من أجل ديبلوماسية مغاربية عليمة في 2017
2|2
هذا الجزء الثاني من المقالة بعد أن بيّنا في أوّلها ماهية الديبلوماسية وكيف تأخذ بروح الجامعة فتكون عليمة نظرا لرهانات الزمن الحاضر.
التحدّي العلمي للديبلوماسية المغاربية :
هذا ما يجب أن يدأب عليه ديبلوماسيو البلاد المغاربية خاصة اليوم والعالم أجمع في أحلك فتراته حتى يكونوا كهؤلاء الأبدال الذين يتحدث عنهم الإسلام الصوفي، أصحاب كلمة الحق في فترات النفاق، وأصحاب سبيل السواء في زمن الظلمات للعودة إلى المعين الذي لا ينضب. ولا شك أن هذا المعين هو في الحفاظ على الصلة متينة بين الفعل والعلم، بين النظري والتطبيقي، بين ما يتفتّق عنه العقل المفكر والذهن المدبر وما يطبقه الفعل الحصيف.
لقد كانت تلك حال أهل العلم الفهيم المغاربي منذ القديم، ولا شك أني لا آتي بجديد إن قلت أن العديد من الديبلوماسيين المغاربة امتهنوا فنهم، لا فقط مباشرة بعد انتهاء دراستهم العلمية، بل دون الانقطاع عن بحوثهم العلمية، إذ واصلوا الاتصال بالجامعة وهم في خدمة الإدارة، فكان لهم أفضل العطاء سواءً للعمل الديبلوماسي أو للبحث العلمي. إلا أن هذا لم يدم، فهذا الزمن ولّى بقاعدته التي لا محيد عنها، ألا وهي الحرص كل الحرص على التوفيق بين العمل الناجح المتقن الإداري والبحث العلمي العالي الكعب لاختصاصه، فلم تعد الجامعة المغاربية ولا وزارات الشؤون الخارجية ببلدانها تنتفع بمثل هذا العلم العملي والعمل العلمي العليم.
فهلا أحيينا ذلك الماضي التليد إذ لا تُعدم إداراتنا اليوم من الكثير من الطاقات النيّرة القادمة من الجامعة، حاملةً معها كل ما يمنع الذهن البشري في إدارتنا من التحجر والتقوقع؛ إلا أنها لا تجد الحوافز التي تمكنها من استدامة العمل والإفادة والاستفادة؟
لا أهم من قيمة البحث العلمي في التوجه العام للسياسة الخارجية عامة، و تلك هي الحال بالبلاد المتقدة، الشيء الذي مكّن وزاراتها أن تكون الصرح الشامخ الذي نعرفه من ديبلوماسيات عتيدة لعلها تعرف الأرضين الأجنبية أكثر من أهاليها، لما تأصّل بها مما غرسته في عاداتها التليدة النزعة العلمية التي من شأنها بعث هؤلاء الأفذاذ من الديبلوماسيين ذوي الزاد الذي لا غنى عنه.
لا شك أن في أتعس أوقات السياسية، كالتي تعيشها بلداننا اليوم، ليس لهذه من جنةً تحميها أفضل من الروح العلمية وهذا التعطش للعلم والتطلع لمستجداته وفتوحاته في كل الميادين. فليس أنجع لرفع كل العراقيل التي كدّستها صروف الدهر أمام البلاد المغاربية من مثل هذا التوجه العليم للشهائدية، أي ديبلوماسية الشهائد العلمية.
لذا، لا مناص من الدعوة الملحّة كضرورة مستعجلة إلى تمتين العلاقة بين وزارات الخارجية بالبلاد المغاربية والجامعات العلمية بها بعيدا عن المواضيع المرتبطة بصراعات الزمن الراهن. يكون إلا بربط العلاقات الوطيدة بينها في جميع ميادين الديبلوماسية العديدة والمتنوعة من الزواية العلمية والبحثية البحتة حتى لا ينعدم التحليل الأكاديمي للتصرف الإداري ولا يتحجر البحث العلمي بالتقوقع النظري لانعدام المقاربة الأكاديمية والممارسة الميدانية. ففي هذا وذاك التنوير اللازم للخروج من مآزق الأيديلوجيات الضيقة.
هلا سعينا جاهدين وفي أقرب الأوقات إلى عقد الاتفاقيات الإطارية الضرورية للبحوث النظرية والتطبيقية بين الجامعات المغاربية داخل كل بلد وخارجه والديبلوماسية القطرية مما يمكّن من انبثاق اتفاقيات تطبيقية يسهل توقيعها بين مختلف مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي والمصالح الديبلوماسية، بما فيها السفارات والقنصليات بالخارج؟
هذا، ولا شك، مما يخوّل فيما بعد، لا فقط عقد اتفاقيات مع الطلبة والباحثين المغاربة، بل وأيضا التعامل بالمثل مع المؤسسات التعليمية الأجنبية، خاصة تلك التي لها من التجربة ما علينا حتما الأخذ منها والانتفاع بها. ومع توفر الآلية القانونية، يمكن عقد الحلقات الدراسية المنتظمة بين الكليات والوزارات والمعاهد الديبلوماسية للتعرض لجميع مشاغل الشؤون الخارجية من جانب البحث والمناقشة والاستقراء.
في هذا النطاق وتوازيا معه، تسهل أيضا برمجة المحاضرات التي للنخبة من الديبلوماسيين المحنكين من سائر البلاد المغاربية إلقاءها، سواء ممن لا يزال في خدمة الوطن أو ممن أُحيل بعد على التقاعد من قدماء السفراء والقناصل العامين، لما لشهادتهم ونظرتهم للأمور من قيمة وأهمية. ويمكن أن يندرج هذا النشاط في خانةٍ أوسع من التضامن الوثيق بين الجامعات والوزارات تتمثل في دروسٍ مشتركةٍ من شأنها أن تؤشر مستقبلا لبعث شعب ديبلوماسية في الاختصاصات الجامعية.
كما من شأنها التمكن من المرور لتجربة علمية هامة هي التأطير الثنائي للعمل الجامعي cotutelle سواء على مستوى البلد الواحد أو على المستوى الدولي؛ وهذا من شأنه إتاحة الفرصة للطالب الباحث أن يُردف الأستاذ المؤطر لبحثه بديبلوماسي يتم اختياره لتجربته في موضوع البحث وعلو كعبه فيه. كما لا شيء يمنع عندها من قَبول المتدربين بين الطلبة المتفوّقين، وخاصة في المرحلة الختامية من بحوثهم، حسب مواضيع بحثهم في الإدارات الوطنية وغيرها من البلاد المغاربية؟
بل لا مانع أيضا من فتح الأرشيف الديبلوماسي بكل بلد في حدود عدم تجاوز الحد الأدنى للحفظ خارج المجال العام من أجل المصلحة العامة (عادة 30 سنة) حتى يتمكن الباحث من دراسة تاريخ البلاد المغاربية منذ الاستقلال. بذلك، يتمكن الباحثون من أساتذة وطلبة، بفضل مثل ذاك المخزون العلمي الهام المكنوز من التراث الديبلوماسي، الاستفادة والإفادة به في بحوثهم ومنشوراتهم؛ ولعمري تلك أفضل وسيلة لاستعادة الماضي وإحياء الذاكرة فتصحيح الشخصية المهتزة.
الديبلوماسية المغاربية اليوم وغدا:
للأسف، ما يمنع كل هذا اليوم في أغلب البلاد المغاربية، إن لم تكن كلها، هو انعدام الآليات القانونية الفاعلة لذلك إذ بقي التوجه العلمي للوزارات بها، رغم وجوده، لا صفة رسمية له، فلا استدامة إلا عند تواجد النيات الطيبة.
لذا، لا بد من تجذير مثل هذه الروح حتى تصبح الصفة الثانية لديبلوماسية بلاد المغرب العربي الأمازيغي أي العلمية، إضافةً لصفتها المتزنة لانفتاحها على العالم طرا بتعقيداته وإكراهاته، إذ لا قيود بإمكانها أن تُرفع لديبلوماسية عليمة.
بذلك، من شأن هذا الجانب من العالم العربي، في زمن ما بعد الحداثة الذي أظلنا، أن يحدث الاستثناء السياسي للخور العربي المهيمن؛ وهو، بلا شك، في نشأة جديدة تجددة تكون مستدامة للأفضل. فقد كانت بلاد المغرب، كما سبقها إلى ذلك الشرق الإسلامي، حداثة قبل أوانها قبل أن تغرب، لأنه لا استدامة لما لا يُستأنف بعد كل انقطاع، فليس للدوام أزلية في الوضع البشري، الذي هو حياة فممات فنشأة متجددة حسب ما يقي من تراث تليد يقع إحياءه أو العودة إليه.
لا شك أن هذا يتم خاصة بتمام السهولة أو بسلاسة إذا كانت الأسس سليمة رغم تهدم البنيان أو تهتكه لحدثان الزمان. وبديهي أن يساعد على ذلك متانة الروابط بين الإدارة والجامعة حتى تكون الإدارة جامعية أو جامعة وتكون الجامعة إدارة حية متغلغلة في ظروف الواقع المعيش لا منقطعة عنه في برجٍ عاجيٍ لا مجال له بعد في بلدنا وزمننا الراهن، زمن الجماهير بامتياز.
إنه لا مناص للعمل على إعادة الحياة لديبلوماسياتنا من العودة بها إلى المدارس والمعاهد والجامعات. بذلك يمكن القول لاحقا أن الديبلوماسية المغاربية تعيش زمن المضارع السياسي. ونحن نعلم جميعا أن لتصريف الفعل في العربية أزمنة، لعل أهمها زمن المضارع، أي الزمن الذي يبيّن عن ابتداء الفعل وتواصله. وهو يقابل زمنا معروفا في اللغة الأنغلوساكسونية، أي ما يسمّى ing form أو المضارعة عربيا.
إننا اليوم نعيش زمن المضارعة على جميع الأصعدة، خاصة السياسية منها، سواء كان ذلك على مستوى الفعل عامة، أيا كانت صفته، وخاصة سياسيا، أو على مستوى روح الفعل وصبغته إذ هي صبغة أمريكية لا شك فيها، أي أننا في غرب شرقنا هذا نحيا، أحببنا أم كرهنا، على وتيرة العقل الأمريكي، وهو هذا العقل التي يتميز ببراغماتية لا أحد يشك فيه، وهي المضارعة النحوية العربية. فكيف يمكن أن يتجلّى زمن المضارع السياسي هذا وما هي أهم ملامحه في ديبلوماسيتنا ؟
كما نعلم، الفعل المضارع هو الفعل الذي يدلّ على واقعة أو حدث يجري في الزمن الحالي والمستقبل خلال زمان المتكلّم، وهذا هو الميدان الديبلوماسي، إذ همّنا لهو الحاضر الآني والقادم المستقبل. ولكلّ فعل مضارع فاعل قد يكون ظاهراً أو مستتراً؛ كذلك الشأن للديبلوماسية، إذ لها من يتقمصها ظاهريا أو متسترا. وطبعا يبقى الفعل الديبلوماسي ما اختص بميدانه؛ إلا أنه لا يكون فاعلا بحق إذا لم ينقطع، إضافة على ثوابته وأسسه، عما يحييه ويجدد فعاليته بالبحث والاجتهاد العلمي، أي بعدم الانقطاع عن الجامعة.
ونحن في الديبلوماسية، إذا متّنّا الرابطة مع البحث العلمي فجعلناها عليمة، كمن يتفنن في لغته بدوام الاعتماد، لا فقط على القاموس، بل وأيضا على الموسوعة. ولعله لا يجب التردد هنا في تبنّي مقترح إيمبرتو إيكو في في كتابه علم الأعراض (أو علم دلالات الأعراض) وفلسفة اللغة Sémiotique et philosophie du langage لتوظيفه للميدان الديبلوماسي. هذا المقترح يتلخص في الاعتماد على الموسوعة بدل الاعتماد على القاموس رغم أهميته في الميدان اللغوي.
حسب هذا الاختصاصي الكبير، إذا كان القاموس يمنح المقابل الموجود للفظة ما، فإن الموسوعة تمكّن من معرفة الكيفية التي يرتبط بها الأفراد داخل ثقافة معينة بهذا اللفظ؛ وكذا لا فقط أنماط التأويل الحياتي للعلاقة القولية بالأشياء، بل وأيضا أنماط التصرفات السياسية من الزاوية الديبلوماسية.
فكما الموسوعة للعالم اللغوي هي النظام الثقافي الذي ينهل منه كل نظام رمزي دلالته واستعارته، ومن ثم الإطار الذي يسمح بالفهم، فهي في هيئة العلاقة المستدامة بين الإدارة والجامعة هذا الزخم من المعرفة والثراء من المفاهيم الذي يعطي ما يفتح على مصراعيها الأبواب السياسية الموصدة أو للاقتراب من حل طلاسم التصرفات المبهمة وذلك بإعادتها لتيربها terreau وهو النظام الثقافي الصادرة عنه الرموز الثقافية التي تؤسس له.
إن اللاوعي الجماعي inconscient collectif والمتخيل الاجتماعي imaginaire social من أوكد ما يجب معرفته اليوم للغوص في مكنون السياسات الخارجية للدول؛ فهما بمثابة منبع سيل السياسة وعين الديبلوماسية الفوّارة. فلا شك أن التجربة الشخصية والحنكة السياسية والديبلوماسية لا تكفيان، إذ تحتاجان دوما للثوابت العليمة والابتكارات العلمية التي من شأنها دعم التخمينات الحدسية التي بيّن باشلار أهميتها في الميدان العلمي نفسه.
ولنعد لإيكو للتذكير أنه يعرّف كلاّ من القاموس والموسوعة بقوله : «القاموس لا يتضمن سوى المعلومة التي سيحصل عليها مستعملٍ مثاليٍ في حالة بعثه لرسالة مجهولة» في حين «أن الموسوعة بمثابة مكتبة المكتبات بالمعنى الذي تكون فيه أرشيفا لكل المعلومات غير اللفظية المسجلة بكيفية أو بأخرى».
كذلك الشأن في الميدان الديبلوماسي؛ فلئن انتهجنا سبيل صاحب كتاب «سرديّة الوردة»، يمكننا القول أن الديبلوماسية العادية، أي تلك المنقطعة عن الأفق الجامعي، هي المتضمنة على السياسة الحاصلة من طرف مستعمليها دون أي تأكد من موافقتها للسياسة الصادرة من طرف من استُعملت معه، فهي كالقاموس نفتحه للحصول على المعلومة أو حتى نتأكّد من صحتها لا أكثر.
أما الديبلوماسية المتجذرة في المحيط الجامعي، أي الديبلوماسية العالمة أو العليمة، فهي كالموسوعة، إذ أن المعلومة لا تأتي وحيدة، بل هي في هيئة أرشيف متكامل ومهيئ للاستعمال، تماما كما هي الحال مع القاموس، إلا أننا نحصل على ما نبحث عنه وزيادة.
بهذا، يكون الموضوع أيا كان تام الصفات، متكاملا، كما في حال صورة أو لوحة رسام كبيرة، ما يسمّى مثلا بالثلاثية في الأثر الفني triptyque يمكن الاكتفاء بجزء أو تجزئة détail لا يمثل كل الرسم أو الرسم بأكمله.
تلك هي الديبلوماسية التي تعطيها روافدها العلمية من ثبوت الفكر وصحة الرؤيا ما يمكّن من الاستشراف الآني، فإذا هي كمن يقرأ في كتاب مفتوح سياسة من يتعامل معه. فإذا نحن عندها لا نسارع في التأقلم مع سياسة الغير دون معرفةٍ بكنهها، كما يفعل البعض منا اليوم في بلدان العالم الثالث.
بذلك، من شأننا أن نعمل على أن يسارع الغير للتأقلم مع سياستها لأننا نسبقه بما عندنا من معرفة علمية جامعية عنه وعن جذور ثقافته يعيننا على تفكيك محركات سياسته ودوافعه وفهمه للعمل الديبلوماسي، تماما كما هو فاعل اليوم، خاصة من جانب الدول التي لها االباع الكبار في العمل الديبلوماتي المعقلن علميا.
بهذا نكتب حقا للتاريخ الجديد في عالمنا المتجدد، إذ مات عالم الأمس بما ميّزه من حداثة في زمن ما بعد الحداثة الذي هو أيضا زمن ما بعد الديمقراطية القديمة. وهذا الزمن من شأنه أن يُكتب اليوم بمغربنا، حتى يكون مجددا أرض الإبداع وبلد الإمتاع والمؤانسة.
هذا هو التوجه المتحتم لسياستنا الخارجية المغاربية، أي الاتجاه الثقافي الصحيح الذي من مؤدياته وحتمياته الأخذ بعين الاعتبار بدينامية السياسة والدينامية العميقة للمجتمع، أو بصيغة أخرى الصلة بين المتخيل الديبلوماسي حسب ممارسته الفعلية والمتخيل الاجتماعي حسب دراسته العلمية. مع العلم أن المتخيل الذي لا محيد عنه اليوم لفهم الأمور هو الفضاء المشكّل من الكيفيات المتعددة التي يهبها الانسان المعنيّ للأشياء قصد تملّكها دلاليا وماديا. إنه المجال الذي يتعالى به وفيه عن طبيعته الحسية، وكذا عن حسية ما يحيط به، نحو التصور والمتمثل والترميز.
بهذا من شأن ديبلوماسيو الغد بالمغرب الأمازيغي العربي أن يكونوا جنود نهضة جديدة إذا هم بحق علماء الديبلوماسية وجامعيو المعرفة العلمية العالمية، أوفياء لأصول هذه الأرضين المعرفية ومنابع علمها التليد. فهم عندها في خدمة الذات المغاربية في ثرائها كجزء من الذات البشرية المتطلعة أبدا للأفضل؛ ولا يكون ذلك إلا في محيطٍ سلمي مسالم. فهل أفضل من السلام المادي لضمان السلام الروحي؟ أليس هذا ما يميّز أخص خاصة دين البلاد، ألا وهو الإسلام، الذي هو السلام أولا وآخرا؟
نشرت على موقع نفحة