كرة القدم والهوية.. ما بينهما من قطيعة
تشد انتباه الجماهير هذه الأيام مباريات كأس الأمم الإفريقية لكرة القدم؛ ولعلها كأس أصحاب الدنانير لا الأمم، خاصة بقارتنا التي تعاني فيها الشعوب من الفقر المدقع وترزح تحت ويلات الحروب الظالمة. فعن أي أمم نتحدث، وهل يتبارى اللاعبون حقا لأجل الهوية وراية أوطانهم كما تعتقد الجماهير ؟
الورطة الهوياتية :
لا شك أن الفقر والحرب لا يمنعان تعاطي الرياضة، إذ من شأنها تخفيف وطأتهما أو الحث على نسيان الواقع المرير، بل وأيضا تنمية مشاعر الأخوة بما في الروح اليلاضية من مزايا.
لكن هل بقيت تلك الروح في الرياضة، وعلى رأسها كرة القدم، مع استشراء المال في ميادينها؟ هل ما زال اللاعبون اليوم حقا يتنافسون باسم البلد الذي ينتمون إليه لرفع رايته لا لدوافع أخرى؟ وهل للبعض منهم ذرة وطنية واحدة نظرا لانعدام معرفتهم الحقيقية لبلدهم بعدم العيش فيه، ولعل العديد منهم لم يولدوا به ولا وضعوا أرجلهم به قط؟
المعلوم الذي لا شك فيه، بغض النظر عن الجنسية والأصول الهوياتية، أن همّ أغلب اللاعبين اليوم، وهم من المحترفين، غير الهوية، إذ ينحصر على ما يترتّب لهم من مهنتهم ككل حرفي، أي الأموال والهدايا، علاوة على الشهرة، عند النصر. وهذا من البديهي المنطقي بما أنهم يعيشون من حرفتهم وبما تدره لهم من أموال.
لذا، فلا غرابة إن كانت غالبية اللاعبين المتواجدين بالغابون من 14 جانفي إلى 5 فيفري لا تمثل حقا شعوبها بالرغم من أن الكأس تمثل الأمم الإفريقية؛ فهم في معظم الأحيان من المحترفين المقيمين بالغرب الرأسمالي، ومن االطبيعا ألا يعيروا حقا أهمية للانتماء الوطني. هذا، علاوة على ما نعلم عن العقلية المادية التي يفرضها المجتمع المادي خاصة في ميدان الاحتراف، وضرورة تغليبها على كل اعتبار آخر، وبالأخص إن كان من النوع العاطفي؛ فلا عواطف مع الماديات !
العلاقة بين اللاعب الإفريقي اليوم عموما ليست وثيقة، فهي سطحية جدا إن لم تكن نظرية؛ ولربما هي منعدمة تماما. فلا يكفي حمل الجنسية، التي لعلها تنضاف إلى أخرى أو أخريات، لخلق الحس الوطني؛ بل هذا، في أفضل أو أسوأ الحالات، من شأنه توفير الأرضية لأزمة في الهوية حين تبقي الماديات على الضمير حيا عند اللاعبين المحترفين.
مقتضيات الهوية :
إن الهوية، هذه المجموعة المتناغمة من المركبات الذاتية التي تمكّن الفرد من التعريف بنفسه من خلالها، هي أولا انتمائية وثانيا مكتسبة جرّاء هذا الانتماء. بذلك هي أولا وآخرا معرفة الذات وكنها؛ وهذا لا يكون إلا بصفاء في الشخصية وانعدام للتذبذب فيها، بل والتفكك والتشوش إلى حد الانفصام.
هذا، وقد علمنا إلى أي مدى من التشوش وصلت إليه الشخصية المغرلية عندنا؛ ولعل اللخبطة القيمية التي نعيشها أكبر الدليل عليها. وذلك ما نجده على ملاعب كرة القدم اليوم وإن لم نتحدث عنه إلا قليلا أو جانبيا.
الكل يعلم، مثلا بالنسبة للفريق الجزائري، وقد ذكّر العديد بذلك بعد الهزيمة الأخيرة أمام الفريق التونسي، أن الفريق الوطني بلا روح. بل لقد تجرّأ بعضهم فقال أن لاعبي المنتخب بلا وطنية لأن الكثير منهم ولدوا خارج الوطن، فلا يعرفون ثقافة بلدهم ولا النشيد الوطني ولا اللغة.
ولا شك أن هذا من باب ما يمكن نعته بالترويح على النفس والتنفيس عن الكبت؛ فأبناء شعوبنا، خاصة بالجزائر، لهم الباع الكيبر في مثل هذا الميدان، إذ من عبقيرتهم التنكيت للتعبير بصفة لبقة عن إحباطهم أو غضبهم. ذلك حقا الإبداع الشعبي الذي لا مثيل له، وهو أقرب إلى بلاغة صاحب رسالة التربيع والتدوير منه إلى السخرية أو القدح والشتم.
فعقب انتصار تونس على الجزائر، قالت الجماهير الجزائرية أنه كان انتصارا بسبب لعب أبناء الفريق التونسي لأجل الوطن والعلم، بينما قالت الجماهير التونسية عكس ذلك عند انهزام فريقها في المبارات السابقة أمام الفريق السنغالي، أي تماما نفس الذي تقوله الجماهير في الجزائر عن الجزائريين بعد هزيمتهم الأخيرة : فالفريق الجزائري بلا هوية عند الهزيمة كثا الفريق التونسي الذي يسترجع تمام هويته عند الانتصار !
لقد بينا أن اغلب اللاعبين الجزائريين لا يقيمون فعلا في بلدهم إذ أغلبهم ولد في فرنسا، والأمر نفسه بالنسبة للتونسيين، ولو كان بنسبة أقل. لكن هل هذا ه، السبب الوحيد أو الأهم في الخسارة؟ هل يشكك أحد في القيمة الفردية للبعض من لاعبي الجزائر ومهارتهم؟ أليست الهزيمة تتجاوز اللاعبين بل كل المنتخب إلى ما هو أعظم والمتسبب في تعاسة منظومة ظالملة ليس من شأنها إلا خلق شعب وجماهير مظلومة ؟ ثم لو كان مجموع لاعبي الجزائر من المحليين، ما كانوا يفعلون يا ترى؟
الهوية والوازع المادي :
نعم، إنه من المشروع التشهير أو رفض أن يتحوّل اللاعب القادم من وراء البحر عند الشبيبة الجزائرية إلى رمز للبطولة في الأذهان، لكن لا بد من الاعتراف بأنه لا ذنب له في الخسارة وفي الأوضاع المتردية التي عليها كرة القدم بالجزائر، بل في كل القارة الإفريقية.
ليس من العدل عدم الاعتراف بحق اللاعبين المغتربين، رغم ما قلناه من ضرورة اللحمة بين الأرض وأبنائها، في انتمائهم الوطني، وخاصة التشكيك في وطنيتهم؛ فلعل حبهم لوطنهم أكبر من حب الكثير ممن ولدوا وترعرعوا وماتوا بالوطن. ذلك لأنهم عرفوا المهجر، ونحن نعلم أن البعد والبين يزيدان في الحب، إن كان صادقا طبعا.
المشكلة الحقيقة ليست هنا، بل هي في المنظومة التي تنصهر فيها لعبة كرة القدر ببلادنا وخارجها. فإن كانت الهوية الرابط المعنوي بين المواطن والبلد الذي ينتمي إليه، فهي أساسا في تلك الأواصر العاطفية التي تنمّيها علاقات عدة، منها الروابط العائلية ومنها الذكريات بأرض الوطن، ومنها خاصة هذا الحب الذي يحمله الفرد إلى إخوته في الجنسية، تماما كالذي يكنّه للأخ وللأخت من الأبوين. وهذا لا يرتبط ضرورة بالتراجد على أرض الوطن، إذ أن أبناءه في كل صقع متواجدون، وخاصة على الأرض الفرنسية.
هل نجد هذا في الفرق المتبارية في كأس إفريقيا الأممية لكرة القدم؟ بغض النظر عن مكان ولادة اللاعبين، ليس هناك شك أن الجماهير التي تهتز في البلدان الإفريقية للمباريات تسعد بتألق من يمثلها وطنيا، ولو فقط على الورق، وتحزن عند الخسارة؛ ذلك أنها لا تشك لحظة في حسهم الوطني وإن كان منعدما، لإن شككت الخسارة في وجوده، فالربح يؤكده بل ويخلقه حتى من العدم .
وهل تكون الحال نفسها لو علمت هذه الجماهير حق العلم أن الوازع عند العديد من اللاعبين، بل وحتى عند المنظمين للكأس، ليس إلا الربح المادي، لا الحس الوطني ؟ إن القضية إذن ليست قضية هوية بل هي في هذه النزعة المادية الطاغية اليوم على الرياضة، وبخاصة كرة القدم لشعبيتها.
السؤال المطروح هو هذا : هل بإمكاننا العمل اليوم على دعم الحس الوطني قي مثل هذه المناسبات الهامة، علي الأقل على المستوى القاري التي تقام على تباري الأوطان؟ كأن نعمل مثلا على إعادة روح الهواية فيها بأن نطرح جانبا منطق الأرباح والأموال لجعل الفوز لا يتم تقديره إلا بشرف اللعب لأجل الوطن وتمثيل أبنائه، هذه الجماهير الغفيرة التي يسعدها لا محالة إعلاء راية وطنها دون خلط مثل هذا الشرف السني بالدواعي المادية؟
ولئن نجحنا ولو مرة في مثل هذه الثورة العقلية المستبعدة، هل يمكن استدامة إقامتها على أساس مبدأ الهواية هذا؟ وبعد، هل بالإمكان استدامة الكأس الإفريقية على حالها اليوم لو انعدمت الأموال فيها ومنها للمشاركين، سواء كانوا من اللاعبين أو من الأمم؟
نشرت على موقع نفحة