إن الإسلام، كما هو توحيد، هو أيضا عدل وكلمة سواء؛ ولقد كثر اللغو هذه الأيام فتعددت المغالاطات في حق إسلام عالي الكعب في الأخذ بالدين القيم، ألا وهو التصوّف.
لذا هذه كلمة حق في أفضل ما أنتجه الفكر الإسلامي الكوني النزعة، العقلانيها، حتى نُحي علوم الصوفية وفقهها الخصيب في زمن الخداع، هذا الذي يريد أن يجعل من دين التنوير ملة ظلامية.
فهل أشنع تبليسا من إبليس انتقاد الإسلام الأصيل الصوفي مما من شأنه زيادة غربة الإسلام وقد تدعدش بتزمت مقيت ليس فيه من الحنيفية المسلمة إلا ظاهرا مخادعا لا يأخذ إلا بالإسرائيليات التي داخلت دين محمد فشوهته ومسخت تعاليمه السمحة ولبه الإناسي؟
دفاعا عن الإسلام الصحيح، إسلام التصوف، نبدأ بالتذكير بنشأة الصوفية للتأكيد على تجذرها في الروح الإسلامية الحقة؛ ثم نبيّن مكانة فقه التصوف في الفقه السني عامة ثم في روح الجهاد، خاصة الجهاد الأكبر منه. في ذلك وكمثال لكل فصل، سنكتفي، لعدم الإطالة، بذكر شخصيتين من صفوة الصفوة الإسلامية، ألا وهما الإمام الشاطبي والأمير عبد القادر.
تجذر التصوف في الروح الإسلامية الأصيلة
إن حالة الغضب الشعبي التي نراها اليوم في الجزائر تجاه الزوايا الصوفية غير منصفة البتة للتصوف وأهله، إذ هي تنكر كل ما أتي به من خير للإسلام وما له من أيادي بيضاء على دين القيمة.
فلئن غالى البعض من متصوفة هذا الزمن في عديد من المظاهر التي لا تشرّفهم بل تسيء إلى ماضيهم، إذ هي إلى الدجل أقرب، فذلك لا يعني أن هذه حال التصوف عموما؛ أليست الشعوذة والتطرف والفساد عند السلفية أيضا رغم أنها تدّعي صحة الإسلام؟
الحقيقة أن مثل ذلك يتنزّل في خانة ما يميّز العصر الحالي ومجتمعاتنا اليوم، متخلّفة كانت أو متقدّمة، أي شيوع التدجيل والكذب والمخاتلة. فكيف يسلم عندها الصوفي من صفات عامة ونحن نعلم القاعدة المعروفة بعلم الاجتماع القائلة بقوة قانون المحاكاة؛ وليس ذلك إلا ما يُعبّر عنه مثلنا الشعبي بمقولة : اعمل كجارك أو نقّل دارك !
الحقيقة التاريخية الثابتة هي أن الإسلام الصوفي هو إسلام أهل الصفة؛ فمن هنا جاء المصطلح الأصح رغم أن البعض يعزوه للصوف، وليس هذا إلا بسبب كثرة ذلك اللباس عند أهل الصفة الذين كانوا كلهم تقريبا من الفقراء.
وطبعا لا علاقة للتصوف بما يراه البعض، ممن يريد له أصولا غريبة عن الإسلام، بتعبير الحكمة الإغريقي، إذ هو يسعى جزافا لابتداع منبت خارج عن الإسلام للصوفية، بينما صحة تجذرها في الحضارة العربية الأمازيغية الإسلامية لا ينتطح فيها عنزان؛ فهي الثابت ثبوت الشمس في ربيعة النهار.
وكما نعلم، أهل الصفة هم أوائل المسلمين من أهل الفاقة الذين هاجروا إلى المدينة، فكانوا يعيشون تحت صفة مسجد النبي؛ من هنا أصل التصوف، أي أنه الإسلام الأصيل، قبل الإسلام السلفي الذي ظهر كردة فعل على الهجمات الإمبريالة التي عرفها ديننا لاحقا عندما أهمل أصوله وأفل نجم عزه.
الإسلام الصحيح إذن هو الإسلام الصوفي، وهو أيضا إسلام الحضارة، بينما السلفية ليست إلا إسلام بداية الانحطاط ثم فحشه. هذا هو الذي يفسّر كيف كان فهم التصوف للإسلام فهما عقلانيا متفتحا حضاريا، بينما لم يميّز السلفية إلا التعلّق بحرفية النص وظاهره في رسمه، لا لشيء إلا لأن الخطر المحدق بمصير الإسلام كان يفرض مثل ذلك التعلق ويحتّم ردة الفعل تلك بالتمسّك، ولو شكليا، بحرف الدين لا باطنه ومقاصده الذي في حالة الخطر أصبح من الثانويات.
لذا، إن كان تاريخيا للسلفية الدور الهام في المحافظة على الإسلام زمن انحطاطه، فذلك لا ينفعه اليوم بتاتا إذ توطد الدين في قلوب المؤمنين الطامحين لبناء حضارته من جديد؛ ولا يكون ذلك اليوم بدون اجتهاد متجدد، أي بإسلام التصوّف.
ولقد سهر على ذلك أفاضل من أهل الإسلام، حرصوا على الأخذ بالتصوف أو الاغتراف من ينبوعه السخي، كما فعل الإمام الشاطبي في الجهاد الفكري والأمير عبد القادر في الجهاد الأكبر.
الإمام الشاطبي وإحياء الفقه السني بفقه التصوّف
نكتفي بالكلام عن نبوغ الفقه الصوفي بهذا الإمام الجليل الذي أحدث ثورة في القرن الثامن هجري في ميدان الفقه الإسلامي بمقولة مقاصد الشريعة. ونسوق هنا فيه ما يقوله أحد أبرز المفكرين المغاربة، محمد الفاضل ابن عاشور، متحدّثا عن كتابه الاعتصام إذ يعدّه : «باعثا من أقوى بواعث النهضة الإسلامية الحاضرة استندت إليه الحركة السلفية في المشرق والمغرب منذ أخرجه للناس العلاّمة المرحوم السيد محمد رشيد رضا من مطبعة المنار سنة 1332 هجرية » (راجع : أعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي، مكتبة النجاح، تونس، د. ت. ص 77).
ويقول أيضا الشيخ التونسي عن كتاب الشاطبي الثاني المهم، أي الموافقات : «وظهرت مزيّة كاتبه ظهورا عجيبا في قرننا الحاضر والقرن قبله لمّا أشكلت على العالم الإسلامي عند نهضته من كبوته أوجه الجمع بين أحكام الدين ومستجدّات الحياة العصرية، فكان كتاب الموافقات هو المفزع وإليه المرجع لتصوير ما يقتضيه الدين من استجلاب المصالح وتفصيل طرق الملاءمة بين حقيقة الدين الخالدة وصورة الحياة المختلفة المتعاقبة» (المرجع نفسه، ص 76).
الحقيقة التي لا مراء فيها هي أنه لا أحد ينكر اليوم تأثير الشاطبي في روّاد الحركة الإصلاحية الإسلامية الحديثة، وقد تحدّث في ذلك بإطناب العديد ممن يريد الخير للإسلام، نكتفي هنا بالإحالة على أحدهم، حمادي العبيدي في مؤلفه : الشاطبي ومقاصد الشريعة (دار قتيبة، بيروت، ط 1، 1992، ص 279 وما بعدها).
وليس من الضروري هنا الكلام باستفاضة في تصوف فقه الإمام الشاطبي وتأثره لا بروح الصوفية فقط بل وأيضا وخاصة بنص فقههم. لنقل فقط، نظرا لضيق المجال، النزر القليل مع الإحالة إلي ما كتبه في الغرض الدكتور محمد بن الطيّب في مصنفه القيّم : فقه التصوف، بحث في المقاربة بين الأصولية الفقهية عند أبي إسحاق الشاطبي (دار الطليعة، بيروت، ط 1، 2010).
ونحن نذكره عندما يبيّن أن الصوفيه لدي الشاطبي، وهي عنده «صفوة الله من الخليقة» (الموافقات، ج 1، ص 347)، هي كذلك لما تميّز به ويتميّز أهل التصوّف من تمسّك بالدين الصحيح و«لالتزامهم بالسنة واجتنابهم البدعة وعملهم بمقتضى الأصول؛ فهم بالسلف الصالحون مقتدون، وبمكارم الأخلاق ومحاسن الشيّم متحلّون؛ ولذلك يمثّلون السلوك الإسلامي المثالي الذي ينبغي أن يُعمّم، حتى يُستعاد ذلك العصر الذهبي الذي كان وازع الفرد فيه من ذاته لا من خارج؛ لذلك استحب االشاطبي العمل بمقتضى الأصول المكية وامتدح المتصوّفة لعملهم بها. (المرجع المذكور، ص 144).
ولا شك أن من أبلغ الأمثلة لهذه المزايا مثال الأمير عبد القادر الجزائري الذي كان مناضلا ضد الاحتلال الغاشم لبلاده ومجاهدا أكبر للنفس الأمّارة بالسوء.
الأمير عبد القادر مثال المجاهد الأكبر الصوفي
لا شك أن حياة وفكر الأمير عبد القادر لأفضل ما يمكن ذكره للرد على الأكذوبة السخيفة التي تتهم أهل التصوف بالعمالة؛ وقد قال الشاعر منذ القديم : إذا أتت مذمتي من ناقص | فهي الشهادة لي بأني كامل.
فليس صحيحا ولا منصفا اتهام أهل التصوف بالعمالة، إذ ممالا شك فيه أن أكبر ما ميّزهم عبر تاريخ الإسلام له الجهاد في سبيل الدين والدفاع عن بيضته. لهذا رأينا العديد من الزوايا والرباطات في أنحاء البلاد وعلى الحدود، أو ما كان يسمّي بالثغور، حيث يرابط الصوفي في خلوته مع الله وجهاده العدو على حدود بلاده. وكم من صوفي بدأ جهاده الأكبر، وهو جهاد النفس، بجهاد أصغر، أي جهاد عدو الإسلام! ولا غرابة في ذلك إذ التصوف يربط الجهادين ربطا محكما.
على أن الصوفي له الحكمة في العمل بلب لباب الدين الذي يقتضي عدم الإلقاء بالنفس إلى التهلكة. لذلك، عندما يرى أن الجهاد الأصغر لا فائدة فيه إلا المراءاة، يتجاهله حاثا على ما هو أفضل، مما يمكّن من الاستعداد من جديد للجهاء الأصغر عندم يأذن الله به، وذلك بالتزام الجهاد الأعظم، جهاد النفس.
فليس مثل هذا الخيار من باب الخنوع إلى العدو والقبول بحكمه، بل هو عدم ظلم الناس والتغرير بهم وتبجيل الأهم على المهم الذي من شأنه الحفاظ على القوى وترويض النفس للساعة الحاسمة عندما تحين. فالصوفي يعلم علما يقينا أن لا شيء يدوم وأن الحضارات تتعاقب وتتداول؛ والمهم البقاء في خدمة الله ورعاية حقوقه بالحفاظ على النفس وعدم الارتماء جزافا إلى التهلكة؛ فذلك ليس من الإسلام في شيء.
في هذا لا يمكن لأحد أن يماري إذ استشهدنا بسيرة المجاهد الصوفي الأمير عبد القادر الجزائري التي يمكن مراجعتها في كتاب قيّم، قلّل في صفحاته (86 صفحة) فدلّل، وهو : الأمير عبد القادر الجزائري المجاهد الصوفي لبركات محمد مراد، دار النشر الألكتروني؛ مع الملاحظة أن الإمكانية متوفرة لمن ابتغى ذلك لتحميل الكتاب بالعالم الافتراضي.
لقد كان الأمير بحق مثال الصوفي، هذا الرجل الكامل؛ فلم يكن صوفيا في سجنه ونفيه فقط، أي عند غروب عمره، بل كان صوفيا تاما، سواء في ولايته على الجزائر أو جهاده للمحتل الفرنسي، كما بيّنه ويبيّنه فكره وكتبه.
إن الصوفية بالنسبة لهذا المناضل الجزائري الكبير «ليسوا هؤلاء الذين يأكلون النار ويدخلون مسامير الحديد في أشداقهم، ويدخلون التنور ويمشون راكبين على ظهور الأشخاص ليعرفهم العوام، لأن ما يصدر عن هؤلاء منه ما هو شعبذة، ومنه ما هو سيمياء، ومنه ما هو خواص نفسية يتوارثونها بينهم».
طبعا، هذا هو المفهوم الشعبي، وهو بلا شك خاطيء، روّج له أعداء التصوف طالما كانت علاقته مع الفقه السنّي متنافرة إلى أن أصبح من المسلّمات، قبل يرفعه من العقول فقهاء أجلاء صالحوا بين الفقهين، كالقشيري (المتوفي في 465 هجرية|1073 مسيحية) أولا برسالته ثم خاصة الغزالي (المتوفي في 505 هجرية|1111 مسيحية) بإحيائه، الكتاب أكسب التصوّف شرعية سنّية كما جسّدها الشاطبي بعد ذلك (وافاه الأجل في 790 هجرية|1388 مسيحية).
فحياة المجاهد الصوفي عبد القادر تختزل سيرة من سبقه من أهل التصوف، مما يحتّم نبذ الفكرة المغلوطه التي لا زلنا نراها اليوم بالعديد من بلاد المشرق و المغرب؛ فكما يقول الأمير بنفسه، إن التصوف لهو بحق « إخلاص العبادة لله تعالى، ومراقبته في السر والعلانية». فلا بدع في تصوف عبد القادر ولا تقليد خاصة، بل هو جهاد واجتهاد، وهما صفوة روح الشريعة الاسلامية.
سلفية الحقائق اليوم هي الصوفية
نعم، هناك العديد من الناس الذين يضرّون بالمعتقد الصوفي؛ ولا يختلف الحال في السلفية أو غيرها من التوجهات الآدمية، بما فيها الميدان العلمي، إذ السيء في طبع البشر وليس من المعقول تعميم الشاذ الذي يُحفط والذي من الواجب أن يؤكد القاعدة، ألا وهي نبل الصوفية في رعاية حقوق الله.
إن الزوايا الصوفية لتبقى منارات مضيئة في سماء الإسلام النيّر، وهي كذلك اليوم وقد ادلهّمت بأفاعيل المتزمّتين من أهله ممن ينحو باللائّمة على الصوفية بينما هي الفهم الإناسي الوحيد لرسالة التوحيد، والذي من شأنه إنقاذ هذا الدين من الزوال الذي تسعى إليه هرطقات مثل الوهابية والداعشية.
لذا، من واجب المسلمين اليوم قبل أي وقت مضى التعلق بزوايهم في الوقت الذي يُدنّس البعض من مساجدهم إسلام الإسرائيليات، يدّعي مراء السلفية وليس هو منها. فالسلفية الحقة الوحيدة، بمعنى التعلق بأفضل ما أتى به السلف الصالح، هي الصوفية؛ فهل أفضل من السلف من أهل الصفة، وهم منبع الصوفية ورؤوسها؟
إن الزاوية الصوفية اليوم بتواجدها بكل مكان من شأنها أن تكون الضابط والحارس على ألا يحيد الجامع عن واجبه في خدمة الدين، فلا ينزلق إلى بتصرفات هوجاء ودعوات مقيتة لا تمت بصلة للإسلام.
فالزواية لها أن تكون الرقيب الحريص على العناية بواجب المسجد في رعاية حقوق الله. لذا، من الضروري ضمان استقلالها وحمايته حتى تكون السد المنيع ضد من يتاجر بالدين مستغلا المساجد لفعله الشنيع، فتكون الزاوية عندها كما كانت دوما، الرباط المتافح عن الدين والبديل الرادع لمثل ذلك الانحراف بمساجد الإسلام عن مقاصدها.
ولنقلها صراحة في ختام هذه المقولة التي هي من باب الذكرى للمؤمنين، وهو الواجب الشرعي الكبار لكل مسلم : إن السلفية الحقة، أي تلك التي تأخذ بأفضل ما أتى به السلف الصلاح، لهي الصوفية. فلنذكّر بما قاله فيها أحد أعلام السلفية، تقي الدين ابن تميية في فتاتواه، إذ صرّح بشديد احترامه لأهل التصوف، فنعتهم بصوفية الحقاق. ولنعلنها حقيقة نصدح بها واضحة أن التصوف هو بلا كذب سلفية الحقائق مع تفشي سلفية الأكاذيب اليوم، تلك التي لا تأخذ إلا بالإسرائيليات، فتنقض ما جاء به الإسلام من إصلاحات للإبراهيمية.