خلافا للاعتقاد السائد، ليس الموت إلا الاختفاء عن الأنظار، فما هو بتاتا ضياع مبدأ الحياة السرمدي، إذ النفس أو الروح لا تموت، بل تعود إلى منبعها، النور والضياء الذي به مليء هذا الكون المترامي بلا حدود، والذي لا نعلم من أسراره شيئا أو النزر القليل . ولا شك أن من يتنبه إلى هذا الإحساس بتواصل حياة من نُحرم رؤيته لهو الفاقد لعزيز عليه فلا ينفك يذكر هذا الحبيب إلى حد أنه يشعر بوجوده بل وبرؤيته، سواء في المنام أو حتى في اليقظة.
ذلك أن الغائب عن الأنظار، هذا المنعوت بالميّت، ليس ميّتا إلا عند من يعتقده اختفى إلى الأبد، باد مع جسمه الذي واراه الثرى؛ فهذه النظرة إلى الأمور هي التي تخلق الموت والعدمية بينما لا نهاية للروح عند مغادرة البدن؛ فهو لا يعدو أن يكون إلا مطية لا غير على البسيطة للتجلي، بما أن الروح لا تُرى إلا من خلال الجسد الذي يحويها. لذا، الموت لا يطال إلا ما كانت مرئية به الروح، أي المادة التي تكسوها. فالروح، عند خروجها من هذه المادة الفانية بطبعها، تبقى حية ترزق وبإمكانها، كما يحدث مع بعضهم، أن تردّ يوما على الطلبات الملحة من الأحياء للتلاقي روحيا والتخاطب، بل والعيش معا أحيانا كما كانت الحال قبل مغادرة الروح للجسد وإن اختفى التجسد وغابت رؤية الروح بفساد المادة التي تجلّيها للأنظار.
التجسد إذن هو الذي ينمحي حين حدوث الموت لا الروح؛ فهو الذي يغيّب في التراب لا مبدأ الحياة فيه، وهو نور أزلي من أنوار الكون الفسيح بما فيه عالم الأرواح الذي نجهله حسيا فلا نعرف قوانينه، بل لا نفكّر البتّة في محاولة معرفتها، بله إمكانية التواصل مع الأرواح، هذا الذي أنعته بالوصال الروحي.
وهو عندي متحتّم عند عدم نسيان الحي لمن اعتقده مات، فيدأب لا فقط على إحياء ذكراه بل يسعى للتواصل معه. هل هذا بالغريب في عالمنا الافتراضي اليوم؟ ألا يتخاطب المبحر فيه مع من لا يعرفه من قارات بعيدة؟ فما الفرق بين هذا وتخاطب روحين إحداهما في عالم غير مرئي لا يمكن الجزم علميا بعدم وجوده أو حتى انعدام إمكانية وجوده؟
نعم، قد يطول انتظار من يبتغى التواصل مع الروح التي تعلّق بوجودها فرفض غيابها؛ وليس ذا بالمستغرب وقد عرفنا أننا لا نستطيع أحيانا الإبحار على الأنترنت لانعدام الخط أو لبعض التشويش عليه ما من شأنه قطع التواصل. على أنه، في رأيي وتجربتي، من قوانين العالم غير المرئي أنه لا مناص من حصول التواصل إذا داوم الطالب مناجاته وتخلص من الفكرة الخاطئة أنه يناجي من لا وجود له، بل يعتقد جازم الاعتقاد أنه يخاطب روحا حية غائبة تسمعه وتسهر على تلبية رغبته آجلا إن لم يكن ذلك عاجلا.
ذلك لأن للعالم الروحي، مثل ما لنا في عالمنا المرئي، قوانين نجهلها تنظم الحياة فيه؛ إلا أن من مبادئها الثابتة، حسب ما تيسرت لي معرفته، أنه لا يخيب من يحرص على مداومة طلب الوصال أو التلاقي، فهو متحتم طالما دام الطلب وفكرّ الطالب بالأخص أن الروح التي تعلق بها وبرؤيتها أو التواصل معها حية ترزق، ليست البتة ميتة كما يُعتقد وكما يوحي به لحده في المقبرة. وليس هذا بالسهل طبعا، إذمن شأنه رمي صاحيه بالجنون!
أقول هذا عن تجربة، بل تجارب، دونتها للإفادة؛ منها ما أتى بطلب من روح شرفتني لمد الآدميين برسالة روحانية لم أتردد في التعهد بنشرها لحساسية موضوعها وذلك باسم الواجب الأخلاقي وضرورة كلمة السواء في عالم النفاق الذي نعيشه.
لقد كان هذا، بلا شك، استثناء مني نظرا لأن موهبة الانفتاح للعالم غير المرئي هبة لدنية تقتضي، ككل نعمة ربّانية، التواضع في الأخذ بها والنأي عن أي نزعة للمراءاة بها أو حتى إظهارها للناس، بما أنها نتاج علاقة بين الرب وعبده لا دخل للعباد فيها، إلا إذا اقتضت الحال التصرف بها لأجل رعاية مكارم الأخلاق كما كان الأمر عند أوائل أهل الصفة، صفية الحقائق، هؤلاء الذين كانوا أبعد من امتهان إيمانهم عالي الكعب واستهجان روحه وابتذالها كما يفعل اليوم من يدّعي النهج على منوالهم.
فالصوفي الحق يسكت ضرورة عن الكلام في كرامة منحها له خالقه لا للتميز عن سائر خلقه بل لتزكية نفسه مع ذاته ومعهم أولا ثم لالتزام مكارم الأخلاق في حياته الذاتة والاجتماعية بالحرص على التصرف السوي وقيل كلمة السواء. لذلك الكلام في ملكة الوصال مع الأرواح والعالم غير المرئي ممن يكتشف حظوته بها من العيب كل العيب؛ فهذا ممّا لا يسمح به واهبه إياها ولا من يخاطبه من الأنفس الخفية، إلا إذا توفر لذلك سبب بالغ الأهمية فيه بعض الخير إن لم يكن الخير العميم لمن يستحقه من بني الإنسان أو مخلوقات الله.
إن هذه لأخلاقية التواصل مع عالم الأرواح، أو قل الأخلق الروحاني.