في
إحياء علوم الدين
ما بعد الحداثية
(مدخل)
لا شك أن حتمية إحياء ما صلح في الفقه الإسلامي وعلوم الدين عموما من المسلمات اليوم ولو أنها تكتفي بالنزر القليل من المجهود في حين أنه بحق من الجهاد الأكبر لما أصبح عليه حال الإسلام من غربة قبل أوانها؛ فهي تكتفي بضخ ما يديم الحياة ولو في حالة موات سريري وليس هي بالإحياء حقا، كما عايناه مع النظرية المقاصدية التي أفرغت من محتواها الثوري الأصيل. كذلك مثال علم الكلام الجديد الذي لا يأخذ بروحه علم الكلام الأصلي مكتفيا ببعض تجلياته مخافة نبذ النمطية الدينية التي أصبحت سائدة كحقيقة أزلية، فإذا هي وحي جديد منزل؛ وطبعا، ليس هو ما يفرضه ما بين بدينا من وحي يفترض عدم الأخذ بغيره مع تأويله الصحيح، أي لا حسب واقع مقاله فحسب، بل أيضا واقع حاله اليوم بعيدا عمّا رسب من الأمس واحتفظنا به إلى زمننا الراهن على حاله ومع هناته في علوم الدين والفقه المعمول به وكأنه الوحي ذاته.
والعلم، حسب أفضل تعاريفه، الحقيقة التي يتوصّل لها البحث ويعتقدها حقيقة بعد تجارب عدّة، فيها الصحيح وفيها الخطأ؛ إلا أنها حقيقة مؤهلة للنقد دوما، وأيضا للدحض عند ورود الحادث الطارئ الذي تؤكده الأدلة؛ فالحقيقة العلمية آنية لا نهائية وهي تقبل التشكيك والتفنيد بالأدلة المشابهة تماما لتك التي أهلتها لأن تكون حقيقة ثابتة لا شك فيها. هذا، والثبوت في عالم لا يفتأ يتغير لا علاقة له بجوهر الحقيقة بل بطريقة التدليل عليها، أي أنها دوما المنهج المنطقي القابل للنقاش والأخذ والرد طالما ثبتت النية الحسنة والموضوعية في البحث عن الدليل الدامغ.
وما من شك عند أهل الإسلام أن دينهم أتى كعلم مكرّس لسلطة العقل وعلوية النية الطبية في الأخذ به في البحث عن الحقيقة. كما أنه أتى بمبادئ كونية إضافة إلى صفتها العلمية، فلا تختص بخلق معيّن ولا بعقيدة البعض من الخلق، إذ هي علمية عالمية؛ كما أنها بذلك تطمح للأزلية كختام الدعوة السماوية. فكيف لهذا الدين أن يتقمص حقيقة كهذه إذا لم يكن الإيمان المتفتح على جميع مشارب بني آدم بما فيهم من حظي بدعوة سابقة للإسلام من أهل امحتواها لوحي التوحيدي؟ ألم يعترف الإسلام بكل ما سبقه من أنبياء الأديان المرسلة من طرف الله إذ أتى خاتم الرسالة النبوية لا لإبطال الرسالات السابقة ولا لرفض محتواها، بل لختمها وتبيين أسسها العامة دون بيان ما يخص كل أمة فالمساس به طالما لم يتعارض مع أسس الإيمان التوحيدي؟
كيف يكون هذا إذا لم يتم الارتفاع بالإسلام من دين لا يختص به عرب الجزيرة العربية حيث تم نزول الوحي وبلغتهم إلى إيمان علمي كوني التعاليم يتوجه بمبادئه لكل مؤمن بالله الذي لا يتوجه لأمة بعينها، كما هي الحال مثلا مع اليهودية خاصة والمسيحية ولو بأقل درجة وأيضا الإسلام في جانبه الشعائري وكما فُهم اليوم؟ ألم يبيّن جليا صاحب الدعوة لمن تبجح بالإيمان من بعض الأعراب أنه آسلم ولم يؤمن؟ أليس هذا ينفي حصر الإسلام في الإيمان الحالي المقصور على العربي وعادات العرب مع رفض كل ما لم يختص بهم، كما بينه الاجتهاد لزمن ولى وانقضي فأسس لفقه بقي لزمننا الراهن، ما جعل من الإسلام الدين الخاص بفئة من البشر، بل وأيضا بحقبة زمنية معينة من التاريخ البشري مخالفا لصفته الأساسية؟
ألم يحن الوقت لإعادة فتح الاجتهاد في دين كاد يجعل منه جهادا أكبر وفرضا عينيا على كل من عرف دينه ولغته المنزل بها وحسنت نيته في الاجتهاد ولو أخطأ فنال ثوابا واحدا؟ بلي! حان الوقت لأن هذا الدين الأنسي، الذي أتى ذكرا عليما عالميا، أسه حقوق المؤمن وحرياته، أصبح دين بشر اجتهدوا لزمنهم فأصابوا ولم يجتهدوا لغير زمنهم؛ فإذا اجتهادهم أصبح بمثابة الدين نفسه بينما لم يعد الفقه الحالي، نتاج اجتهادهم، في أغلب فصوله صالحا لفهم حكمة الله في خلقه. فهي تتجلى اليوم بصفة مغايرة للصفة التي فهمها الفقهاء الأجلة في الزمن الغابر. فهل يُقتل من لا يصلى وهل يستباح دم من لا يأخذ لا بتعاليم الدين بل بما وصل إليه اجتهاد بعض أصحاب الشعائر وكأنها الدين المنزل نفسه؟
لها دعوت للأخذ مجددا باجتهاد لا يكتفي بالثوابت التي فرضها العقل البشري لزمن غير زمننا ما بعد الحداثي بل ليستنبط من الذكر الأول، وخاصة من لب لبابه، وهو الوحي المكي، ثوابت أصح أقرب لنص الفرقان الظاهر والباطن، وأساسا بروحه وهي أعلى من الحرف. مع التذكير بأن الحرف أتي متعددا بينما الروح دوما واحدة، وهي في العدل والانصاب والحقوق والحريات والرحمة بلا حدود، مع التسليم في كل ذلك لله وحده. فلا واسطة في الإسلام الصحيح بين الخالق وعبده الذي لا يسلم له أمره إلا عن قناعة وبكل حرية لأنه عبد حر لا يسلم أمره لغير خالقه ممن يدّعي تمثيله وقصر فهم تعاليمه على نفسه من مرجعيات فقهية ومشيخية هي كنائس وبيعات مقنعة، بل وأصنام معنوية، في دين أبطل المرجعيات غير الله وحده كما أبطل الأصنام والأنصاب.
في هذا الإطار، تكلمت عن الإسلام ما بعد الحداثي للقطع مع ما لم يعد صالحا من التراث القديم وقد شوهته عديد الرواسب من العادات اليهومسيحية، فاقترحت إضافة مطة بعد الألف للتفريق بينه وبن الإسلام الحالي، وفي نفس الوقت التركيز على أس من أسسه وهو السلام الروحي: إ-سلام i-slam.



