ثيمة الوفاء أسّ الإيمان العربي
في الزمن الذي أظلنا، زمن صفرية المعاني أو حقبة الجماهير، وهو ما بعد الحداثة، نعيش دون شك رجعة إلى الماضي في كل شيء بما في ذلك قيمة الأخلاق؛ إلا أن هذه باسم التجذرّ تجلّى على أفضل حال صفرية معنى الأخلاق في زمننا، بما أنها مجرّد فهم فضفاض لمعنى أسمى من أن يبتذل بفرض تصرّف متخلّق إذ الأخلاق الأصيلة حرّة متحرّرة من كل قيد يفسد ما فيها أساسا أي سلامة السريرة وصدق النية وإلا ليست هي إلا من النفاق خوفا من التسلط؛ وليس النفاق من الأ خلاق بتاتا.
والأخلاق كأفضل التجلّى للدين والتعلق به ليست المعيار الأساسي ولا الأهم عند العربي، إذ أهمّ ما في تعلّق المسلم بدينه يتأتّى من خصلة عربية أعرابية كانت جوهر إيمان العرب بالدين الجديد كما كانت لغتهم العربية لسان الوحي. لهذا نرى هذا التمسّك الكبّار عند أهل الإسلام بدينهم كآخر ملجأ للحفاظ على ذاتهم وذاتيهم من المسخ؛ وليس هذا جديدا على المسلمين وقد عرفوا ذلّ الاحتلال والمسكنة بعد عزّ الحضارة والريادة العالمية عقب بروز دينهم وتفتق حضارته. ففي حقبة بداية كسوف حضارة العرب المسلمين مع التسلّط الأجنبي على دار الإسلام، ظهر التيار السلفي كردّة فعل على الفساد الداخلي ومن باب حماية الذات بالحفاظ على أهمّ مكوّناتها، أي دينها.
لهذا نرى هذا التمسّك الكبّار عند أهل الإسلام بدينهم كآخر ملجأ للحفاظ على ذاتهم وذاتيهم من المسخ؛ وليس هذا جديدا على المسلمين وقد عرفوا ذلّ الاحتلال والمسكنة بعد عزّ الحضارة والريادة العالمية عقب بروز دينهم وتفتق حضارته. ففي حقبة بداية كسوف حضارة العرب المسلمين مع التسلّط الأجنبي على دار الإسلام، ظهر التيار السلفي كردّة فعل على الفساد الداخلي ومن باب حماية الذات بالحفاظ على أهمّ مكوّناتها، أي دينها.
ونظرا للوضع المتأزم كان هذا بالاكتفاء بما وصلت إليه علوم الدين من اجتهادات فقهية مع رفض كل تجديد أصبح بدعة مرفوضة. بذلك تمّ نبذ الفلسفة وأي اجتهاد في الدين خارج ما حصل من لدن الفقهاء الأوائل الذين استنبطوا مذاهبهم من باب الاجتهاد دون فرضه على أي مسلم؛ ورغم ذلك فرضه الحكّام مع بداية الانحطاط من باب الضرورة والمصلحة الشرعية والصالح العام، ولو أن الصالح الخاص عند بعضهم لم يكن منعدما، بل أولويا.
هكذا بدأ التنكّر لروح الإسلام الصحيحة التي هي في الاجتهاد المستدام في تعاليمه لأنه أتى دينا ثوريا لا تحجّر فيه ولا مسّ بحقوق المؤمن وحرياته؛ وهكذا فهمه المسلمون الأوائل قبل أن تطغى السياسة ومصالح الحكّام على مقاصد الإيمان الأصيل اعتمادا على فقهاء بلاطاتهم الذين أوّلوا دينهم على حسب هوى أصحاب الشوكة. كذلك كانت الحال مع قيام الدولة الأموية؛ فهي الانقلاب بلا منازع على جانب من روح الإسلام الرافض للحكم العضوض، كما ذكّرت بذلك بعض الفرق الثائرة على الأمويين، ولو أنهم أفسدوا صحة فهمهم للإسلام في هذه الناحية بسوء فهم منهم لعديد الجوانب المهمّة الأخري، بل فساده تماما.
فالإسلام أساسا سلام، ولو أنه مارس الحرب دفاعيا لا هجوميا، وحسب قوانين الحقبة الزمنية التي ظهر فيها، وهي التي لا مناص فيها من انتهاج العنف لفرض الذات. إلا أ نه مارسه حسب قواعد صارمة كانت فيها بدايات قانون الحرب كما سيتم اعتماده بعد عدّة قرون. ثمّ إنه لا حرب مقدّسة فيه بل جهاد حسب تلك القوانين وفقط للدفاع عن الدين الجديد والسماح له من التمكّن من القلوب. أمّا بعد ذلك، فلا جهاد بالسلاح، إذ ليس هو عندها إلا أصغر الجهاد، بل الجهاد الأكبر أي جهاد النفس الأمْارة بالسوء دوما لصفة بني آدم الناقصة بطبعه.
إن السلام لهو أكبر مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية وهو يؤسس لكل تعاليمه سواء الدينية، إذ لا إكراه في الدين، أو المدنية، لأن المؤمن المسلم لا يسلم أمره لغير خالقه، فليس لأحد، حتى لحكام زمانه وأصحاب الشوكة في بلده، التدخّل في شؤون دينه، إذ علاقته بربّه مباشرة وهو في ايمانه به لعبد حرّ. وهذا الذي سمح بأن تكون أمّة الإسلام خير أمّة أخرجت للناس لأنها أمّة مؤمنين متحرّرين من كل القيود التي تستعبد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراو وكذا أرادهم دينهم، يؤمنون بخاتم الأديان دون نكران حق غيرهم من المؤمنين بالله من غير المسلمين.
هذا هو الإسلام السمح المتسامح كما عرفه أوّل مؤمنينه من العرب، خاصة أصحاب الصفّة الذين كانوا نواة أفضل تيآر فكري إسلامي، ألا وهو الصُفّية، حسب تعبيري، أي الصوفية. فهؤلاء فهموا الإسلام كما ينبغىي، أي أنه إيمان وفيّ للقيم التي أتى بها الوحي المكّي، ومنها بالأخص الوفاء لمقاصد مجمل الوحي الإسلامي، وهي التوحيد والتسليم لله ولحكمته. والحكمة اللدنية لا علم للبشر بها إلا اجتهادا، غير أن المجتهد من ابن آدم، يضل اجتهاده ناقصا على الدوام مهما نبغ وعلا كعبه؛ فلذلك أتى هذا الدين، وهو علمي التعاليم عالميّها، بآلية الاجتهاد حتى لا يصبح غريبا كما نبّه على ذلك صاحب الدعوة.
ثيمة الوفاء هذه هي لب لباب الإيمان الإسلامي العربي رغم أنها سرعان ما غدت وفاء لا للدين نفسه بل لما أصبح عليه من اجتهادات بشرية حاكت ما قام به كهنة اليهود وأحبار النصاري من ابتداعات ابتعدت عن الروح الأصيلة للتوراة والإنجيل والتي أكّد الإسلام أنه يتمسّك بها ويحييها. وهذا الوفاء لأصله عربي وقد علمنا مدى قدسيّتها عند العرب إذ من شأن العربي أن يقبل بالموت اختيارا حتى لا يخفر ذمّته بعدم الوفاء لما كان منه من انتصار للدين العربي وإيمانا بنبيّه وبرسالته. وقد خلّد المثل «إِنّ غَداً لنَاظِرِهِ قَرِيبُ»، والتي وقعت في الفرقان، هذا الوفاء؛ وهو في حادثة مشهورة بطلها قُراد بن أجدع الذي كاد أن يُقتل لأجل أنه كان ضامنا لأحد بني طيء إن لم يأت لميعاد قتله من طرف أحد أشهر ملوك العرب في ذلك الزمان، النعمان بن المنذر، باسم عادته في يوم بؤسه إذ كان أتاه فيه.