من أجل القطع مع غربة الإسلام اليهومسيحية!
إن العادات اليهوميسحية لطاغية اليوم في الإسلام، مما جعله دين التزمت والكراهية، بل والإجرام، لا دين التسامح والسلام والحقوق والحريات؛ وهذه غربته التي أصبحت تهدد مصيره.
وليس هذا بالجديد، إذ بدأ مبكّرا في التاريخ الإسلامي مع ما سُمّي بالإسرائيليات. فقد تغلغت المفاهيم اليهودية والمسيحية في المنطق الفقهي لدين كان ثوريا في روحه ممّا حاد به عن روح الإسلام الصحيحة كما أتت في القرآن. ذلك أن اجتهاد الفقهاء فهم الدين الإسلامي حسب عقلية يهومسيحية لا حسب مقاصد الإيمان الإسلامي الأصيل، أي إيمان الحقوق والحريات كما تنزل في القرآن المكّي.
فنحن نأخذ اليوم بفقه يخالف في العديد من اجتهاداته القرآن وروحه، وذلك بالأخص اعتمادا على السنّة التي أصبحت منذ عهد الشافعي موازية للقرآن في القيمة، بل وأعلى منه أحيانا. وقد علمنا ما شاب السنّة من اختلاق وكذب على النبي الأكرم مما يحمل على التشكيك في العديد من الأحاديث إلى حد أن أهل الاسلام اتفقوا على أنه لا أحاديث ثابتة الصحة إلا مما اتفق عليه الشيخان. بل ونجد اليوم من يكذّب بدون تردد العديد من أحاديث البخاري ومسلم ويدعو للاكتفاء بالقرآن مع طرح السنّة جانبا. هذا يعني نبذ العديد من العادات والسنن التي أصبحت مقدّسة في الإسلام بينما لا مكان لها في القرآن ورغم أنها تخالف مقاصده، بل وحتى حرفه أحيانا.
فتماما مثلما كانت الحال بالنسبة للعقلانية اليونانية التي هي في الحقيقة عقلانية مكتوبة باليونانية، إذ كانت الفلسفة فيها يونانية لكن بفضل فلاسفة كانوا أغرابا، كذلك حال الحضارة الإسلامية، بما في ذلك الفقه وعلوم الدين. لقد كان العلماء والفقهاء عامّة من الأغراب، أي الموالي، وهم من العجم، وقد بيّن ابن خلدون بمقولته الشهيرة أنهم هم أساسا حملة العلم في الإسلام.
لذا، من الضروري اليوم التنبّه إلى أن أهل الإسلام من العرب لا يرجعون في دينهم وفلسفة حياتهم إلى فكر عربي محض، بل إلى ما يمكن نعته بفكر مكتوب بالعربية أو، في أفضل الحالات، إلى فهم أعرابي ندّد به القرآن أي تنديد. والشيء نفسه يُقال في فقه الدين بما أنّنا نأخذ بفقه مكتوب بالعربية بينما العقل الذي استنبطه والمتخيل الذي نشأ منه غير عربي البتة؛ إنّه على الأغلب مفعم بالعادات اليهومسيحية. وكيف لا يكون كذلك وأصحاب أهم المذاهب فيه من الموالي؛ بل وحتى أهم القرّاء وأهل السنن؟
ولقد علمنا دور اللاوعي والمتخيّل في الفكر وتنميطهما له حسب العادات التليدة. وهذه الأخيرة كانت يهودية مسيحية في الجزيرة العربية عند ظهور الإسلام، ودامت فتفاقمت في فترة تدوين علوم الدين. لذا، عند تأويل القرآن، وقع تقزيم نزعته التحررية ومقاصده في دعم حريات الناس وحقوقهم، وبالذات الخصوصية، حسب فهم متزمت ألهمته العادات المسيحية المنتشرة عند العرب والتقاليد اليهودية حسب المأثور مما رسب من الكتاب المقدّس.
لذلك اختلق المسلمون الرجم وفرضوه في الإسلام اعتمادا على أحاديث نسبوها للرسول، بينما لا رجم في القرآن. وكذلك طبّقوا الكتاب المقدس اليهومسيحي في العلاقات الجنسية المثلية بينما لا حكم في اللواط في القرآن، بل ولا عقاب البتة، إذ هو من الجنس الطبيعي الذي خلقه الله في عباده.
كذلك أيضا تفنّن المسلمون في جعل الله متجبّرا عاتيا كإله كتاب اليهود والنصارى، قاسيا لا يرحم، بينما هو رحمان رحيم في الإسلام؛ فابتدعوا تحريم الخمر وقد ثبت أن القرآن لا يحرّم إلا السكر، ومنعوا المساواة في الإرث بينما مقاصد القرآن تفرض تحقيقها لإكمال التمشي القرآني على مراحل نحو العدالة التامة بين المؤمنين ذكورا وإناثا وقد خلقهم الله سواسية كأسنان المشط، لا فرق بينهم إلا بالتقوى.
هذه الأمثلة، وغيرها كثير، يفرض على أهل الإسلام اليوم إعادة فتح الاجتهاد في دينهم وقد أصبح غريبا عن منابعه وعن الذكر المكّي الأول، أي إيمان الحقوق والحريات. وكما كان غلق باب الاجتهاد سياسيا بامتياز، إذ تم بأمر من الخليفة المتوكل العباسي، وذلك بعد ما سُمّي محنة خلق القرآن الذي أحدثت بلبلة في المجتمع الإسلامي أقضّت مضجع أصحاب النفوذ خوفا على سلطانهم، لا بد من أمر سياسي بفتح الكلام في الإسلام لكل النوايا الصادقة، لا فقط لأهل الدين، إذ لا كنسية ولا معبد ولا كهنوت في دين الإسلام.
إننا اليوم بتونس، وبلاد الإسلام طرّا، بحاجة إلى فقه جديد متجدد يأخذ بأفضل ما في الإيمان الإسلامي من روحانيات ومبادئ إناسية، فيعيد إليه صبغته كدين حقوق وحريات؛ وهذا يقتضي طرح كل ما في الفقه من اجتهاد بشري بار، إذ أكل عليه الدهر وشرب، والعودة إلى منابع الإسلام الصحيح باجتهاد مقاصدي سليم من العادات اليهومسيحية التي شابته فشوهته وقلبته من دين تنويري ثوري إلى ملة جاهلية ظلامية.
فهلا انتبه الساسة بتونس إلى هذا الجانب الرئيس من الأزمة الخانقة التي تعيشها البلاد، فحرصوا على الالتفات له والتفكير فيه، إذ هو الذي يجمّد الفكر ويكبّل العقليات؛ فلا تحرّر لها للكسب من أجل الصالح العام إلا بالجرإة على الاجتهاد للصالح الأعم، وهو الجانب الروحاني في هذا الدين. فميزة الإسلام الأولى أنه دين ودنيا، لا تفريق بينهما؛ وقبل أن يكون مجرد شعائر، الإسلام أساسا ثقافة وفلسفة حياة.
هل يجرؤ مثلا رئيس الحكومة المكلف بتكوين فريق جديد للحكم على إلغآء وزارة الشؤون الدينية لإلحاقها بوزارة الثقافة إشارة منه إلى الضرورة القصوى المتعيّنة لإعادة فتح باب الاجتهاد والإبداع في دين لا زال يغط في سباته العميق منذ اندثار حضارته. فقد وصلت الحال بهذا الدين إلى الغربة التي تنبأ بها صاحب الدعوة في حديث صحيح، والتي من شأنها، إن لم نتصدّي لها عاجلا، القضاء عليه آجلا في أهم ميزاته كإيمان روحاني إناسي، ودين علمي عالمي.