مشروع تحفيظ القرآن : الحق الذي يراد به باطلا !
بيّنا في مقالة سبقت* أهمية تعليم القرآن ومنهجيته، وضرورة ذلك، إذ لا يجب الحط من قيمة الدين في تكوين شخصية نشئنا. إلا أنه، من ناحية أخرى، لا يجب التجارة بالإسلام وقد نفقت هذا الزمن.
ولا شك أنه من التجارة بالدين انتهاج طرق بيداغوجية أكل عليها الدهر وشرب، إضافة إلى أنها ملتوية، مما يخلق حتما التيرب لسوء النية؛ فإذا نحن مع حق يراد به الباطل.
الحفظ المجرّد يغذّي الإرهاب الذهني :
من هذا الباطل ما تم تدواله أخيرا مع انطلاق الحملة الرسمية لتعليم الأطفال القرآن باسم مقاومة الإرهاب حسب مقولة وزير الشؤون الدينية.
هل نقاوم حقا الإرهاب بتحفيظ الأطفال عن ظهر قلب القرآن دون تمعّن في معانية وعلم بأسباب نزوله، خاصة تلك الآيات التي يُصرّفها الإرهابيون للتشريع للحقد والكراهة والقتل باسم الإسلام ؟
إلى متى نلجأ لمثل هذا الكلام المزدوج الذي لم يعد يغالط أحدا ؟ فكلنا يعلم أنه قل في الإرهابيين من لا يسرد لك عن ظهر قلب سور من القرآن، بل لعله يرتّل لك القرآن كله؟ ومع ذلك، فهو ينهب ويقتل دون هوادة؛ فكيف لا يمنعه حفظه للقرآن من ذلك الإجرام؟
ذلك لأنه ليست له القدرة، مع حفظه الصحيح لكلام الله، على تثوير معانيه، كما حث على ذلك الرسول الأكرم؛ فليس التثوير وتدبّر معاني كلام الله في مجرّد الحفظ بتاتا! فهذه طريقة البُلهاء، البُلداء؛ أما فعل الأذكياء ومنهجهم، وهو المنهج العلمي، ففي التفكير والتمعن في كلام الله. ولا يأتي ذلك بالحفظ المجرّد، بل بالتفسير؛ ولا يكون هذا إلا على يد أمينة ممن له المؤلاهات والمواصفات العلمية لتعليم الناشئة.
إن مجرّد الحفظ للقرآن ينمّي الإرهاب الذهني ويغذّي التزمت، ولا بد من أن يسبقه أو يلازمه فهم وتفهيم لكل معاني الآيات وأسباب نزولها، وتمعّن في بللغة اللغة التي أُنزل بها. وليس هذا للأسف في وسع الأئمة تبليغه للنشء، إذ البعض منهم في حاجة إلى فهم صحيح للدين قبل تدرسيه.
نعم، كان لنا زمن ذهبي في الحضارة الإسلامية توجّب فيه حفظ القرآن؛ بله كان من أوكد الواجبات. وسبب هذا أن كلام الله كان محفوظا أساسا في الصدور، مما أدّى إلى الحفظ عن ظهر قلب كأفضل الوسائل للمحافـظة على الدين من الاندثار.
هل نحن ما زلنا في فترة مثل هذه وقد تعددت وسائل المحافظة على القرآن الكريم؟ إن ترتيل القرآن عن ظهر قلب لم يعد من الضروريات اليوم، إذ الأهم لفي فهم معاني القرآن، وخاصة مقاصده. فمن المسلمين الصادقين له حقا القدرة على ادعاء فهم الحكمة الإلاهية فالتشدق بأنه يمتلكها؟ أليس الذهن البشري بالقاصر أصلا عن فهم حكمة الله ولو نبغ؟ أليس هذا هو السبب أن الإسلام جعل من الاجتهاد واجبا على المسلم لا زوال له؟
حتى يجمعنا القرآن حقا لا رياء :
إن الوزير، عندما يقول أن القرآن يجمعنا، لا يعمل حقيقة على ذلك، إذ مسعاه يُفرّق حتما بين من يتعلم القرآن ومن لا يتعلّمه، من يدّعى التقوى لحرصه على حفظ كلام الله - بينما ليست التقوى الحقة في المظهر والمراءاة، كما نعلم - وبين من لا يسهر على حفظ القرآن ضرورة لأنه يحرص على ما هو أصعب وأجل، ألا وهو العمل بأحكام الإسلام وتعاليمه؛ فأيهما أتقى وأنفع؟
إن هدف مشروع الدولة في تحفيظ القرآن لمائة ألف شخص، كما يدّعيه السيد الوزير، ليس له أن يكون حقيقة الدعم الحاسم للجهود في مقاومة التطرف والإرهاب ما دام يقتصر على الحفظ دون الفهم.
إننا حيال مجرّد عملية غير علمية، لا نفع لها، إذ هي من الاجترار؛ فهل يليق هذا بكلام الله؟ وهل هو في مستوى عقل ابن ادم الذي مكّنه تعالى من شرف حمل الأمانة ومن إمكانية نيل ما وراء العرش لما له من مؤهلات وضعها فيه ومن واجبه العمل بها؟
فهلاّ رصدت الوزارة الاعتمادات المادية والبشرية لزرع الإسلام الصحيح في الأفئدة لأنها من شأنها، كما هي اليوم، رسكلة الأئمة المتزمتين، منمّية الإرهاب الذهي في عقول النائشة! هلاّ عملت حقا على أن يجمعنا القرآن عبر تعليمه حسب الطرق البيداغوجية العصرية، لا ديماغوجية الأئمة وقد مر زمنهم ولم يعد ينفع ما علموا من الدين في محيط معرفته التي لا حد لها؟
إن التعليم الصحيح للفرقان عند من صدقت نيته في خدمة الدين القيم لا يكون إلا في مدارسنا ومعاهدنا، بواسطة أساتذة لهم المؤهلات العلمية والفكرية والأخلاقية الكافية لتفهيم القرآن لا لتحفيظه فحسب. فالحفظ الصحيح لا يأتي إلا بعد الفهم والتفهيم الذي هو من واجبات الدولة ووزارتي التربية والتعليم العالي. أما مجرد الحفظ، فهو من باب الرغبة الذاتية والتوجه الشخصي، وفيه كل الخير بعد تمام تأويل ما يجب حفظه. ولكل طريقته الفضلى في التعلم، بعد فهم دينه، مع كثرة الوسائل اليوم لهذا، إذ لا داعى ضرورة لإمام اليوم.
إن القرآن له علومه، ولا يجب الاكتفاء بتحفيظٍ يكتفي بالنظرية المجردة دون تدليلٍ وتطبيقٍ، خاصة في دين علمي كالإسلام؛ لذا تتوجب حتما دراسته علميا. ولا يكون هذا إلا حسب الأصول التربوية؛ وإلا خاب مسعانا فعملنا، عن وعي أو عن غير وعي، على دعدشة ديننا.
هذه إذن كلمة حق يراد بها الحق لا الباطل لمن خلصت نيته في خدمة الإسلام الحق : لا بد من أن ينخرط مشروع الوزارة نظرا لصفته الرسمية في نطاق البرامج المسطرة مع وزارة التربية ووزارة التعليم العالي، مثل برنامج فتح المدارس والمعاهد صيفا لنشاطات ثقافية مفيدة، منها دراسة القرآن. هذا هو المنهاج السوي لعروة وثقى لا مجال للدعدشة فيها !
نشرت المقالة على موقع أنباء تونس