أعجبتني مقالة الأستاذ أخي عبد الله زارو في مناوراتة السيكوسوسيولوجية بالشارع المغربي.*
هذا، وما عجبت قط لجراءته على التطرق لموضوع حساس هو غالبا من المسكوت عنه في إعلامنا، لا لشيء إلا لأن تلك هي ميزة عالم الاجتماع الفهيم الحق.
ولا شك أن الأخ زارو المثال الأسني لهذا المفكر. ولا غرو أن الحديث في الجنس، خاصة حسب تجلياته في الشارع، عاريا بدون غلو في المركبات، لهو ما يكشف المستور عن أس حياتنا الخفي إذ لا حياة بلا جنس.
فالإشكال الأعظم، ومعه المشاكل جميعها التي نعاني منها، في طريقتنا لقبول أو رفض هذه الخاصية في الحيوان البشري؛ إذ لم يعد من الممكن الجز بها غصبا وغلطا في خانة هذا المضنون به على غير أهله، تلك العادة السيئة المتفشية في ثقافتنا؛ فاليوم، أكثر من أي وقت مضى، ليست الحياة إلا الحيوان !
علم الاجتماع المطرقي
السوسيولوجي اليوم هو الذي يتعاطى ما أسميته علم الاجتماع المطرقي sociologie au marteau ، في إعادة صياغة لمقولة الفيلسوف نيتشة؛ أي هو العالم النحرير الحاذق في استعماله للمسبر الملائم أو بالأحرى مطرقة النطاسي الإيقاعية Marteau à percussion. فترى له القدرة الفائقة وتجد عنده البراعة العبقرية لمراقبة الواقع المحسوس بما فيه من لا محسوس، فالغوص دون هوادة وبكل ثقة إلى اللاوعي الشخصي والجماعي للعودة بالدر المكنون فيه إنارة لظلمات وعيهما.
كل هذا لا يتأتى، علاوة على الآلة المناسبة، إلا بذهن متفتق، متقد الذكاء، كالطبيب الذي حنكته التجارب فمكنته من معرفة بديهية بالطبيعة البشرية زانت علمه الواسع وجعلته يأخذ بكل ثقة نبض الحياة الإجتماعية بما يعتلج فيها من حياة وحيوانية، بما أن الحياة كما أسلفنا هي الحيوان.
ونحن نرى هذا يتحقق ، كما فعله الأستاذ عبد الله زارو في مقاله القيم، مبرزا خاصة لا ما يخفى عن الأنظار بل ما تتجاهله العيون المغشية ببرقع التمويه الأخلاقي، حتى تلك التي تدّعي جزافا امتلاك نظر زرقاء اليمامة رغم أنه، رغم الشهائد العلمية، لا صبح لقصر نظرها، إذ ما يخفى عن البصيرة لا تطاله حتما العين في زمننا الحاضر، زمن الجهل العليم Docte ignorance.
إن السوسيولوجي القدير اليوم على قراءة واقع مجتمعه ينتمي إلى فئة قليلة دون أدنى شك، ما دامت القيمة ليست في العدد بل في العتاد الذهني؛ فهو هذا الذي له البراعة الفائقة في الاصغاء لكل ما ليس له صوت ولا حس، تماما كمن يتوصل إلى سماع الحشائس تنمو حوالينا.
فرغم أن الحشيسش بكثرة تحت ناظرينا، من يعبأ به من علماء اجتماعنا؟ إنه في كثرته كندرة الذين يشرفون حقا علمهم ومجتمعهم؛ كما هو حال الأخ الأستاذ زارو، الذي أعتبره أفضل ممثل لهم لا بالمملكة المغربية فقط، بل بعالم الضاد طرا.
في إشكالية الجنس العربي
كما تبينه عربدة أستاذنا المافيزولية المابعد حداثية، شبابنا يمارس سواء لعبة الفريسة والصياد في نفس الوقت، لا يهم فيها السن بقدر المظهر، خاصة إذا كان غريبا عن الديار، أجنبيا عنها.
ولعل هناك من يعتقد أن السبب في هذا هو الترف، تخمينا فقط إن لم يكن ظاهرا؛ إلا أن مثل هذا الحكم لا يثبت بالتجربة، حتى إذا اعتبرنا ارتباط فكرة الترف عند البعض بغربة الشخص وصفته غير الوطنية. وسأبين السبب لاحقا بعد مواصلة استلهام الشهادة الحية لحياة الناشئة بمدننا في عربدتها مع إشكالية الجنس عندنا.
نحن نراها تقتنع باليسير في كل شيء عوض التفويت في الفرصة السانحة، بل وتعمل جاهدة في ذلك بالركون إلى جميع الوسائل بما فيها ما لا يخطر على بال. إنها، مثلا، تجتهد في إعطاء أفضل صورة عنها كأن تجيب على كل الأسئلة إلى حد عدم إخفاء الحي الذي تعيش فيه؛ أو هي لا تتوانى عن محاولة استدرار العطف بأن لا تستحي من التذلل فتكتفي في نهاية المطاف بطلب البخس اليسير مدعية سد الرمق. ونحن نعلم قيمة الاستجداء في ثقافتنا!
لا يخفى طبعا عن اللبيب أن مثل هذا التصرف هو أساسا من باب التحيل أكثر منه التحايل؛ بل هو من التثميل، إذ لا يتورع هؤلاء عن تقمص شخصيات وأدوار لا مساس لها بالواقع، واقعهم الذاتي خاصة ، بما أنهم يعيشون ما يمارسونها وكأنهم فوق ركح مسرحي؛ فهم بحق من جنس أهل المسرح، إلا أن مسرحهم له رحابة أحياء مدينتهم وقرى البلاد.
هكذا إذن، إضافة إلى الأسماء المستعارة، ينتمي فنانو شوارعنا الوجوديون وممثلوها أحياء غير أحيائهم، بل وتراهم، نكاية بالبعض منهم، يدّعون الانتماء إلى أحياء غير أحيائهم. ذلك لأنهم يعلمون جيد العلم نظرة الناس الشزرة إلى ما يقومون به فيتقونها قدر المستطاع دون أي وخز ضمير ما دام ما يقومون به بالنسبة لهم هو مجرد دور تمثيلي ينتهي مع نهاية الفصل أو نزول ستارة النهار على مسرحية اليوم. ولكل يوم مسرحيته !
فلا شك أن الأستاذ الصياد، لو أعاد متنكرا مناورته مع نفس الصبايا، ليحصل على نسخة مغايرة تماما للفخاخ السوسيولوجية، إذ تتطور الأدواو وتتغير حسب الأيام والأحوال.
لنقل الآن شيئا عما يختفي وراء مثل هذه التصرفات من إشكالية. طبعا، لا شك أن للحالة الإجتماعية الضنكة دورها، إلا أنها ليست وحده الفاعلة لأن للجنس حافزه الأكبر.
إلا أنه علينا تغيير نظرتنا للجنس كما عهدنا الكلم فيه وعنه؛ فهو، عند ناشئتنا، ليس ضرورة ذلك المتعارف عليه من مس ومسيس جسدي ودلك وإيلاج؛ كل هذا يندر عند الغالبية في حياتها اليومية، فتكتفي، كما بيّنت ذلك تجربة أستاذنا، بظلمة قاعة سينمائية أو مجرد لمسات وهمسات لعلها لا تغني من جوع أهل التخمة الجنسية من الأعيان، إلا أنها تسمن كل من كان جوعه سرمديا؛ وتلك حال أغلبية شبابنا.
إن المراقب الفطن لواقع الجنس العربي ليعجب لمدى براعة الشارع في النجاح إلي بلوغ وصال يومي ليس فيه من الجنس المعهود إلا نقيرا، فهو إغلام، للبصر فيه والكلام والإيحاء الدور الكبار، إضافة لهيأة وحركة وسكنة لا يجهلها العربي إذ هي من مكونات شخصيته الحسية. فليس الجنس اليومي في شوراعنا من الشوهوانية بحال، إذ لا تلعب فيه الدور الأول بتاتا، إذ الحسية والشبقية لهي فيه الأولى. وهذا لا يخالف ما في الطيبعة إذ يعلم أهل الفيزيولوجيا أن العادات من شأنها أن تغطي الخاصية الأساسية عند بعض الحيونات بخاصية هي ثانوية إلا أن الركون إليها يجعلها تأخذ المكانة الأولى. وهذا هو الحال عندنا لأن الجنس العربي أولا وقبل كل شيء حسي Sensuel .**
إن النظرة واسترسالها هي أول الفخاخ، ثم الملامسة خاصة عند الزحام، ولكن حتى عند انعدامه أيضا لما يميز عاداتنا من حسية لاجنسية. ونحن نرى هذا يحدث بلا هوادة في الحافلات والقطارات حيث تكثر سهام الألحاظ فتتشابك الأصابع خلسة وتتلاعب الأرجل خفية محتكة بعضها ببعض في رقصات جد مثيرة رغم براءتها عموما.
إن كل هذا من شأنه خلق جو مشحون تجد فيه العواطف المكبوته متنفسا دون أن تكون لها المسحة الجنسية المعلومة رغم ما تفرزه من متعة حسية ثابتة تتنزل بين منزلتين : الجنسية الشبقية والحسية الروحية. إذ لا شك اليوم في علم الاجتماع الفهيم، وبخاصة سوسيولوجيا العربدة، أي القصف والمجون الوجودي، أن للروح تجلياتها الحسية كما للجنس مواصفاته الشبقية.
ثم، إن هذا الجنس الطريف - ولا شك أن هذا هو المقولة الأهم هنا - ينم بدون أدنى شك عن رغبة جامحة في الآخر، خاصة المختلف؛ فهو شغف بالغريب من الطباع وبالفريد من الأخلاق وبالأجنبي من العباد.
فالعربي بطبعه لميال للآخر، له نزعة غيرية لا حد لها، تحمله على المجازفة والتضحية بالغالي والثمين للتعرف والتفتح على كل ما لم يكن يعرفه، حتى وإن شذ عن القاعدة أو خالفها، بل ولأجل ذلك؛ أليس العربي هو القائل : «معيز ولو طاروا!». كل هذا يتأتاه مما فيه من روح التناقض وحب المعرفة.
وهذا ما أجده في عاداتنا التليدة مما فيه كل الاستعداد، خلافا لما نعتقد غالبا، لحياة ديمقراطية حقة؛ إلا أن ذلك لا يكون إلا حالما ينتهى ساستنا وتكتفي نخبنا عن محاكاة العادة الغربية، إذ هي متهافتة في زمن ما بعد الحداثة، هذا الزمن الذي يُعد يكرس انتصار القيم المغمورة لبلاد الجنوب على القيم المبتذلة للشمال وعودتها إلى صدارة الأحداث على أجداث قيم الحداثة التي ولى زمنها.
في هذا الجنس الذي فيه الحياة كلها !
(الجزء الثاني)
شذرات من واقع الجنس العربي
لقد أفرزت قوانينا الجزرية تصرفات شعبية تبيّن علانية وضمنيا أن تلك القوانين لا هم لها إلا نقض ما تدعي الحفاط عليه من قيم إذ دورها أساسا الحفاظ على مصالح الساسة.
إلا أن هذه التصرفات اليومية لأبناء الشعب تحتاط شديد الاحتياط من تلك القوانين رغم مشاكستها لها، وليس ذلك إلا لحكمتها في ضرورة الحفاظ علي الذات من الشبهات حتى لا تسقط علنا في ما لا تقبله الأخلاق الرسمية وتضمن حرية الأخد بها سرا أو على الأقل دون جلبة مما يلفت أنظار العسس.
لهذا استنبط الشارع العربي جنسا حسيا فيه الإغلام والشبيقة أكثر إمتاعا من التصرف الإباحي، بله العملية الجنسية البحتة. ولعل الشيء من مأتاه لا يُستغرب، إذ لا ينعدم مثل هذا الإبداع في دين لا حياء فيه ومن أهل ثقافة أنتجت ألف ليلة وليلة وغيرها من الكتب، حتى الفقهية، التي تعد اليوم من الإباحة الصرفة.
و هذا يُؤكد ما عُرفت به الثقافة العربية من قيمة الكمون وفضيلة التخفي أو ما يُعرف فقهيا بالتقية. وقد سبق أن قلت أن ما يمثل هذه الخاصية هي المشربية في بناياتنا. فهذا ما سمّيته بمثل المشربية Parabole du moucharabieh الذي من شأنه أن ينقلب إلى عقدة Complexe du moucharabieh.
ومدار المثل المركب هذا هو أن العربي لا يكشف بداية عن نفسه وذلك أساسا لأجل حرية التمتع بالرؤية قبل إمتاع الآخر برؤية مماثلة بالبروز إليه على أفضل هيأة. أما انقلابه إلى عقدة فيكون بجعل هذا الشبقي يصبح، دون أن ينوي ذلك ضرورة، المتهرب من الآخر، المتخفي عنه بجميع الوسائل، حتى المخاتلة منها.
وهذا هو الأساس اللاشعوري الذي يؤدي إلى العنف المعنوي والمادي كما نراه مع الحجاب والبرقع والنقاب اليوم؛ وكلها ليست أبدا من العادات العربية، بل مما أفرزته المركبات والعقد بتأثير من أخلاقيات لاعربية ولا إسلامية بتاتا.***
إن المرور من المثل إلى المركب والعقدة سببه ولا شك المحيط الظالم بقوانينه التي تحمل الناس على التمثل لحياتهم وتمثيلها في نطاق لعبة تحيلية متواصلة للعيش وعدم الوقرع في حبال مصيدة الحاكم.
لم يعد اليوم أي شك أن هذه القوانين المتسربلة بدون حياء بقناع الأخلاق والقيم ليس لها أي قاعدة أخلاقية، إذ هي لاأخلاقية في ادعائها تمثيل قيم المجتمع والدين. ذلك لأن المجتمع له قراءة أخرى للدين مغايرة تماما لقراءة ساسته، وأخلاقية الشارع لهي أقرب إلى روح الدين ومقاصده من النصوص القانونية.
فهذه الأخيرة لا تسعى إلا لمراقبة المجتمع وإخضاعه للحكام الذين يحتكرون حرية فهم الدين وأخلاقيته كما يحلو لهم في دين لا كنيسة فيه ولا مرجعية كهنوتية. وطبعا، محاكاة لساسته، هذا ما يفعله تماما الشعب، وخاصة الجيل الناشيء فيه؛ إلا أنه يقوم بذلك حسب إمكانياته البسيطة مع تمام التناغم مع الصحيح من الأخلاق التي يأخذ بها.
إن تصرفات العامة لهي أساسا أخلاقية، رغم ما يحلو للخاصة من نعتها بالدنس، لأنها أولا لا تدين للظاهرة الأخلاقية غير الصحيحة واقعيا التي يتقمصها أهل الأمر والنهي بسطوة القانون وشوكة الحاكم. فهي، في حيويتها هذه المدنسة زعما، أقرب طهرا من الفهم الصحيح للأخلاق الدينية المرجعية المؤسسة للأخلاق على مبدأ العفوية مع سلامة النية وبراءة العلاقة بالآخر بلا زيف ولا مخادعة.
وهي، ثانيا، وبهذا جد أخلاقية إذ تتماهى مع نمط حياتها ومقتضيات عيشها رغم ضنكها، دون نكران ذاتها وما تلزمها طبيعتها البشرية من تأقلم لدوام العيش. فهل من حق الساسة فقط الاستمتاع بدنياهم دون غيرهم؟ أليس الكل بشر، من لحم ودم وأحاسيس وغرائز؟
لقد ولى الزمن الذي كان يُرفض فيه لمن لا إمكانات له أن يحيا طبيعته كما يحياها من له كل الإمتيازات لذلك؛ فمقاومة نزعة القصف الشعبية لم تعد تعني أي شئ، لأن الشعب اليوم على شاكلة ساسته الذي لا يتورعون عن مداومة العربدة بلا حياء. فلم لا يفعل الشباب ذلك ، وفطرتهم تقتضيه وسنهم يفرضه عليهم ؟ خاصة وأنهم يؤدونه بحس الفنان المبدع وشاعريته ! تلك هي شاعرية شوارعنا وزقاقها التي لا تبدو إلا للعيون غير الحاملة لغمامة الدغمائية، أيا كان نوعها.
إن ما يبدو عند البعض في شعوبنا من هشاشة أخلاقية لهو حقيقة من القوة بمكان، فهو يسمح لأهل الخصاصة من إمتاع حياتهم وإيناسها بما يبتكرونه في تصرفات كلها عبقرية لتأصلها بواقعهم؛ وإنها لجد ذكية، علاوة على طرافتها، لما فيها من قدرة على التنصل من حبال المسؤولية الجزائية. والأهم، وفي هذا الإبداع الحق، أن ليس في كل ذلك أي فساد إذ لا إفساد فيه؛ فأن كان من الفساد، فهو ذلك الفساد الصالح كالميت الذي يأتي منه الحي ! فلا فساد إلا الإفسادو أي مد الجوارح على الغير، فلا فساد مع الغيرية. والغيرية أساس متخيل شعوبنا.
لا شك أن في توصل الناشئة للحياة بشيء من الحرية رغم الكبت والحرمان والظلم الدليل القاطع على قدرتها غدا على قلب الأمور المنكوسة اليوم على رؤوسها لإعادتها على أقدامها. ولا غرابة في هذا بما أننا في عهد الجماهير؛ فلا يعدم الجمهور من حيلة، خاصة وقد أظلنا العالم باخوس أو ديونيزوس، إله القصف والمجون.****
ففي هذا العهد الماجن، غربيا كان أو عربيا، لا أخلاق للأخلاقيات كما عرفناها وعهدناها، أي تلك التي لا تقوم إلا بحد سلطة الحاكم؛ ذلك لأن الجسم الاجتماعي يعي أكثر من أي وقت مضى قوته، مما يجعله أحث من قبل في الأخذ بها، وأمتن من أي وقت مضى في الدفاع عن حقيقته البشرية التي يعرفها جيد المعرفة لمعاناته اليومية لها؛ لذا، فهو لم يعد يعير أي أهمية لمقولة من يدعي معرفتها خيرا منه من أرباب الدين والسياسة.
إن أخلاقه التي تبدو غير أخلاقية هي الأخلاق أساسا، لا لشيء إلا لكونها غير جامدة جمود الجلمود؛ فالشذوذ الأخلاقي اليوم ليس شذوذا إلا لخروجه عن المألوف المعتاد رغم أن هذا ليس هو الصحيح من الأخلاق؛ أما غدا، فيكون ما شذ اليوم القاعدة بعد أن يصبح القانون الحالي الجائر من الشذوذ والفساد لأنه ما خدم إلا مصالح ضيقة لساسة لا تعرف مصالح عموم الشعب رغم أنها مبدئيا في رعايتها .
والنظام الديمقراطي كما عرفنا بحاجة لمراجعة شذرية للأخذ بتطلعات الشعوب وإلا انقلبت الأنظمة السياسية على شالكة ما نراه من داعش التي تمر حتما من الدولة المزعومة رى الحقيقة المحسوسة. فأي فرق بينها وبين الحالة التي عليها الديمقراطية من تجاهل لمطالب الشعوب إذ أصبحت ما أسميه ديمومقراطية ىDaimoncratie أي نظام مردة السياسة ومرتع جنها.
حتما، في زمن ما بعد الحداثة، لا بد من العودة إلى أصل الديمقراطية، وذلك بالعودة من سلطة الخاصة إلى نفوذ العامة، أي بالمرور من Cracie إلى Arcie؛ فمصير الديمقراطة غدا أن تكون حقا سلطة العامة Démoarchie وإلا فليست هي إلا داعش عالمية بداية بدول الجنوب وبلاد الإسلام حيث التيرب المناسب لها.
هذا ما تتصدى له صبايا شورعنا وولدانها بطريقتهم الخاصة، وهي من النضال لأجل الحريات، بل وأفضله لتجذره في الواقع الآني والمعيش اليومي.
فهكذا بداية ونهاية كل شيء في انتظار بداية جديدة تعقبها نهاية في زمن لولبي لا حد لتقلبه وتطوراته رغم تعدد تصوراته مع تناقضها حسب المعايير السائدة.
وتبقى الحقيقة العلمية أن هذه المعايير، أساسا المألوف منها، لا يعبّر أبدا على كنهها وحقيقتها الخفية المخفية، التي لا تبدو إلا في ما شذ من الفعل والقول.
خاتمة : الرد على سؤال بسؤال
كما أنهي أستاذنا عبد الله دعابته السوسيولوجية بسؤال، أحاكيه باستفهام ما بعد حداثي؛ أي أنا لا أرد على سؤاله بجواب، إذ جوابه عنده، وهو المترجم المبدع لسوسيولوجية العربدة المافيزولية والمتفهم العبقري لها نصا وروحا.
أكتفي إذن بهذا الاستفهام المركب على شاكلة سؤاله، لا ردا عليه بل فاتحة لأسئلة أخرى، إذ خير الجواب هو السؤال!
استفهامي هو الآتي : هل مازال لأي بلد في العالم، أيا كانت دعواه القيمية وسلطته الروحانية والمادية، الحق في ممارسة الوصاية الأخلاقية على ساكنته، بل وحتى إمكانية ادعاء ذلك؟
وهل بقيت حرمة الأهل على الأبناء مرتبطة بفهم يرى الماخور والدعارة في عربدة متناغمة مع روح العصر المتميز بزخم الأحاسيس وانبعاثها من مدار الفرد إلى مجال العموم مع تطلع تام وعام للمشاركة الوجدانية في عربدة ديونيسية لا مجال لتجاهلها اليوم، بله إنكارها ومقاومته لأنها روح العصر؟
إن المفهوم القديم للأخلاق تهافت وتهاوى أمام نزعة عربدة ومجون ليست هي بتاتا بالمحدثة لأنها من الثوابت البشرية، بما فيها العربية؛ بل وخاصة العربية. كل ما في الأمر أنها مرت، كما يمر البشر، من مرحلة الطفولة إلى الكهولة، أي من تجليها كشر كلها إلى ثبوت أن ليس فيها من الشر شيئا، عدا ما تفرزه أذهان البعض فلا يلزمه إلا هو.
فهذه الأذهان، وما وتنميه بداخلها مما أكل الدهر وشرب علىيه، لا ترى الحياة ماجنة إلا لشهوة فيها للمجون؛ وليس مجون الحياة إلا محرار الحياة الجماعية ومقياس درجة حميتها وبسالتها؛ بل هو المطرقة الطبية المشار إليها أعلاه. أليست الحياة هي الحيوان؟ فبأي شيء يمتاز الحيوان البشري غير غريزته الذكية، وهي لب لباب العربدة والقصف والمجون؟
هذه قراءتي لمناورات أخي وأستاذي عبد الله زارو في الإصطياد الجنسي بالشاعر المغربي؛ ونتمنى منه المزيد من هذا الإبداع، مع الشكر الجزيل للفرصة المتاحة للقريحة أن تجود بالبعض مما لا يجب اليوم تجاهله والسكوت عنه.
الهامش :
* راجع : تحليل: مناورات الإصطياد الجنسي في الشارع المغربي
** راجع مثلا نص مداخلة لي بالسربون، وهي بالفرنسية، وقد ركزتها على المثلية بالبلاد المغاربية، إذ هي تختزل مكنون الواقع بأكمله:
*** انظر مثلا الجزء الثالث من كتابي بالفرنسية الصادر بباريس :
**** وهنا لا بد من التحية مجددا للأستاذ الكريم عبد الله زارو الذي سيمتعنا قريبا بترجمة رائعة، ككل التي عهدناها، منه للكتاب القيم لأستاذنا ميشال مافيزولي. وقد تكرّم فقدم عينات منها على صفحته الخاصة، فلتراجع. وستكون الترجمة، إن شاء الله، كما ذكر الأخ عبد الله، تحت العنوان الآتي وعند ناشر الدار البيضاء المبدع «أفريقا الشرق» : « في ظلال ديونيزوس». وهذا المرجع الأصلي :
Michel Maffesoli : L'ombre de Dionysos. Contribution à une sociologie de l'orgie, LGF, Livre de poche, 1991.
نشرت في جزءين على موقع أخبر.كم :