من أجل ديبلوماسية مغاربية عليمة في 2017
1|2
هذه سنة تولّي وأخرى تأتي، ولا من جديد في ربوع مغربنا الأمازيغي العربي لأسباب عدة، أهمها السياسة وما كثر فيها من مساويء. فهلا عملنا في 2017 على الخروج منها وقلبها من السياسة البهيمة الحالية إلى سياسة عليمة فهيمة؟ هلا اعتمدنا في ذلك على العلم وفتوحاته لعلّنا ننقذ شخصيتنا المغاربية المضطربة من التشويش الذي ينهشها فيجعلها على هذه الهشاشة التي هي عليها، لا تبقي على خير ولا تذر صالحا للناس؟
كيف الخروج من هذا الاهتزاز الذي ليس سببه انعدام الثراء التاريخي والحضاري التليد، بل شدة زخمه إلى حد التخمة عند البعض وانعدام ما يفرضه ذلك من هضم واستغلال حكيم حتى لا نكتفي، في أفضل الحالات، بالاجترار كالبقر؟
لعل مثل هذا الخروج من تلك التعاسة المحزنة في 2017 له أن يصبح حقيقة إذا حرصنا كل الحرص على حصر جهودنا أولا وقبل كل شيء في إحدى أهم تجلىات الشخصية المغاربية، ألا هي السياسة الخارجية أو ديبلوماسية البلاد المغاربية، كاسينها العلمية التي تسمح بها روحها الرافظة لكل تزمت وتحجر.
بذلك يسهل إخراج السياسة العامة من المأزق الحالي الذي فيه بلداننا وساستنا مع الإهدار الكبّار للمصالح العاجلة للشعوب والآجلة لأوطانها، إذ لا ييقى إلا ما ينفع الناس وتذهب جفاء المصالح بأهلها، أيا كان نفوذهم.
وحتى يكون طرحنا هادفا لما يهدف إليه من موضوعية في التعامل الديبلوماسي، نقصر الحديث فيه على الجوانب النظرية التي من شأنها أن تجمع الشمل ولا تفرّق. لذا، لن نخوض في القضايا المعهودة التي هي أصل الداء، لا في حد ذاتها أو لمجرد مصالح جانب أو آخر، بل في أغلب الأحيان لانعدام الموضوعية الكافية في التصرف والحس العلمي الشافي في التعاطي معها.
في الديبلوماسية :
مغربنا اليوم بأمس الحاجة إلى أن تكون الديبلوماسية فيه، سواء بالمعنى الاشتقاقي للكلمة أو ما آلت إليه في الاستعمال اليومي، عليمة بمعنى عالمة وعلمية، بذلك تكون فهيمة compréhensive
نحن نعلم جيد العلم أن أصل المفردة لاتيني، وهو من الشهادة أو الديبلوم، إذ هي مشتقة من ديبلوماتيكيس diplomaticus؛ فهي، إذا عدنا إلى لاتينية آخر العهد الوسيط، بمعنى ما يتصل بالوثيقة الرسمية؛ أما إذا اعتمدنا اللاتينية الامبراطورية، فالكلمة تعني الوثيقة أو الشهادة الرسمية : ديبلوما diploma.
لعل الترجمة الصحيحة للتعريب المفرنس للديبلوماسية، إذا ابتغينا احترام أصول لغة الضاد وترك المفردة التي فرضها الاستعمال بالركون إلى التعريب، تكون الشهائدية أو سياسة الشهادة أو الوثيقة. والكل يعلم أنه لعربيتنا من الاتساع ما يمكّنها من مثل هذا الابتكار، بل من المزيد مما فيه ذكاء الاستنباط وعبقرية الابتداع بل والإبداع؛ خاصة وأن لمعنى كلمة الشهادة لغةً وفقهاً ما لا يمنع هذا البتة.
فالشهادة في لغة القرآن، كما هي في فقه الإسلام، الإعلام والحضور، وهي الخبر القاطع، كما يقول الجوهوي، أي الذي يأتي من المشاهدة والمعاينة. نقول : شهد الرجل على كذا بمعنى حضره، فهو شاهد أي حاضر. وهي أيضا، دينيا، الإخبار عن أمر حضره الشاهد وشاهده. والشاهد هو الشهيد، أي المخبر ، أي العالم الذي يبيّن ما علمه، وهو فعيل من أبنية المبالغة في فاعل.
هذا هو كنه الديبلوماسية الحقة ومعناها المكنون؛ فهي، في أفخر تعريفٍ لها، علم وفن التصرف في العلاقات السياسية الدولية، خاصة لتمثيل، فالدفاع، عن مصالحها خارج أرضها.
ولا شك أن العلم والفن في التصرف يحتاج إلى مهارات وخبرات، لا شك أن أهمّها التمكّن من المعلومة السياسية الثابتة وحسن التصرف فيها على أفضل وجه حتى تكون الخبر القاطع والنشاط الفاعل الفعّال بين الدول رعايةً لمصالحها وتفهمًا لأوضاعها وتطلعاتها.
في الجامعة :
إننا بتأكيدنا على هذه الصفة المكينة للديبلوماسية ووثوق تعلق معناها بالشهادة العلمية وبالجامعة Université بصفة عامة، وهي التي لها الأهلية لتسليمها، فذلك من باب القناعة بما فيها من روح علمية عالمية، ولما يتعين وجوبا أن تبقى هذه الروح فيها؛ وإلا فالديبلوماسية تصبح تماما كالجسد الذي فارقته الروح، فإذا هو لا جثة هامدة فقط، بل تلك الجيفة التي سرعان ما يصير إليها.
كلمة الجامعة، كما يعلم الجميع، متأتية من اللاتينية الكلاسيكية إينيفرسيس universus أي ما يكوّن الشيء بأكمله أو يجعله متكاملا qui forme un tout. أليس من مقاصد الديبلوماسية مثل هذا السعي لجمع الأمور بسياسة وحكمة تُؤلف المختلف وتجعل من الاختلاف ائتلافًا لتمام التماهي بين الدول والتناغم في سياسة فهيمة politique compréhensive تتطلع دوما للأفضل، لا للأسوأ؟
هذا الأفضل هو الاحترام المتبادل والأخذ الحصيف بمصالح كل الأطراف مع التوقير التام لبعضها بعضا كشركاء للكسب الخيّر والعدل والإنصاف، لا كسيّد ومسود لأجل الظلم والحيف والجبروت؛ فهل نبتغي غير هذا في مغربنا من بلداننا التي فرقتها الضغائن السياسية؟ ألم يحن الوقت لعودة الضمير؟ فالسياسة بلا ضمير كالبهيمة التي تموّه بإناسة ليست لها.
الديبلوماسية العليمة :
لا شك أن في مثل ذلك التجميع والتوليف أقصى مظاهر السياسة الفهيمة الحصيفة، إذ هي تغوص إلى داخل الأمور بموفور الفهم والتفهم أي perception ؛ ونحن نعلم أن معنى هذه الكلمة في الأصل اللاتيني perceptio هو الحصول والتنمية recueillir ، وهو حسب الأصل recolligere يعني التجميع rassembler الذي أصله اللاتيني : وضع الشيء مع بعضه : mettre ensemble. أليست هذه، مرة أخرى، روح الديبلوماسية الحقة؟ وأليس ذاك مطمحنا بمغربنا؟
هذا، ولئن ظهرت كلمة الديبلوماسية بمعناها الحالي بأوروبا في نهاية القرن الخامس عشر، فذلك طبعا لا يعني انعدام الديبلوماسية قبل ذلك، وقد عرفتها الحضارات السابقة بما فيها الحضارة العربية الإسلامية. إذن، لعلنا لا نخطئ إن قلنا أن الإنسان، كما هو اجتماعي بطبعه، لهو أيضا ديبلوماسي على السليقة لحاجته الماسة لغيره، وفي نفس الوقت للدفاع عن نفسه وعن مصالحه. وكما قالها الشاعر الفرنسي الموهوب رامبو:«أنا هو الآخر»، فالديبلوماسية هي الخاصية الأساسية للتمدن والحياة المجتمعية.
لذا، الديبلوماسية الناجعة الناجحة اليوم لهي بحق ديبلوماسية الأنا والآخر، أي تتشارك في الأهداف والمبتغى، أي العلاقة السلمية السليمة مع احترام الثوابت والمصالح المختلفة لكل واحد؛ وهذا أقصى الإبداع والنجاح إذ يتم رغمًا عن اختلاف الانتماءات والنوازع والمسببات. وهو من النموّ المبارك، إذ كما زاد المجتمع تطورا وارتفع كعبه في التمدن والتحضر، زاد علو ديبلوماسيته في الرقي والرونق والبهاء بمثل هذا التوجه العلمي العالمي في تجلياته مع التجذر في أصالته.
هذا ولا شك التجذر الحيوي enracinement dynamique الذي به دوام التقدم للأفضل وللبشرية قاطبة في عالمنا اليوم الذي أصبح دون أدنى شك عمارة كونية immeuble planétaire.
ذلك لأنه بالإمكان تماما تعريف الديبلوماسية الحقة بأنها عقلنةً للسياسة بروح العلم وفتوحاته؛ وبديهي أن هذه العقلنة للسياسة تقتضي الأخلاق، بما أنه لا علم يُعتد به إلا إذا كان فيه الخير للبشرية؛ ولا شك أن ذلك لا يكون إلا بالتزام الأخلاق بما أننا علمنا أن العلم بدون ضمير، وهو منبع الأخلاق، لهو التهافت التام للعقل والروح وكل ما يميّز الإنسان عن الحيوان science sans conscience n'est que ruine de l'âme كما قالها رابُلى.
تلك هي العلمية الصحيحة، إذ هي عالمة بعالميتها وخيرها العميم لأهل المعمورة طرّا وبدون استثناء نظرا لإلمامها بكل جوانب الحياة البشرية في كونيتها وعالميتها مع اختلافها وتميزها على المستوى الإقليمي. وهذا، بدون أدنى شك، هو المفهوم الصحيح للجامعة université، فهي ما لا يُحد بأي حد universalité؛ أليس العالم عالما ما دام يطلب العلم، فإن ظن أنه علم فقد جهل، كما قالها صاحب نهج البلاغة أو كما يُروى عنه؟ ولا يخص هذا العلم البشري فقط، بل حتى - أو خاصة - العلم اللدني.
رهانات الزمن الحاضر :
هذا من باب التذكير، وإن به من الإطالة شيئا ما؛ ولا بأس به، إذ التذكير مما ينفع دوما الناس، خاصة في زمننا الراهن، الزمن الذي كثر في اللغط والكذب بل النفاق، تصديةً ومُكاءً على السواء، بما أن الاتجار بالقيم أصبح قيمة نافقة هذا اليوم، بما في ذلك الأخلاق الدينية. وفي هذا التذكير التحية الأسنى للجامعة بما هو أحسن فيها، ما يجعلها أفضل منارة للفكر التنويري، أي الروح الإناسية التي عرفناها في الإسلام عند أوج حضارته العلمية العالمة والعالمية؛ فهذا هو العلم الصحيح!
ما يميّز ابن آدم غير عقله؟ وأي خير في العقل إن لم تكن فيه فائدة للبشرية قاطبة؟ ذلك قطعا ما تختص به الديبلوماسية حسب أبهر تجلياتها وفي أخص خصائصها. وهي، دون أدنى شك، ما اختصت سابقا ديبلوماسيتنا المغاربية على أرضٍ كانت، ولا بد أن تبقى، الملتقى المعروف للحضارات من كل حدب وصوب؛ بل ومهد بعضها؛ فالروح المغاربية لا محالة، كونية المزاج، متفتحة التوجه، إناسية الطبع والطالع، تأخذ بكل الأهواء لانفتاحها على أفضل الرياح اللواقح.
بإحياء هذه الروح، تكون الديبلوماسية المغاربية أكثر من سياسة خارجية بمعناها الضيق، أي هي مدرسة تنصهر فيها الخاصيات الأمازيغية والفينيقية والعربية الإسلامية، فإذا هي بحق عالما على حدة من أفضل ما في الشرق وأبدع ما في غربه.
ولا غرابة أن تنتج عندها مدرسة تُبدع ببلاد الأمازيغي يوغوطة، والقرطاجني حنبعل والإسلامي ابن خلدون علاوة على أهل إسلام التصوف، أفضل ما في ديننا بروحانيته المتعالية، وهم كثر لعله أشهرهم الشيخ الأكبر ابن عربي.
ذلك لأن الصوفية الصحيحة، لا صوفية الدجل، وأعني بالصوفية الصحيحة تصوف الجنيد السالك مثلا، هي ثالثة أثافي الإسلام المغربي إضافة للمالكية والأشعرية. هذه الصوفية، التي نعتها بنفسه منظر الإسلام المتزمت، ابن تيمية، بكونها صوفية الحقائق، أي الإسلام الصحيح، هي بمثابة الإسلام الديبلوماسي، أي الإسلام الأصيل، إسلام الكونية العالِمة المتعلّمة، لا الجاهلة الجهولة، جاهلية ما بعد الحداثة، الحقبة الزمنية التي أظلّتنا.
لقد آن للبلاد المغاربية، وهي في عصارة سني استقلالها التي تجاوزت عمر الحكمة والتحكم في مجريات حياة البشر، أن تستنبط السياسة الخارجية المبرهنة لذكاء شعوبها للبرهنة أفضل البرهنة على أن النجاح الحقيقي على مستوى العلاقات الدولية هو في دوام الاجتهاد. وطبعا، هذا لا ينفي الفشل الآني، إذ من شأنه التمهيد لاستخراج العبر اللازمة وتصحيح المسارات وتأسيس النجاحات على قواعد صحيحة تصمد لعثرات الزمن والتصرفات الرعناء لبعض البشر، إذ خُلق الإنسان عجولا فيبتغي الأمر أحيانا عوجا. فليكن هذا فهمنا لحالنا اليوم، المنطلق لنجاح يأتي لا محالة إن ابتغيناه حقا وسعينا له.
هل من بشر لا يخطئ؟ فحتى الرسول الأكرم، خارج عصمته النبوية، لم يفقد صفته الآدمية، فعبس وتولّى أن جاءه الأعمى، ثم صحح التصرف معه فكان أفضله، متّفقا مع تصرفه المعتاد، ذاك الذي جعله سيد الآنام بما في البشر من سمو روح رغم ماديّة متدنية لا بد من السهر الدائم على تزكيتها دون هوادة.
كذلك، ما مرّت وتمرّ به الديبلوماسية المغاربية من فترات حالكة، لا بد له أن ينتهي ككل السنوات العجاف التي تمهّد لسني الخير والبركة لمن يقدّر قيمتها فيسعى للكسب والسعي المستدام للأفضل.
نشرت على موقع نفحة