هذا
هو عيد الشغل يعود في زمن الثورة، فإذا
هو، على ما يبدو، من نفس نوعية الأعياد
التي كان العهد البائد يحتفل بها؛ فيتسارع
على البال ما قاله الشاعر :
عيد
بأية حال عدت يا عيد |
بما مضى
أم لأمر فيك تجديدُ
فالأمور
على حالها بالبلاد :
المنظومة
القانونية للعهد البائد هي نفسها وباسمها
تغتال الحريات ويُسجن الفكر الحي؛ والدستور
مهزلة خاصة في باب الحقوق والحريات؛
والسياسة الإقتصادية لم تتغير بل هي أشد
شراسة وضنكا، بما أن البلاد على وشك رهن
سيادتها الإقتصادية بقرض سيسلب الشعب
القليل الذي بقي له منها لسد رمق الجوع؛
والتطاحن المذهبي على أشده في وطن ما عرف
أساسا إلا التعايش السلمي ولا امتهن على
مدى القرون إلا التسامح لحل مشاكل أبنائه
أيا كانت حدّتها!
والغريب
أن كل هذا يقع باسم الدين وهو بريء منه
وممن يدعي الانتماء إليه بتصرفات كهذه.
فأين نحن من
الإسلام الحق؟ وأين نحن من الثورة، لأن
الإسلام الحق ثورة مستدامة، فلا يتناقض
مع أي ثورة، خاصة الشعبية منها، كما كانت
في تونس؟
لقد
تعددت مظاهر التزمت ببلادنا باسم الدين
وتنوعت الخروقات لسماحته ورحابة تعاليمه
التي تبقى من أسمى الأخلاقيات التي تحترم
الإنسان وحقوقه في كونيتها دون تضييق أو
تزييف. كل
ذلك يقع باسم قراءة إما أن تكون ذلك الفهم
الأعرابي للدين الذي ندد به القرآن ونبذته
السنة الصحيحة، أو تلك العادات اليهودية
والمسيحية التي دخلت ديننا لتحريفه كما
حرّفت دين موسى وعيسى من قبل؛ ولا يخفى
على لبيب الدور الخطير الذي لعبته
الإسرائيليات في التاريخ الإسلامي.
يقول
المتنبي في قصيدته التي ذكّرت ببيت منها
أعلاه :
انى
نزلتُ بكذّابين ضيفهم |
عنِ القِرى
وعنِ التِرحالِ محدودُ
جودُ
الرجال من الأيدى و جودهمُ |
مِن اللسان،
فلا كانوا ولا الجودُ
ولاشك
أن الحال هي نفسها اليوم بتونس وقد كثر
الكذب فيها واستشرى النفاق!
ونحن عهدنا
هذا من ساسة العهد القديم، ولكن الغريب
أن تتواصل هذه المهزلة مع نساء ورجال
النظام الذي يدعي الثورية!
بل والأنكى
والأدهى أن يتم تمرير ذلك باسم الدين
القيم، دين الإسلام الذي هو أولا وقبل كل
شيء صراحة وسلام!
إن
ثورتنا في خطر لأن إسلامنا أيضا في خطر؛
فليس هذه المرة الأولى التي يحاول مسخه
من لا يفهم ديننا على حقيقته فيعطيه حق
قدره بسلامة فهم حكمته البليغة والتزامه
بأحكامه وتعاليمه في احترام الذات البشرية
بلا تمييز قط ولا تفرقة أيا كانت، لا بأن
يفهمها الفهم الأعرابي المنبوذ شرعا ولا
التأويل اليهودي والمسيحي الذي فضحه
تاريخنا أي فضيحة.
إن
الإسلام سلام في كل شيء، في الفكر والعمل
والخطاب. إن
الجهاد الحقيقي اليوم لَهو الجهاد الأكبر
بعد اندثار الجهاد الأصغر بانتصار الإسلام
وتمكنه من القلوب بالعالم أجمعه وبدون
حدود. فلا
جهاد أصغر اليوم بعد أن عم الإسلام الكون،
إذ ليس هناك إلا الجهاد الكبّار، ألا وهو
مجاهدة النفس لتزكيتها.
فالفتح
الإسلامي في يومنا هذا لا يكون إلا بهذا
الجهاد الأوحد، وذلك بفتح القلوب لتعاليم
الإ-سلام،
وهكذا أنا أقترح كتابته للتأكيد على
محورية السلام في الإسلام إضافة إلى كنهه
كحرية حقيقة وافتراضية في نفس الآن.
فتعاليم
ديننا سمحة تمجّد حرية الذات البشرية
وتمام انعتاقها من كل عبودية بشرية، إذ
لا إسلام من العبد لأموره إلا لله خالقه.
أما ما يخص
ذاته وشخصه وفكره ومذهبه في الحياة، فلا
قدرة لأحد التدخل فيها لأن المسلم حر؛
وهو مثال الحرية في كل شيء.
فكيف
يجعل اليوم من يدّعي الإسلام القيود في
أعناق البشر والأغلال في أيديهم، فيمنع
هذا من تصرف شخصي في أهوائه داخل حرمة
حياته الشخصية وقد ضمنها ديننا، ويهدد
الآخر بالقتل من لم يصلّ وقد حرره الله
من كل عبودية، مؤكدا أن لا إكراه في الدين
ولا تعسف ولا مرءات، حيث أن الإسلام أولا
وقبل كل شيء قناعة حرة وتصرف لا يأبه
بالمظاهر؟
وكيف
ندّعي الإسلام ونحن نسعى لخنق أفضل ما
فيه، ألا وهو حرية الفكر وطلاقة الرأى؛
فإذا حالة سجوننا في عهد الثورة كحال سجون
الديكتاتورية المقيتة، يقبع بها إلى جانب
السارق والقاتل من ليس جرمه إلا التفكير
الحر كما أدبه على ذلك سيد الآنام وحثه
عليه ديننا الحنيف؟
وكيف
نتكلم باسم الإسلام وقد أدرنا ظهرنا لخير
ما فيه، ألا وهو مساندته للمستضعفين
وتحريضه على التقشف ونبذ متاع الدنيا؟
فها نحن نرى حكامنا، نساء ورجالا، ومن
بينهم دون تردد أو خجل من لا يفتأ يتكلم
باسم الدين، وقد أخذوا بزخرف الدنيا
وتعلقوا بأوساخها، كما قدم لنا في ذلك
نوابنا أفضل مهزلة بالمجلس التأسيسي
وكأنهم لم يدخلوه إلا لمصالحهم المادية!
لقد
بلغ السيل الزبى وبرهن الحزب الحاكم ومن
معه على نفاقهم، لا باسم الحريات فقط، بل
وأيضا، وذلك ما هو أخطر، باسم أقدس ما
لنا، أي ديننا!
فهلا حان
الوقت لعودة الوعي والاستفاقة من هذه
الغيبوبة التي تجعلنا نتصرف خلاف ما
نعتقده حقا؟
أقول
هذا لأني لا أشك في أن هناك حقا داخل صفوف
حزب النهضة وغيره من الأحزاب التي تعينه
على الحكم من لا يريد إلا الخير لهذه
البلاد وشعبها؛ ولكنه سهى عن واجباته
نظرا لما أحكمته فينا سياسة النظام القديم
من نزعة للعمل اللاإرادى وحركات انعكاسية
تنقض قولنا وتخرّب حسن نية فعلنا.
ألا
لقد حان الوقت، أيها الناس، للتيقظ حتى
لا نكون كأهل الكهف في سبات عميق، أو كتلك
التي تنقض غزلها أنكاثا.
إن ديننا في
خطر لأنه أصبح دين الحرب لا السلام، دين
الكراهية لا المحبة، دين البغض لا التسامح،
دين اللعن والتهجير لا دين الصفح والعفو
والغفران؛ وأخيرا وليس بآخر، دين اللهفة
على المصالح المادية قبل واجباتنا
الأخلاقية تجاه شعبنا الذي هو في حالة
يُرثى لها.
أفليس
الله رحمان رحيم؟ فكيف نجعل منه ذلك
الطاغوت التي يقدّس له من لا يعرف دينه،
لأن دينه جاء لهدم الطاغوت وكل الأنصاب
والأصنام التي يبنونها في أنفسهم فلا
يعملون على تطهيرها منها بجهاد أكبر،
تاركينه لجهاد جد صغير ولى زمانه!
وأليس
الله ينصر المستضعفين؟ فكيف ننسى حالة
شعبنا ومطالب السائل والمسكين فيه بأن
نتكالب على المنح والرتب والزيادة فيها
وكأن ما يُصرف لنا بعد ليس فيه من الغلو
ما فحش وكفر بنعمة الله؟
إن
الأدهي أن كل هذا يقع في زمن أصبحت فيه
تعاليم الإسلام منتشرة في العالم اليوم
في كونية المحبة وعالمية العفو والتسامح
وصدق التضامن والتكافل مع البائسين
المعدمين!
لقد
جاءت الثورة التونسية، إنقلاب شعبنا
العظيم على نظام جائر، لإحياء تلك التعاليم
وقد مارسها ديننا الحنيف في فترة مظلمة
لم يكن فيها لا حقوق إنسان ولا قيمة للبشر؛
فإذا بنا اليوم وقد عمت هذه التعاليم نرمي
بها عرض الحائط كأن لم تكن يوما تعاليمنا
وأهم مباديء ديننا.
أيعقل هذا،
يا من يدّعي بهتانا الإسلام؟
ثم
ها أنتم تتكلمون بلا حرج كلام من يهذي ولا
يشعر عن علمية ديننا وكونيته وحسه التضامني
بما أنكم تنفون بأعمالكم كل ما فيه من
علمية وكونية وأخلاقية تكافلية، آخذين
في ذلك بما تفشى في الديانات التي جاء
الإسلام مصححا لها؛ فإذا ديننا أشد تزمتا
منها، وإذا أهله يعملون ولا يشعرون على
إشاعة التحريف الذي نال تلك الأديان في
ملّتنا وقد جاءت للتصحيح والعودة للحنفية
المسلمة، وإذا أغلب ممثلي الشعب الفقير
يرفلون في حلل الثراء الفاحش بلا أدنى
حياء.
إن
الحنفية المسلمة لهي إلف وسلام وهو
الإ-سلام
كما أكتبه، والكل يعلم أن من معاني الحرف
الهجائي الأول في العربية هو الإلف أي
المألوف، وقد ذكّر به القرآن في مزية
الدين على قريش إذ آمنها من خوف في زمن
الخوف وحررها من عبودية في زمن الأصنام.
ومن معاني
الإلف أيضا الملازمة، فأين ملازمة حالة
شعبنا في حاله المتواضعة دون التفرق
والنأي عنه بأبهة الحكم وزخرفه من امتيازات
مادية ومعنوية؟
هذه
الأنصاب اليوم معنوية، وهي مقامة داخل
الأنفس حيث يجب أن تقوم الحرب بلا هوادة
ويحمى وطيسها، لأنها الحرب الحقيقة
والوحيدة التي يقبل بها الإسلام اليوم،
فهي حرب مسالمة تحترم كنهه الذي أساسه
السلام للجميع دون أن تنفك عن الجهاد
للفتح في سبيل الله، ولكنه الفتح الأوحد
الممكن هذا اليوم، ألا وهو فتح الأنفس
والقلوب للإسلام السلام.
والغريب
أن السلف الصالح فهم هذا منذ قرون، وقد
مثلّه خير تمثيل رجالات ونسوة الصوفية
الأوائل الذين أعطوا للإسلام خير تعريف
وأفضل هيئة في التمسك بروح الدين قبل
شعائره ومظاهره، فلا رسم قبل الجوهر؛
والجوهو لهو في مقاصد الشريعة الحقة.
وقد برهنوا
على ذلك بعدم التردد في العيش الزهيد
المتواضع، فكان الزهد دلالة سامية عن
تمسكهم بتعاليم دينهم.
فماذا
نرى اليوم؟ لقد تعددت علامات الثراء
الفاحش بين من يدعي الدفاع عن الإسلام
وتنوعت دلائل رفض التواضع والعيش المحتشم،
فلا اعتدال في شيء بل تكالب على أوساخ
الدنيا والحال أن عامة الشعب تتضور جوعا.
إن
مناسبة الاحتفال بعيد الشغل، وقد كان حق
الشغل من لب الثورة، لهي الفرصة لكل هؤلاء،
إذا كان حسهم الديني بالحقيقة التي يقولون،
على التدليل عليه بقرارات عظمى تتناغم
مع حالة الشعب المنهك اقتصاديا والمتعب
إجتماعيا، فتلبى رغباته ولو على مستوى
المباديء ومجرد الرمز بأن تتنازل عن كل
الإمتيازات التي عهدناها وقاسيناها من
النظام القديم، وتهدم صرح منظومته
القانونية التي تهضم دوما حقوق الشعب
سامحة بالإمعان في ذلك بسياسة لا هي
إسلامية ولا هي ثورية.