هذه
صرخة في آذان كل ثوري حق، خاصة كل من ادعى
المنافحة عن الثورة والذب عن حق الشعب
فيها؛ إنها صرخة صادقة، نابعة من القلب،
فلعلها تكون مدوية لتوقظ الضمائر النائمة
وقد أخذها الوسن فغدت ترتع في دروب هي
أبعد عن أخلاقيات الثورة وعن مطامح الشعب
في الحرية والانعتاق من ربقة الديكتاتورية
الفكرية والمعنوية، وقد تخلص لوحده من
براثن الهيمنة السياسية.
إن
الانقلاب الشعبي على الديكتاتورية جاء
من قلب الشعب الأعزل وبقوة ساعده، فكان
أفضل هدية قدمها الشعب التونسي للعالم
في هذه الفترة العصيبة من تاريخه، وهي
انهيار قيم الماضي ونظامه الذي تمثله
فترة الحداثة، وقيام أخلاقية متجددة
متناغمة مع مطامح الشعوب ونزعتها الروحانية
وتعلقها بالحرية، ألا وهي فترة ما بعد
الحداثة.
وهذه
الفترة هي في أوجها ببلادنا.
إننا
نعيش بتونس هذا المرور المحفوف بالمخاطر
من الزمان المنقضي، ولا رجعة له، إلى
الحقبة الناشئة في كل ما يميّز ذلك من
تناقضات وهزات واضطرابات.
ذلك
لأن كل جديد متجدد لا يلقى الترحاب من قبل
المتعلقين بالقديم، بل حتى ممن يخاف كل
حديث، وإن كان من مناصريه، لما قد يجد فيه
من فقد لعادات وتقاليد ونواميس تعوّد
عليها واستأنس بها حتى وإن أكل عليها
الدهر وشرب فلفظها الشعب.
فهي
تقض أيضا مضجعه وتسلبه راحة باله تماما
كدعاة العودة إلى القديم، فإذا هو يعتقد
مثله أن من شأن هذا القديم أن يُحفظ في
الأصل مع شيء من الزخرف في ظاهره.
ولا
شيء غير هذا يفرق بين أصحاب الماضي ودعاة
التجديد عندنا اليوم.
فهذه
هي الحال مع من قمعه النظام السابق بترسانة
قوانينه، إذ هو يحافظ عليها حفاظه على
بصره، ولا يدري أنه يخبط بذلك خبط عشواء،
فيستعملها لأغراضه الشخصية وقد نسي أن
الحرية لا تتجزأ وأن القانون المجحف يبقى
قاتلا للحريات أيا كان استعماله وأيا كان
مُستعمله.
ماذا
نرى اليوم في بلاد الثورة؟ إن الحريات
تُقمع باسم استبداد جديد هو طغيان المظاهر
الخادعة لمفهوم ديني خاطيء ودكتاتورية
الرأي القامع للفكر المخالف بفهم سقيم
متحجر للحريات لا أساس للعقل فيه ولا مكان
للأخلاق النبيلة ولا عودة للدين الصحيح
!
فباسم
العقل والأخلاق والدين، هذا يشنّع على
من يتكلم بحرية للتصريح عن خيبة أمل له
الحق في التعبير عنها بكل الوسائل ما دامت
من باب التعبير الحر المضمون مبدئيا؛
وذاك يشهر بمن يتصرف بطلاقة في جسده وبدنه
وقد مكنه من ذلك دينه الذي يقدس الحرية
البشرية حق التقديس، لأن في ذلك الإعزاز
الكبار لتقديس العبد الحر لخالقه؛ والآخر
يُحجّر عليه تبادل أفضل ما في الإنسان من
أحاسيس مع غيره، وكأن قبلة بالشارع أصبحت
أكثر خطورة من قنبلة ونيرانها أشد وأعتى
على الأخلاق من الظلم والإجحاف الذان
يكمنان في مثل هذا التحجير.
ثم
باسم الشعب، والشعب من ذلك بريء، يقع تتبع
هذا وذاك والآخر، فيزج بهم السجن أو يُسوّد
سجلهم العدلي تماما كما كان يفعل النظام
السابق بآلياته القمعية، وكأن لم تقم
ثورة بهذه البلاد!
فألا
أفيقوا من غفوتكم، يا أيها العباد!
إن
الثورة ما كانت يوما مطية لأغراض شخصية
وغايات مذهبية وحسابات إيديولوجية؛ إنها
ثورة على كل قديم، ومن هذا القديم جملة
القوانين القامعة للحريات التي لا تزال
قائمة في هذه البلاد دون أن تتحرك الضمائر
الحية لتسقطها كما أسقطت من كان يستعملها
ويستفيد منها!
فهل
انتخب الشعب ممثليه للتصرف لصالحهم
بقوانين العهد القديم أو لهدم النظام
السابق بكل ما فيه من دناءة وخسة هي أساسا
متخفية في ترسانة القوانين التي كان
يستعملها يوميا لقمع الشعب؟ ليست الثورة
الحقة بشيء إذا اكتفت بتحرير دستور جديد
ولم تعمد قبل ذلك، وبدون أي تردد أو إمهال،
إلى إبطال كل القوانين المخلة بجميع
الحريات وإلغائها.
إن
التشدق بالتعلق بالديمقراطية لا ينطلي
اليوم على أي تونسي، حتى على الأطفال
والرضع من الشعب، لأن للتونسي الأصيل من
الوعي الطبيعي ما يمكّنه، وذلك منذ ولادته،
من التفريق بين الحق والباطل، بين منطق
التضليل وكلام الصدق النابع أصلا من القلب
الصافي النزيه.
فهلا
حان الأوان لحكامنا، وقد أضاعوا الوقت
الثمين في تصفية حساباتهم والتمتع بلذات
الحكم الخادعة، من الالتفات لمصالح الشعب
وما يلحّ في الحصول عليه من حقوق وحريات؟
هذا
آخر من أبناء الشعب يُقدم البارحة على
حرق نفسه بقلب العاصمة، فلا زعزع ذلك
الحدث الجلل شيئا في نفوس حكامنا، بل زاد
البعض عنتا وتعنتا في قمع الحريات، بينما
هي مطلب الشعب الأول والأخير، لأن كل شيء
رهين بحرية الإنسان التامة.
نحن
في السنة الثالثة من ثورة الياسمين، وقد
ظن البعض ممن عاداها أن الفترة كافية
لذهاب أريجه في مهب الرياح وأن ييبس عوده
ويذبل عرفه؛ فإذا هو يعمل ليلا نهارا على
استعادة ما يعتبره حقه المغتصب وتراثه
التليد.
فإذا
من كان من ضحايا هؤلاء في وقت ليس ببعيد
يعينهم في مسعاهم، عن قصد أو عن غير قصد،
وذلك بعدم الالتزام في الوقوف مع الشعب
ضد كل قمع لحرياته ونصرة مطالبه المشروعة.
إن
هذه المطالب معروفة، فهي أشهر من علم على
رأسه نار، وقد لخصناها في مبدأين إثنين
لا ضرورة لثالث لهما، إذ هما يختزلان كل
مطامح الشعب، وهما حق الكرامة وحق الحرية.
ففي
حق الكرامة حقوق العمل والعدل والحياة
الآمنة؛ وفي حق الحرية، حقوق الديمقراطية
والطلاقة في التنقل والقول والرأي واحترام
المخالف أيا كان وأيا كانت منازعه وتصرفاته.
فأين
نحن من هذا، يا دعاة الثورية؟ أين ثورتنا
من مبادئها وأنتم تتغنون بها، دون حياء،
نهارا مساء بكلام معسول ولغة حطبية، ودون
احترامٍ لمشاعر شعبٍٍ يُقمع في الآن نفسه
في أعز ما لديه، ألا وهو حريته!
لقد
حان الوقت لأن يتحمل الكل مسؤولياته، فلا
يكتفي بورقة التين التي لا تُغطّي عورته
السياسية.
فالحاكم
في عراء مخجل وهو يظن نفسه يرفل في أفضل
الحلل السياسية وأفخر الخلع الإيديولوجية؛
همّه التعرض لمن تصدّى لعنته هذا بأن
تعرّى حقا على مواقع لا تخص غيره، أو بأن
فسح المجال لقلبه يبث شجونه بكل طلاقة،
أو بأن حاول التخفيف من همومه بتعاطي الحب
والعطف والوداعة على مرأى ومسمع من شعب
عُرف منذ الأبد بسماحته ورقة قلبه.
إن
المظاهر الفاعلة للتصدي للدكترة والوسائل
النافذة والذرائع السالكة لذلك لهي اليوم
في الحب وتعاطيه، وهي في الحسية الكامنة
في أعمق أعماق التونسي، بل وحتى العربي،
منذ قدم الزمان، إذ هما من خصائصه النفسية
الأصيلة.
فلا
فائدة في التصدي لخصائص هي، أولا وآخرا،
من الصفات البشرية النبيلة؛ علاوة على
ما في ذلك من انتهاك لحرمة الثورة وخرق
لمبتغيات الشعب فى أعز ما تحمله من تطلعات!
فألا
أيها الثوري الحق، أين أنت والثورة بأمس
الحاجة إليك؟ أين أنت لإنقاذها من المهلكة
التي تقودها جحافل النظام القديم وقد
اتحدت في ذلك مع من ادعى نصرة الثورة وهو
يخنقها في أعز وأنفس ما فيها ويمثلها، أي
حرية الشعب وتعلقه بحقوقه، كل حقوقه بلا
أي قيد أو شرط؟
لا
مناص اليوم لكل من ادعى الثورية بصدق
وإخلاص من أن يدلل على ذلك بمساندة هذه
الدعوة الملحة، بل والعمل على تنفيذها
حالا، بإيقاف العمل بدون تأخير بكل
القوانين الموروثة من العهد القديم.
فهي
خانقة لا محالة للحريات، قاتلة للتعبير
الحر والتصرف الطليق للإنسان في نفسه
وذاته، وقد حرره الله من كل عبودية إلا
له بالتسليم لخالقه بكل حرية بصفته تلك،
أي النفس الحرة الأبية التي لا تقّدس إلا
من علاها في الصفات والسمو.
إن
الشعب لينتظر السياسي الصادق الصدوق،
الفهيم لدينه ولشعبه، لتلبية رغبته
الملحة؛ أفتراه في الحكم اليوم؟ واثورتاه!
هل
من مجيب، أم كلامنا في النافخات زمرا؟
نشرت المقالة على موقع نواة