إنما السياسة الأخلاق!
لا سياسة حقة وناجعة فعلا بلا أخلاق، خاصة لمن يدّعي المرجعية الدينية لإحكام قبضته على رقاب الناس، إذ هو عندها لا سياسة له ولا دين؛ وهذا تمام الخسران.
لا بد من الإنتباه إلى ذلك في تونس وفي كل بلاد الإسلام؛ فلعله لا فائدة هنا من التذكير أنه من حق الإسلام السياسي، خاصة بعد أن قُدّر له أن يرتقي إلى سدة الحكم، أن تكون له المكانة التي يستحق على الساحة السياسية، بل وأن يفرض نفسه كغيره من الخصوم السياسيين.
الكسب السياسي للجميع :
تلك هي القاعدة في العمل السياسي، أي التدافع بالتي هي أحسن وللأفضل؛ ولا أفضل من الحُسنى في هذا التدافع بما أنه لا حق يُمتلك، بل الحقيقة، كل الحقيقة، هي هذا الأفق الذي يوجّه المرء وجهه نحوه، سواء كانت قبلة دينية أو مدنية. فلا اختلاف في أنها السبيل التي لا ينتهي السير فيها نحو تزكية النفس البشرية والكسب الآدمي، لأن الإنسان يبقى ناقصا أبدا، لا كمال له، أيا كانت أخلاقه ومحاسنه؛ فالكمال لله وحده.
إلا أنه من المعلوم اليوم أن ارتقاء الإسلام السياسي بتونس وغيرها من البلاد الإسلامية، كالشقيقة المغرب مثلا، كان جرّاء عملية محكمة الخيوط تمثّلت في هذا التحالف الفاضح بين رأس المال العالمي والحزب الإسلامي.
ولا غرابة في أن يتحالف تجار الدين مع ممثل التجارة الأول اليوم، أي رأس المال المتوحش. إلا أنه هذا يفرض على أهل الإسلام ألا يتصرفوا بنفس صفة التوحش التي تُميّز حليفهم بعد وصولهم إلى الحكم. فلإن برّرت الغاية الوسيلة نظرا لمقاومتهم لنظام ديكتاتوري كان العدو الألد للشعب، فلا مجال بعد نجاحهم أن يفسدوا دينهم بما يتعارض مع تعاليمه ولب لبابه، أي التزمت الفاحش وانعدام العدل والأخلاق. من الواجب إذن اليوم أن تبرّر الوسيلة الغاية بعد أن تحققت!
إن الساحة السياسية ليست حكرا على أحد؛ بل لعل النجاح فيها يتوفّر أكثر لمن كانت مرجعيته دينية، كما كان الحال بالنسبة للديمقراطيات االمسيحية بالغرب. لهذا، يبقى الإسلام السياسي أوفر حظا من غيره في النجاح في البلاد الإسلامية لما تمكّنه من حظوة قرب الجماهير مرجعيته الدينية؛ على ألا يتجاهل الأخلاق في السياسة، كغيره من الساسة!
ضرورة الأخلاق في السياسة:
كذلك كان الأمر بالنسبة لحزب النهضة بتونس خلال الانتخابات الحرة الأولى بها، إذ صوّتت أغلبية الناخبين له لا لكونه أفضل الأحزاب سياسيا ومنطقيا، بل لاعتقاد غالبية الناس أن توفّر الأخلاقية الإسلامية عنده أكثر من غيره. لقد كان الاعتقاد الشعبي أن ذلك من شأنه حمل الإسلاميين على التحلّي، خلافا للآخرين، بقسط أوفر من السماحة الأخلاقية مما يمنعه من الإضرار بالشعب والإفحاش في ذلك كمن سبقه في الحكم. ذلك هو الإسلام الحق، على الأقل عند معظم أهله، أي هو مسك اليد واللسان عن الإفساد في الأرض وبين الناس! وبديهي أن الحال كانت نفسها تماما بالمملكة المغربية مع حزب العدالة والتنمية الإسلامي.
إلا أن ما ذكّرنا به هنا من البديهيات لم يفهمه لا أعيان حزب النهضة التونسي ولا أهل العدالة والتنمية بالمغرب، إذ رأيناهم ونراهم يفعلون ما كان ضرورةً ممنوعا عليهم، لا من باب الحوكمة الرشيدة والسياسة الأخلاقية فقط، بل أيضا وخاصة من الزواية الإسلامية. فهم يمتهنون بكل وقاحة السياسة بصفة تجارية أصبح التغابن فيها من الحلال. لذا، كان تصرّفهم لا يختلف بتاتا عن غيرهم، بل وأفحش في ذلك لخرقه لتعاليم الدين التي يرتكزون عليها؛ بذلك حُق عليهم كما حق على غيرهم غضب الجماهير ونبذهم، عاجلا أم آجلا.
إننا اليوم في زمن ما بعد الحداثة، الزمن الجماهيري بلا منازع، لا سياسة فيه تنجح غير السياسة الجماهيرية، أي الآخذة بما يميّز الجماهير، وهو تعلقها بدينها كثقافة لا كشعائر ! فهذا ما حمل رأس المال المتوحش على انتهاج سياسة المزيد من التحالف مع أهل الدين المتزمت نظرا لاعتقاده الراسخ أن للإسلام السلطة المعنوية التي لا خلاص منها على شعوب البلاد العربية الإسلامية.
صبغة الإسلام الثقافية:
غير أن هذا التوجه، وإن نجح لحين، لا يدوم لما في أسسه من اختلال بين ما يفرضه الإسلام من أخلاق، نظرا لصبغته الثقافية، وما تحتّمه السياسة، خاصة تلك التي تدين لرأس المال، من النسف الصارخ لتلك الأخلاق ولثرائها الثقافي ومخزونها الحضاري.
وها نحن نرى بعد بداية جزر مد البارحة الذي سعى لجعل الإسلام، ملة الدين والمعاملات، أي الملة الثقافية ودين الأخلاق السامية بلا منازع، مجرد رأس مال متوحش! أليست تلك حال الوهابية والداعشية، أفضل حلفاء الغرب؟ لإن تعدّدت مظاهر الخداع لنفي الواقع، فليس هما إلا مجرّد إسلامٍ دعيّ لا بقاء له مسلّطا على رقاب أهله إلا بحد السيف وسلطة الدولار.
إن ميزة تونس، والمغرب الأمازيغي العربي بصفة أعم، لهي في هذا الإسلام الثقافي المتسامح، الصافي المنابع، أي إسلام التصوف الذي مثله ابن عربي الأندلسي خير تمثيل. لذا، لا مناص لأهل الإسلام النزهاء الذين رغبوا ويرغبون امتهان السياسة - وذلك من حقهم في دين الإسلام - من أمثال النهضة والعدالة واالتنمية، لا مناص لهم من العودة إلى الدين الإسلامي الصحيح، وخاصة إلى الأخلاق التي تميّزه، حتى ينجحوا في البقاء بسدة الحكم، ويكون ذلك بحق عن جدارة واستحقاق، فيه الخير لهم ولشعبهم قبلهم، بل للإسلام طرا.
ما من شك أن هذا يقتضي القطع مع تعاملهم الحالي في تصرفهم السياسي بقاعدة النفاق والكذب والبهتان، كل ما مثّله ويمثّله التعريف القديم المتهافت للسياسة الذي يفرض أن يكون من يمتهنها في نفس الآن ثعلبا محتالا وأسدا كاسرا وإن كان ذلك تمويها، كأن ينتفخ القط مبتغيا جزافا محاكاة صولة القسورة.
طبيعة الإسلام السياسي:
السياسة النزيهة في عصر ما بعد الحداثة هي في الأخلاق أولا وآخرا، لأنه زمن عودة الروحانيات وتنمية أفضل ما في الإنسان، أي خُلُقه. وليس هذا إلا التعريف الأسنى للإسلام، دين العدل؛ فلا عدل إذا ظلم المؤمن نفسه وغيره بانعدام الأخلاق فيه وفي كسبه اليومي.
طبعا، يبقى السؤال قائما عند البعض عن طبيعة الأخلاق هذه : ما هي وكيف تكون؟ سنعود لهذا بالتفصيل في مقالة الجمعة المقبلة؛ لنقل فقط هنا أنها غير تلك الأخلاق الدعيّة التي لا تهتم إلا بظاهر الأشياء، معتمدة في ذلك على فهم دغمائي مغلوط للنص الديني، كما يفعل أهل الجاهلية الداعشية وأصحاب التزمت الوهابي، فإذا بهم يحللون ما لم يُحرّم الله ويحرّمون ما لا يعجبهم ولا يروق لأهل الشوكة والسلطان في بلدانهم.
الأخلاق الإسلامية الصحيحة هي التي تبيّنها مقاصد الشريعة الإسلامية كما تقمصها أهل صوفية الحقائق. إنها في عدم ظلم الناس في أي شيء والقبول بالآخر، سواء كان مختلفا أو مؤتلفا مع المجموعة التي ينتمي إليها، في كل أموره كما هو وكما أراده الله واقتضاه طبعه وفرضته طبيعته الآدمية الناقصة ضرورة.
ويكون ذلك حتّى وإن خالف تصرف العبد المعتاد من التصرّف عند أغلبية الناس؛ لأن المعروف في عرف الناس هو المتعارف عليه طبعا، لكننا نعلم أنه يمكن للناس أن يتعارفوا لحين على خطأ فيه الظلم الفاحش الذي لا يقول به بتاتا الدين. كما أن المنكر ليس هو حقيقة ما ينكره الناس، وبعضهم، في زمن ما، بل هو ما ينكره كل الناس، لا بعضهم، وفي كل زمن لا في زمن ما.
ذلك لأن التاريخ يبيّن أنه كان ويكون الزمن الذي يُنكر فيه الناس أخلاقا صحيحة لا طعن فيها، كما نرى مع داعش مثلا. وهذا يخالف ما في ديننا من تعاليم أزلية صالحة لكل زمن ولكل مكان؛ وها هو يكاد يصبح غريبا لتمنر أهله لما فيه من أخلاق التسامح والإناسة! وللحديث بقية يوم الجمعة القادم.
نشرت على موقع أنباء تونس