب المزعج المنبعث من المؤسسات المتعالية، وهو ما يُحوِّل ذلك الخالي ظاهريا من دلالة إلى مُترعٍ بدلالته  الخاصة.»
فهذا مما ينطبق تماما على الإسلام وحاله اليوم، إذ لنا الإسلام الرسمي الذي تفرضه السلط السياسية حسب مصالحها، ولنا الإسلام الشعبي الذي هو أقرب للإسلام الصحيح، إلا أن سلطته تبقى رهينة الاعترف بها، ومن له العمل على ذلك غير أهل الفكر وصديقي منهم؟
يضيف هذا الصديق العزيز في ترجمته: «لاحظ غويو، وهو بالمناسبة أول عالم اجتماع تطرق للأنوميا، أي للخارق للعادة والخارج عن المألوف في المجتمع، وأبرز أهميتها،كيف أن عظمة النوابغ تظهر من خلال طرق معالجتهم للتفاصيل والجزئيات. وعلى هديه نتساءل إنْ لم يكن النبوغ الشعبي يتجلى أول ما يتجلى في تذوقه للجزئيات وتفاعله الشديد معها. فالسمة الفارقة للجزئيات والتفصيلات هو تحررها من القبضة الحديدية للطموحات المفرطة والمُغالية للسلط أو أنظمة الحكم على اختلافها، ويعود ذلك إلى كون الجزئيات إياها عادية جدا، بل وموغلة في الاعتيادية، والحال أن العادي والمعتاد هو المختبر اليومي للأُنسيّة. إن المتع الحسية، متع الجوارح والمعيش البسيط التي تختصرها الحياة العادية، هي الضامنة، على المدى الأطول، لاستمرارية المجتمعات. ويعود ذلك، في تقديري الخاص، إلى أن الجزئي والتفصيلي هو العالم كله مختصرا وكثيفا. ووضعُه هذا هو الذي يجعلنا نتمثل كل عنصر من عناصر الحياة على أنه مستقل بذاته ومندغم في غيره في آن واحد. وفي كلمة، الجزئي هو الملموس الكوني.»
إن الجزئي الذي هو بوصلة الإسلام الشعبي كما بيّنه ببلاغة عربية صديقي من فكر أستاذنا، يكمن عندنا في هذا الاعتقاد الساري في سائر المجتمعات الإسلاميه أنه دين الرحمة والمحبة. بقي لنا أن نبين كيف يجب أن تتجلى مظاهر هذه الرحمة حتى لا يكون الدين هذا الرهبوت والنقموت الذي نعاينه من البعض، إذ أن هذا البعض جزء من الكل، فلا وجود له إلا لوجود تعاطف لأسباب عديدة من طرف الكل الذي يعمه في لخبطة فكرية. وهذه اللخبطة لا يمكن رفعها إلا من طرف النبغاء من أهل الفكر ممن لا ينحرفون بفكرهم ولا بأنفسهم إلى هذا الصراع الذي لا ينتهي بين الخير والشر، تلك المانوية التي داخلت الإسلام وهي من إفرازات عادات وتقاليد غير ما أسس لديننا العربي، ففي الإسلام تناغم تام في الذات البشرية وتلاحم وطيد بين ما هو من الشر وما هو من الخير، وليس أكبر دليل على ذلك إلا ما نجده فه من التفريق بين الذنب والإثم، وهو من رواسب الفكر الإغريقي الذي أثر كثيرا على فكر الإسلام  كما بعلم أستاذي وصديقي العزيز.      
ففي ترجمته للأمور الصغيرة التي تنظمها القوانين الكبيرة، منطلقا مما قاله فرومونتان عن الفنّ التشكيلي أي أن «من الوارد أن تُنظّم قوانين كبيرة جدا أمورا صغيرة جدا» يقول صديقي :  «المقصود هنا بالقانون هو ذلك الناظم الجوهري (الجواني) الذي يجعل الواقع مستقلا ومتينا ومتجاوِزا ، بِما لا يُقاس، لكل الشروحات والأحكام الجاهزة في حقه. وهذا المقصود هو الذي يسري على المحسوس، المحسوسُ في كل جماله التراجيدي ، بِما هو معجون، جزئيا، في أنصبة من شقاوة وقبح وفوضى، فضلا عن تفرده بنظامه الخاص، والمُعاش بصفته تلك.»
حال الإسلام في زمن ما بعد الحداثة :
أليس هذه حال الإسلام إذ الأمور الصغيرة هي طريقة فهم العوام لدينهم بأنه دين الرحمة والغفران، بينما القوانين الكبيرة هي ما يسميه إسلام الشريعة وما يأخذ به الإسلام الرسمي وهي في الأغلب أحكام غير إسلامية في روحها، لأنها متفرعة عن اليهودية والمسيحية؟ فمن يأخذ اليوم، غير القليل من المعتوهين، بقطع اليد رغم أن هذا مما ورد فيه نص صريح؟ ومن يقول بملك اليمين أو بالعبودية؟ أليس كل هذا وغيره من القوانين الكبيرة، شأنه في ذلك شأن كل ما ورد من شناعة حسب مفهومنا اليوم لحقوق الإنسان في زمن لم يكن للإنسان فيه حقوق؟ أليس من الضروري الأخذ بالجزئيات الهامة وطرح ما بدا من القوانين رغم مسحتها الإلاهية، إذ نحن لا نناقض كلام الله عندما لا نعمل بحرف كلام له جاء متناغما مع عصر ولى وانقضى، وإنما بروح هذا النص وهي أيضا من كلامه، بل هي أعلى وأرفع ما فيه؟ هذا هو مفهوم الشعوب الإسلامية، خاصة بمغربنا الصوفي، للإسلام رغم منطوق شريعته!  
ولا شك أن صديقي لا يقول غير ذلك عندما يواصل ترجمته فيقول : «تحدثت أعلاه عن "فلسفات الحياة" التي هي من فلسفة الشعب التي تتبين البصيرة الشعبية من خلالها إرادة عيْش غلاّبة بفضلها تسير الأمور وتستمر، رغم كل الضربات وشتى الأوامر والنواهي ومظاهر إستغلال وسيطرة وإخضاع وإذلال. وهذا المعطى المركزي ساءل ولا زال يُسائل فلاسفة وعلماء اجتماع ساعين للكشف، كلٌّ على شاكلته، عن السر الكامن وراء استمرار حياة الأفراد والجماعات رغم كل أشكال ومظاهر القهر والضغط. من جهتنا، نتساءل إنْ لم يكن سر الأسرار في ذلك كامنا في هذه الأشياء الصغيرة التي هي نسغ الحياة اليومية وبها تعج وتمور. نتساءل أيضا إنْ لم يكن سر الأسرار كامنا في الملموس/ المحسوس العصي على الزوال، والذي يستمر البشر في التشبث به في كل الأحوال والمشهود له بصلابته وتماسكه. ولا طائل من البحث عنه في عوالم أخرى ، أو في الحلم بمجتمعات كاملة وفي التطلع لمعقولات مثالية أو طوباويات من كل ألوان الطيف. فعندما يقول مثلٌ شعبي، مثلا، بأن "الشيء تُمسكه بيدك أفضل من شيئين تنتظرهما وتُمنّي بهما النفس"، فذاك دليل على ثقة الحس المشترك في ما هو بمتناول اليد وبعالم الشهادة، مقابل عدم اكتراثه واستخفافه بالموعود والمجهول والمقيم بعالم الغيب الذي قد يأتي أو لا يأتي !»
هكذا إذا يتكلم صديقي عن الحس الشترك، هذه الحكمة الشعبية التي تزخر بها مجتمعاتنا ولا يراها حواليه ! إن المؤكد الأكيد هو أن ما يسميه أستاذي بإسلام الشريعة ليس له من المهابة والسيطرة على العقول إلا عند القلة من تجار الدين ومعتوهيه؛ أما الأغلبية، وهي ذات حس شعبي عالي الكعب، فهي لا ترى مانعا في فهم الإسلام حسب مقاصده. إنما المشكل اليوم هو أنها لا تجرأ على التصريح بذلك؛ وهذا طبعا لا يعني أن مثل هذا الفكر غير موجود عند العموم، وهو مما يؤكد على صرورة العمل على رفع مثل هذه القيون عن العموم؛ ومن يعين على ذلك غير من له من الثقافة الزاد الوفير، فتأتي الثقافة الأكاديمية في نصرة الثقافة الشعبية؛ والكل ثقافة واحدة لا اختلاف بينها إلا في المظهر، والمظهر خداع في دنيا المظاهر هذه !
ونحن نقرأ لصديقي في ترجمة له عن دلالة إنزياح أخلاق الاقتناع عن أخلاقيات الممارسة ما يلي : «الحق أن هذه الطريقة العريقة والموصولة في تمثل أشياء الحياة وإتيانها تدعواليوم أهل الفكر والنظر، وبعد عودتها إلى سطح ، للقيام بثورة كوبرنيكية إحتفاءٌ بعلوّ شأن الملموس والأشياء الصغيرة والبسيطة والعادية جدا في حيوات الناس. تلك الأشياء التي تنتظم على نحو منطقي وسلس، و منها يتشكل نسغ الواقع البشري.»
نعم، إن علينا، خاصة أهل الفكر منا، القيام بثورة كوبونيكية على المسلمات في فكرنا إذ هو عندها من الفكر الديني الذي نحن نرفضه في الآن نفسه. فلنتذكر أن الفكر المتحرر اليوم في الغرب ليس حقا بالمتحرر بما أن رواسب الدوغمائية اليهودية المسيحية لا تزال به، بينما إذا بدت لنا هذه الدوغمائية ظاهرة واضحة للعيون في فكرنا، فذلك لا لرواسب خصوصية للفكر العربي الإسلامي وإنما لما طغا عليه من تلك العادات الغريبة عنه. فالإسلام السلفي والجهادي اليوم ليس هو في أغلبه إلا من رواسب الإسرائيليات في الدين الإسلامي الذي أصله التفتح والقبول بالآخر؛ فهذا ما أنتجه وصدّره لغرب القرون الوسطى، معيدا إليه بضاعته الإغريقية في أفضل حال، ومستوردا منه أسوأ ما فيه، دوغمائيته إلى حد أنها أصبحت ميزة له اليوم حتى عند المستنيرين من مثقفينا.  
وكما يقول صديقي في ترجمته تلك: «والسؤال المطروح الآن هو : لماذا تُمثل عودتها وبروزها على السطح الاجتماعي ثورة من هذا الحجم؟ ببساطة لأن الأصل في الأشياء هو طابعها الفلتان والزئبقي والهارب، ربما لكونها مندورة للفناء كما هو مندور مشاهدوها ومُعايشوها. فوق، تحدثتُ عن حكمة تراجيدية لأن إحساس الإنسان بالتناهي يدفعه ، دونما شعور وبلا إرادة عازمة، إلى تجريب كل ما يدخل في باب "الرائع" في هذه الحياة ومن خلال المعيش. إن الإحتفاء بالأشياء والأمور الصغيرة المتناثرة حواليه ليُعبّر أحسن تعبير عن فلسفة حياتية تدفعه دفعا باتجاه التقاط واقتناص كل ما هو قابل للعيش والمعايشة ، والتفاعل مع المعطيات المباشرة التي تقع في دائرة مداركه ، والموسومة بعفويتها واندفاعيتها على حد تعبير برغسون. 
من السمات المائزة للمعيش اليومي قدرته الفائقة على الإنزياح عن الأخلاق التمامية والمتحجرة. لذلك، قد تجد الناس في معاشهم يعلنون الولاء الصريح لمعتقدات دينية وقناعات أخلاقية، بل قد يتحمّسون للدعوة إليها والتبشير بها ، إلا أنهم سرعان ما يرمونها وراء ظهورهم ما أن تعترضهم عقبات أو تواجههم مشاكل تعجز هذه المعتقدات أو القناعات عن مجاراتها أو فكّ ألغازها. فقد يُجاهر فرنسي بمواقف عنصرية "مبدئية" إزاءالأجانب، غير أن ذلك لن يمنعه من مراعاة جاره العربي و الأخذ بيده عند الحاجة. بالمثل، لا تحول الأخلاق الجنسية المتشددة لهذا أو ذاك دون وقوعه في مطبات زيغ جنسي بوسطه القريب و الأقرب.
في مطلق الأحوال، ثمة انفصام (إنفصال) مسترسل ولافت بين القناعات الأخلاقية المُعلنة والمتجهِّمة من جهة، وممارستها على أرض الواقع من جهة أخرى. تلك الممارسة التي تنحو منحى الزيغ واللزوجة والمرونة الشديدة في الواقع اليومي. ولعل ذلك هو ما يُفسّر تلك المقاومة الشرسة التي تٌبديها الأشياء الصغيرة والملموسة حين لا تسلم قيادها بسهولة وتتأبّى على التطويع. إن المهم، في هذا السياق، ليس ما ينبغي أن يكون، بل الكائن والمتحقق على الأرض.
يقول فيبر كلاما لطيفا بهذا المعنى : "قد لايكون الشيء جميلا ولا مٌبجّلا ولا جيدا، غير أنه يُعاش كما هو وبلا أدنى اكتراث بإحالته على مستويات عليا تتجاوزه من قبيل المعتقد والمثل الأعلى الفلاني أو العلاني". أعتقد بأن مفهوم التعددية القيمية الذي اشتهر به فيبر يستمد كل قوته و ألقه من هذه الفكرة الأساسية التي عبر عنها للتو.»
دور المثقف المسلم اليوم : 
هذا ما علينا القيام به في زمننا الراهن، وهو من اللزوميات عند خاصة الخاصة قبل العامة. رغم ذلك، ففي هذه العامة العديد من المظاهر التي تبعث على الأمل غير أنها سبقت وتبقى سابقة على صفوتها إلى حد إنارتها حتما. فذلك لا يخفى على صديقي إذ هو يقول في ترجمة عنونها الأبيقورية الإجتماعية والتمحور حول الحاضر : «ولمزيدٍ من بيان ما تعنيه الأُنسية ، كما نتمثلها ، نورد جملة بداهات غاية في البساطة، من قبيل تلك التي عبّر عنها هوغار بـ "المتع اليومية" في دراسته للثقافة الشعبية. فقد وقف مليّا عند الأهمية القصوى لِما سمّاه "نكهة العيش" و"الحياة الجيدة" و"شدة الإنهمام بالحاضر"، وكلها سمات مميِّزة لهذه الثقافة. وسندفع بمعاينته إلى الحد الأقصى بالقول بأن الأبيقورية اليومية باتت بالفعل أيديولوجية ونمط عيش منتشرين على أوسع نطاق في المجتمعات المعاصرة. لقد غدت نزوعا قويا متمحورا حول بؤرة الحاضر والآني ذي الأوجه والأشكال المتناسلة. نزوع لايحفل إطلاقا بمُنازلة ومنازعة التمثلات الإسقاطية الدينية والسياسية والإقتصادية، بل يقنع باقتناص لحظات المتعة السعيدة الهربانة والمتسارعة.
يتعلق الأمر في هذه الأبيقورية الإجتماعية بمعرفة ، أو بالأحرى بخبرة سليقية ومُستبطنَة تتماهى مع تلك الحكمة التراجيدية التي تُدرك بأن المتع الأساسية في هذه الحياة، من قبيل الأكل والشرب والثرثرة والحب والشجار، متع في عجلة من أمرها وتمر بسرعة. وبالتالي، تقضي "الحكمة الشعبية " باقترافها هنا والآن دونما تباطؤ ولا إرجاء.
من الضروري التذكير الدائم بهكذا بداهات بعد تعوُّد "العقل المجرد" لكثير من أهل الفكر والنظر على تجاهلها و إسقاطها بالمرّة من الحساب. بيد أنها هي النواة الصلبة لكل بناء إجتماعي للواقع شاؤوا ذلك أو شككوا فيه أو جحدوا به حتى. إننا، بحق، حيال إمبيريقية يومية شديدة البساطة مقطوعة الصلة تماما بالإمبيريقية المُتفلسفة المُحكمة البناء والمُتقنة الصنع. إمبيريقيةٌ مؤداها أن "الموجود هو المنظور والمحسوس والواقع بمتناول اليد" وماعداه معدوم. وحتى لو اعترفنا له بوجود محدود وجزئي، فليست له عواقب مباشرة على أحوال الناس و شرطهم الوجودي.»
 إنها بديهيات، كما يقول صديقي، ولهذا فهي حتمية للخروج بدين الإسلام من البوتقة التي يريده فيها أزليا لا أعداؤه فقط بل وأيضا من يدعي أنه يبتغي له الخير. وقبل أن أختم هذه المقولة، دعني أضيف دلالة أخرى عن حتمية التغيير بالحديث عن التعقد الإجتماعي كما نظّر له "إدغار موران" وكما ترجمه صديقي أخذا عن فكر أستاذنا مافيزولي : «وتفادياً لأي تفسير سببي أو آلي لهذه العناصر، نبادر إلى القول بأنها لا تحتمله أصلا لأنها ليست سوى جُماع لحظات متزامنة في تحققها وتفاعلها، ما يعني أنها غير تعاقبية ولا منفصلة عن بعضها بالمرة.
إن المنطق البيتيّ، بيت القصيد في حديثنا، هو قبل كل شيء منطق الوحدة العضوية بين هذه العناصر، وهو أبعد ما يكون عن بنية بسيطة وبدائية. إنه منطق متماهٍ مع حالة التعقد والتشعب، كما أفاض موران في بيان أوجهها وشرحها من خلال ما أسماه الأنموذج البيو-أنثربوسوسيولوجي. ثمة تفاعل متواصل بين عناصر هذا الكلّ، ما يجعلها عُرضة لتعديلات وتغيرات متواصلة أيضا. فالحداثة القائمة على السببية العقلانية تتمحور حول التضامن الآلي البسيط، في حين أن المُحرّك المحوري للأزمنة التقليدية (ما قبل الحديثة) وما بعد الحداثية هو التضامن العضوي الموسوم بتعقده اللافت والقائم أساسا على التفاعل.
ما سبق من بسطٍ لهذه المسوغات يحملنا على تقرير كون المنطق البيتي العريق مقولة فيها من الوجاهة ما يجعلها أقدر على مساعدتنا على فهْم حال ومآل المجتمعات المعاصرة. في مو ازينها، تعتبر الحساسية البيئية وحالات التكافل بين الجيران والأعمال الخيرية والإحسانية وعلاقات التكافل بين "شمال" "جنوب" أشكالا وصيغا متكاثرة لهذا التضامن الإجتماعي والطبيعي الناشيء. في الإتجاه نفسه، من حقنا أن نتساءل إنْ لم تكن كل مظاهر التطور التكنولوجي، من حركية في التواصل مازجة بين نسخ وصوت ومشاهدة ، تعابير عن هذا النزوع الإنساني الجامح، نزوع إلى القرب والاقتراب وتحقيق أشكال من إحتكاكات "بيتية".
ما هو في حكم المؤكد حتى الآن هو أن حالة التعقد المعجونة من طينتها مجتمعاتنا المعاصرة تتكئ على نماذج عابرة للأزمنة والأمكنة تشمل حالات الإنهمام بالذات وبالغير وبالمحيط والقريب، علما بأنه هو نفسه علة ونتيجة لهذا التطور التكنولوجي الدقيق والتواصل الجماهيري الكثيف اللذين يشهدان فوْرة غير مسبوقة في هذه المجتمعات.»
في حاجتنا إلى الفكر المركب
أنا أرى أن الفكر المركب Pensée complexe  هو مما يتواجد بكثرة ولو بصفة غير رسمية وشبه عفوية في مجتمعاتا العربية وخاصة المغاربية. فهو الذي من شأنه التأثير في الفكر السياسي الطاغي لفهمنا للدين، ،كما يقول صديقي؛ فالتأثير في "السياسي" مستحيل بدون فهْم عميق للمجتمعي. فلنقرأ له وبذلك يكون في ختام المقالة مسك كلام صديقي العزيز الذي أتمنى أن أكون أقنعته بكلامه في خطأ توجهاته الحالة الآنية : «وكما أن تغييب هذين الإصطلاحين، يجعل فهم العمق المجتمعي مستحيلا، فإن عدم استحضار المدار البيتي سيحكم على أي حلم بممارسة تأثير على المجال السياسي بالفشل؛ سيما وأن "السياسي" يحدّه ويؤطّره مدار المدينة. هي ذي الجدلية نفسها التي رصدناها فوق، والتي يتحقق من خلالها مرورٌ من المدار المحدود للجماعة إلى شبكة واسعة من العلاقات، قوامها دوائر متتالية تحوم حول مركز واحد.
يُعلّم هذا النظام الإثيقي المستأنسين به الإستئناس أيضا بروابط عمادها مشاعر صداقة وعطاء وإكرام ضيف ومسلكيات أخرى مثيلة تتحقق من خلالها الأشكال الأساسية للتضامن المجتمعي والتآزر الجماعي. وهو الأمر نفسه في تصور كزينوفان الذي يرى بأن إتيان المُتع البيتية يُمهّد صاحبه للعيش في الجماعة ومعها. فإن كانت الغاية من الرابطة الجامعة بين الزوج وزوجته تنحصر في البيت، فلن تكون بهذه الصفة أكثر من "لحظة جدلية" داخل لحظات الجماعة الأكبر وفي عموم المدينة التي يكون الأزواج مدعوون فيها إلى الإضطلاع بأدوار أخرى أكبر وأكثر انفتاحا على الآخر. وتوخيا لمزيد من الدقة، نضيف بأن الإنهمام الفوكوي بالذات، ذي الحضور الدائم في الثقافتين الإغريقية واللاتينية تحت إسم "إبيميليا هيوتو"، يندرج  أصلا في كلٍّ متكامل يضم دفعة واحدة الإمساك بزمام الذات والإنهمام بشؤون البيت، علاوة على المشاركة في الشأن العام أي في شؤون المدينة.»
أخيرا، أسأل صديقي : ألست أنت، يا أخي العزيز، الذي يتحدث في ترجماته عن الفرق بين المتشكل قبليا والمتشكل بعديا بالمجتمعات؟ ألا ينطبق هذا على المجتمعات الإسلامية؟ فأنا قرأت لك هذا واستمتعت به ككل قرائك وهم كثر : «وعلى صورة "مقبض الإناء"، كما استوحاه زيميل ، فإن الخالي ظاهريا من دلالة وجدوى في الحياة اليومية ، لايعدم جدواه الخاصة ودلالته الذاتية اللتان يرفد بهما الروابط الإجتماعية ذات المفاعيل المؤكدة. وبِما أن الأفراد داخل المجتمع ينخرطون في جمهرة من الشبكات الأساسية القائمة على الصلات الوثيقة للقرابة، فإنهم يندمجون فيها حد الإنصهار، وتلك سمة فارقة طابعة أيضا بميسمها لروح ما بعد الحداثة. فالبناء العضوي المرصوص للحلقات الصغيرة تتولد و تتناسل عنها كيانات إجتماعية أكبر وأوسع. وهذا ما أسميته، تحديدا وفي غير ما موضع، "الوحدة العضوية" التي تنسجها روابط مفتوحة، عارضة ووجدانية المنزع، وتتميز بكونها تتشكل بعْديّاً، خلافا للوحدة المغلقة للمؤسسة التي تتطلع للكونية والثبات والاستفراد بصفة "العقلانية"، وبسب ذلك كله يكون تشكُّلها قبْليّاً. 
في السياق نفسه، لاضير من الاستعانة من الموروث الفلسفي القديم بمقولتي "المنطق الداخلي" و"اللوغوس سبيرماتيكوس" رغبةً منا في مزيد من توضيح لهذا المعطى السوسيولوجي المعاصر. ثمة بالمنطق البيْتي منطق داخلي (جواني) ينثر بذوره بعْديا فتتفتق وتنضج ويشتد عودها إلى أن تتبرعم باتجاه الخارج مُخصِّبة وملقّحة لمجمل الروابط الاجتماعية. تقديري أن الوحدة العضوية لكل الشبكات الاجتماعية تشتغل وفق هذه الصيرورة، وتقديري أيضا أنه من الأهمية بمكان التأكيد على المنظور إياه في تناول هذه المسألة ، إذ هو الكفيل ببيان كيف يغدو المنطق البيتي نموذجا لمنطقٍ متمركز حول بؤرة الملموس الأقصى كما عمّده والتر بنيامين. ومن هذه الناحية ، فهكذا "منطق" أبعد ما يكون عن وضع إجتماعي يكون فيه الفرد منغلقا على ذاته ومنزويا على خُويصة نفسه في شرنقته الخاصة، بل مندور للإنفتاح على "خارجه". 
إن هذا "الملموس الأقصى" هو الخلاّق للروابط العضوية التي سعت المفارقة اللافتة أعلاه في المعطى الاجتماعي إلى وضع اليد عليه وبيانه. وفي السياق نفسه، أُقدّر مرة أخرى بأنه من المناسب جدا إستحضار المصطلح اللاتيني دوموس Domus ومعناه ما يضم ويشمل كل الموجودات المتقاربة والمتجاورة، من بشر وحيوان وموروث ثقافي و أواصر أرضية وترابية و بيوتات ، ضمن كل متناغم. وللمصطلح نظير في الإغريقية هو واكوسOikos المشبع بالحُمولة الرمزية ذاتها. وقد بيّن فوكو، بمعرض شروحاته لأحد نصوص كزينوفان، كيف أن هذا المفهوم قادر لوحده على تحديد وتكثيف ملامح "أسلوب العيش والنظام الأخلاقي السائدين في فترة تاريخية وحضارية بعينها".»
هكذا يتكلم صديقي وهكذا يدلل على أن واجبه يقتضي أن ينير أهل المغارة، شعبنا الغارق في ظلامه الأسود الغربيب، إذ لا يرى من دينه إلا خيال ما يتحرك وراءه، حيث النور خارج مغارته. فمن يهدي العموم إلى ذخائر هذا الفكر وثرائه إذا لم يكن المفكر النابغة والجهبذ العالم به وبفكر من نظر له من العلماء الأفذاذ؟ 
إنه دور المثقب المسلم اليوم حتى وإن حمله ذاك على أن يكون في قدره تلك الشمعة التي تحترق للإضاءة. فليكن شعارك، يا صديقي، شعار الأديب الشاعر قوته، الذي أحب سماحة الإسلام وروحانيته، وهو الذي بقي يطالب وهو على فراش الموت بهذا : المزيد من النور !  فمن غيرك وأمثالك، وهم قلة قليلة، بإمكانهم الإنارة في هذا الزمن الحالك؟   
ولمزيد الامتاع والمؤانسة أختم بدنيا المظاهر، نحو أخلاقيات جمالية، كتاب صديقي المترجم  لأستاذنا في السوربون ميشال مافيزولي، حيث يقول بالحرف الواحد، وأنا طبعا أضم صوتي إلى صوته : «المطلوب اليوم هوالتوقف عن كُره الحاضر، وهو مطلبٌ غير هين على حماة وسدنة "العوالم الخلفية " التي تستمرءُها وتمتهن ترويجها الأنساق الفكرية والنظرية. نقول ذلك في الوقت الذي يتشكل فيه مجددا على مرآى منا ومسمع عالم ساحر ومسحور في آن. هو ذا التحدي الكبير الذي يواجهنا في نهاية القرن العشرين. 
وبناء على هذه القناعة الأساسية، جعلنا الأفكار المركزية في الكتاب بين يديك تتمحور حول القضايا الآتية:
- البديهي والحس المشترك بحسبانهما يقينا، 
- الظواهر (المظاهر) بحسبانها عمقا،
- وأخيرا، لا آخرا، تجربة القرب والمحايثة بما هي تجربة نوعيّة .
والهدف من وراء طرح هذه القضايا هو هدف مزدوج .فمن جهة، سنسعى إلى معاينة فروضنا التي تقدّم ذكرها على الأرض. ومن جهة ثانية، سنسعى جاهدين لإبراز ما تنطوي عليه من معان ودلالات . 
ما عاد ثمة شك في أن اليقينيات الكبرى التي عمَّرت طويلا باتتْ تتهاوى واحدة تلوالأخرى. والأحداث كما التحولات والمُستجدات تدفعنا دفعا إلى التفكير بطرائق جديدة في التفكير والمقاربة . 
المعرفة في طور التشكل لا بد أن تكون في صلة دائمة مع العالم . لمِنْ شأن إغفالُ هذا المعطى إقتراف شرخ محتوم بين الفكر والواقع، شرخٌ سرعان ما يتحول إلى هوة عميقة وسحيقة يستحيل ردمها . وحدوث هذه الشروخ ، بين الفينة والأخرى، هي السبب في ظهور وتنامي أحوال نفسية جماعية تتراوح بين المزاج النكد والنزعة الكلبية، بله ومظاهر من الثورة المسترسلة على كلكل الأوهام في عصرنا .
إن الحاضر ينبوع ثرٌّ للتفكير، التفكير بإطلاق رغم أنه لا يعدو أن يكون نقطة عبور بين ماضٍ متراكم ومستقبل ممتد. الحاضرُ يمدنا بالعناصر والوقائع الكفيلة بفهْم الناشيء، فهمُه بمنأى عن كل الخلفيّات والأحكام الجاهزة . 
أكيد بأن الأمر يتعلق بمعطى بديهي لاجدال فيه. غير أن المشكلة تكمن في أن هناك من بيننا منْ لازال يصر، وبعد معاينته للوقائع على الأرض، على حذف هذه وتجاهل تلك مقابل انخراطه الجانح في التنظير المعياري والأخلاقوي، التنظير لِمَا كان يجب أن يكون ولِما ينبغي أن تكونه الحياة الاجتماعية بمعزل عن المعاينة الباردة والواقع العنيد.
غالبا ما يُعقِّبُ الفيلسوف المُؤتَمن على هيكل المفاهيم، وعالم الإجتماع الحريص على جدوائيته، والصحافي الوصي على ما ينبغي نشره من عدمه، غالبا مايُعقب هؤلاء جميعا على الباحث الاجتماعي القانع بالملاحظة الوصفية وبإعمال الظواهرية بقولهم وبصوت واحد:
كلُّ هذا "جيد" و"جميل" ، وربما صحيح، لكن ما ذا بعد؟
كما لو أن المرئي بحد ذاته غيركاف، وكما لوكان بناء النسق من الواجبات المطلقة ، وكما لوكان إدخال البديهي والواقعي في قوالب فكرية جاهزة شرطا لازبا لنيل اعتراف. والحال أن الواقع، الواقع بحد ذاته، في غنى عن كل التبريرات النظرية السابقة عليه أو اللاحقة به.
الحق أن الأمر يتعلق، في هذا الموقف المتواتر، بتقليد ضارب في القدم، تقليدٌ مارسه كهنة الخدمة الذين ما انفكّوا يتوهمون بأن إنكار الموجود والمتحققق شرط مطلق لاستمرار وهم الكمال المزيف والمصطنع لمنظوماتهم وأنساقهم الفكرية الدوغمائية .»
إن ما ثبت في الإسلام من نصوص تحجرت ليس بالثابت حقيقة إلا إذا أردناه كذلك؛ فنحن نعلم أن كل شيء يتحول في كل لحظة، فلا ساكن يسكن سكون الموت، بل هو في حركة دائمة، ولا ثبوت للجلمود بما أنه دائم التحول. 
ولا شك أن في الإسلام المغربي الوفير من عوامل تبين مثل هذا التحول الدائب وهذه الحركية الأبدية أو المستدامة كما يحلو القول اليوم. ولعل الأمازيعية من نواته كما أن الأرضية الصوفية هي تيربه. 
فلتتمعن، يا صديقي العزيز، في ما أنت تكتب، فهو مفتاح فرجك إذا طبقته على ما تعيشه، فإنك لن تشاهد عندها ما نرى عند أهالينا من ازدواجية في الشخصية. ولتكن حيرتك وحزنك من فترات الشك اليقيني، وهو اليوم من العقل الحسي أو الحساس كما تعلم، بما أنك كتبت فيه؛ وذلك هو الاصغاء إلى ذبذبات المجتع التي هي اليوم على إيقاع إسلام ما بعد الحداثة، الإ-سلام، لا على ما تتحدث عنه أنت من إسلام الشريعة.
إن إسلام الشريعة نغمة قديمة متقادمة، عرفناها وعركناها، فلم تعد مستساغة إلا لمن انعدم الطاقة على استباط الجديد من القديم حتى لا يرضى بالقديم الذي أكل عليه الدهو وشرب. فالإسلام ثورة مستدامة، وعلينا التدليل على ذلك بقراءة ثورية صالحة لزمن ما بعد الحداثة. ولتكن أنت، يا أستاذي الكريم، من صانعيه بما لك من الزاد الوفير في المعرفة الفهيمة.     
صديقك