لنُعط رمضان حق قدره بإقرار حرية عدم الصوم!
هذه تذكرة لمن ينوي صادقا الصيام هذا العام عملا بشعيرة من شعائر الدين وإحياء لروحه. إن رمضان لهو أولا وقبل كل شيء شهر العبادة والتآخي؛ والعبادة الحقيقة روحية أولا، والتآخي الصحيح لفي قبول الآخر كما هو بعلاته وهناته.
إلا أن حالة التردي الأخلاقية التي وصلنا إليها باسم الدين جعلتنا نسيء للإسلام ولشهر رمضان أي إساءة، لا بالاكتفاء فقط بالمظاهر الخداعة، بل وأيضا بالمتاجرة بالدين وذلك بعملنا المتغطرس على فرض الصوم على من لا يبتغيه بالقوة الفجة والعنجهية الجاهلية.
الصوم هو الصيام عن كل المنكرات، ما ظهر منها وما خفى
إن الإسلام دين اليسر لا العسر، والصيام هو أولا وقبل كل شيء صيام لله عن المنكرات، كل المنكرات، بما فيها ما في النية السيئة من أعراض وترهات؛ فالصوم لا يكون صحيحا إلا إذا لم يقتصر فقط على منكر عمل اليد وما يأتيه اللسان من بذاءة، بل وأيضا إذا صام الصائم عن كل ما تنم عنه التصرفات من خساسة وقلة احترام للغير واستهانة بالواجبات كحسن التصرف مع الآخر ، كل آخر ، وإن لم يكن صائما، وإتقان العمل واحترام الواجبات، وخاصة غير الدينية، لأن الإسلام دين معاملات قبل أن يكون دين شعائر.
إن الصوم حقيقة هو في الشعور بما يقاسيه الفقير المعدم من لسعة الجوع العطش ومرارة الحرمان من طيبات الحياة؛ فكيف ندعي الإسلام وصومنا غدا اليوم الفرصة السانحة للتفسخ الخلقي وللإسراف في الشهوات، بما أن رمضان أصبح مهرجانا للمظاهر وللتخمة.
إن رمضان هو أولا وقبل كل شيء الصوم عن كل ما فيه مضرة للغير، بما فيها القبول بتصرف يأتي منه فلا يعجبنا؛ ذلك لأن شهر الصيام يقضي منا ردع كل ما فينا من نوازع سيئة، وأولها تلك التي تحملنا على فرض أنفسنا على غيرنا لحمله على التشبه بنا، كأن نحمله على الصيام وهو غير راغب فيه.
فلا صيام على حق في الإسلام إلا عن عزم وبرغبة صادقة حرة لا تشوبها شائبة. إننا إذا زعمنا أن الصوم فرض إجباري على كل مسلم يأتيه رغبة أو قسرا، فقد مرقنا لا محالة عن الدين القيم، لأنه لا صوم يُفرض غصبا في دين الإسلام، دين تقديس حرية الإنسان الذي حمله لذلك الله الأمانة من دون سائر مخلوقاته.
لا صوم يُفرض غصبا في الإسلام
الدين الإسلامي لا يفرض الصوم فرضا مطلقا، بما أنه قدّر الحالات العديدة التي يمكن للمسلم فيها عدم الصوم والاستعاضة بأيام أخرى لأداء واجبه.
بل إن الإسلام في سماحته ذهب إلى حد أن أعطى للمسلم الحق في عدم الصوم إن لم يطقه والتكفير عن ذلك بإطعام عدد من المساكين. ولا شك أن هذا يؤكد أن الصيام عماده حرية الشخص في القيام به عن اقتناع ورغبة، لا عن خوف ورهبة من العقاب.
ولقد سجل لنا التاريخ أمثلة لعدد من المسلمين الأجلاء، منهم من كان من أبرز القراء، ثبت عنهم أنه كانوا يخيرون عدم الصوم وإطعام المساكين ككفارة سمح بها لهم دينهم. ذلك لأن الصوم لا يخص إلا علاقة المؤمن بربه، فلا فائدة تُرجى منها إلا له وحده؛ بينما إذا اختار المؤمن عدم الصوم وإطعام المسكين، فهو لا يخالف بتاتا دينه، وفي نفس الوقت يفيض الخير حوله للمحتاج وقد كثر عددهم اليوم؛ فأيهما أفضل دينا وأحكم تصرفا وتطبيقا لأحكام الدين : هذا الذي لا يصوم ويطعم الجائع أم الذي يصوم ويتفنن في أصناف الأكل وينسى حكمة الصوم الأولى؟
هذا، ونحن إن علما من ناحية أن شعيرة الصيام تأتي في الأهمية بعد وجوب الزكاة، فهمنا حكمة الإسلام في كفارة الإفطار مع إطعام الجائع. هذا، وإن نحن تذكرنا أيضا أن الصلاة - التي هي قبل الصيام أبضا في الأهمية - قليلا ما تُراعى من طرف من يحرص على الصوم، علمنا إلى أي مدى من الخداع نركن في حرصنا على فرض الصيام على الناس والحكم بوجوبه إلى حد فرض ضرورة التظاهر به خوفا أو تملقا.
لنعد إلى رمضان الحقيقي، شهر حرية الصوم وعدمه!
إن عودة الوعي الإسلامي ضرورة من ضروريات الدين الحنيف في هذه الربوع. فكفانا كفرا بالتصرف كألد أعداء الإسلام وهم يريدونه دين دينا رهبوتا لا دينا رحموتا، دين مساويء الأخلاق وقد جاء الرسول الأكرم لإتمام مكارمها.
كفانا إساءة لديننا دون أن نشعر، ولنعمل على إحياء علومه وأخلاقه بالعودة إلى مبادئه الحقة الني هي في حرية المسلم في الصوم أو في عدم الصوم؛ وهي أيضا في عدم فرض ما لا يفرضه الإسلام بتاتا إلا إذا توفرت القناعة وصدقت النية وحسنت السريرة.
إن إحياء علوم وأخلاق الدين الإسلامي اليوم لهي أولا وأخيرا بالعمل على العودة إلى سماحته في تقديسه للحرية البشرية المطلقة كما كرستها ملتنا الحقة، لا كما يريدها من تربع جزافا على سدة الافتاء وجعل من آرائه متفجرات ينسف بها من الداخل صرح الإسلام المنيع. ولكن هيهات له ذلك، فالإسلام في القلوب منيعا تحميه السريرة الصادقة والخلق الأفضل والعمل المستدام على إعطاء المثل الأعلى في احترام الآخر وكل آخر، آمن أو لم يؤمن، صام أم لم يصم، عمل بشعائر الإسلام أو لم يعمل بها دون الإساءة لها.
ذلك لأن المسلم الحقيقي هو الذي يعطي المثل الطيب دوما حتى مع من يجترم المثل السييء. فبذلك ساد الإسلام كدين سلام، دخل القلوب قبل دخوله العقول والتصرفات، والفواء خير باب العقليات، إذ العقل الصحيح هو العقل الحسي نتاة تنمية المشاعر البشرية النبيلة.
إن من يفتري على الإسلام بالدعوة إلى فرض الصوم قهرا وتجريم عدم الصيام في الشهر الكريم ليجعل من نفسه صنما معنويا ومن آرائه أحكاما تناقض أحكام الدين الإسلامي ومبادئه وروحه كما هي في مقاصده السنية. إنه في ذلك ليتصرف باسم الإسرائيليات التي تغلغلت في ديننا الحنيف منذ القدم، لا باسم الإسلام، بما أنه لا كهنوت ولا تعسف بالرأي في دين محمد وقد جاء رحمة للعالمين.
من أجل فتوحات مكية تونسية!
لقد حان الوقت لعودة الوعي الإسلامي الحق في هذه الربوع حتي يحقق فيها الإسلام بحق فتوحات مكية جديدة تكون تونسية فنحي ما انقطع في غرب شرقنا منذ هجرة ابن عربي لها بعد موت أستاذه ابن رشد الذي حاول إنقاذ روح الإسلام النيرة دون جدوى؛ فانتفع الغرب بفكره وانكسر الإسلام بالشرق تحت نير الفكر السلفي.
لنعمل على إحياء علوم ديننا بالحرص هذه السنة ونحن في بداية الشهر الفضيل على نبذ كل ما يشينه من فكر ظلامي فنمجد حرية كل من أقام على هذه الأرض الطيبة في الصيام أو عدم الصيام، ونحرص على عدم قتل الدورة الاقتصادية بها بخنق التجارة كامل اليوم بدعوى لا صحة فيها ولا أخلاق ولا تعاليم دينية صادقة. إن بلدنا لفي أمس الحاجة إلى إنعاش الاقتصاد الذي هو عماد صحتها وصحة شعبها، تماما كما إن الدين الصحيح هو عماد صحتها الروحانية.
ليكن رمضان هذه السنة رمضان الخير والبركة، رمضانا مباركا، يصوم فيه من يريد ويفطر فيه من يشاء علنا، دون خوف أو رهبة! لقد كرّس ديننا حرية الاعتقاد، فكيف لا نعمل بها في جانب من جوانبه، وقد ذكّر الله في محكم كتابه رسوله بأنه مجرد مبلغ للرسالة لا مسيطر على عقول وتصرفات الناس؛ فهل نحن في تطبيق الدين وأحكامه أفضل من الرسول الأكرم؟
ليعمل كل من تجاهل دينه فاتبع نزغاته وأهواء نفسه الأمارة بالسوء على التزام الجهاد الأكبر الذي ما فتىء الإسلام يدعو إليه، ألا وهو جهاد النفس. وليكن جهاد نفسه هذه السنة في التزام الصوم عن المحارم والمكاره، وأولها الجنوح لفرض الصوم على من لم يرده.
إنه الإسلام الذي يسمح لمن لم يرد الصوم بعدم الصيام، ولا راد لتعاليم الإسلام ولروحه ومقاصده إلا من عمل عن حسن أو سوء نية على مخالفة تعاليم الدين القيم. فهو بذلك بخرج عن عروة ديننا الوثقى التي هي حرية واحترام متبادل في حرمة سيادة الإنسان وحرمة اجتهاده وتصرفه. فالإسلام يضمن له ذلك، بل ويثيبه حتى على الخطأ، إذا اجتهد ولم يصب، مادامت النية حسنة.
فلتكن نيتنا حسنة، ولنكتف بإعطاء المثل الحسن ولا ننقضه بتصرف النوكى، فنكون كتلك التي تنقض غزلها أنكاثا من بعد قوة. هدى الله الجميع لرمضان مبارك على من صام وعلى من لم يصم. فهذا هو الإسلام الحق، إسلام النوايا الحسنة، لا الإسلام التجاري الذي يحاكي ما في الغرب من خزعبلات وتمويهات من باب أحكام دينه المادي، دين السوق الرئيس.
نشرت على موقع نواة