الفتوى
في الإسلام بين الحقيقة والخرافة
أصبحت
بلادنا منذ الثورة مرتعا لكل من هب ودب
للتصيد فيها ونهب أفضل ما أنتجه العقل
التونسي، ألا وهو حرية فكره وسماحة معتقده
وتفتحه على الآخر، كل آخر، أيا كان وأيا
كانت صفته وهيئته وتصرفه.
وهؤلاء
ككل صياد مخالف، يصيد محرّما، لا يهمه
إلا صيده، فهو يتعاطى حرفة الجهالة الجهلاد
دون احترام سنة الطبيعة مثلا التي تقتضي
من الصياد احترام فترات معينة لتعاطي
مهنته، فلا يمنع تجدد نسل ما يصطاد.
وليس
هو في ذلك إلا كهؤلاء البحارة الذين لا
يزالون بجرر قرقنة يعتدون علْ حقوق غيرهم،
بل وحقوق أبنائهم أيضا، بالصيد بالكيس
رغم مضرته الثابتة للجميع.
وسلاح
هؤلاء هو الفتوي الإسلامية، وهو من نوع
الأسلحة البيضاء التي يُخصص استعمالها
لأغراض معينة في حياتنا اليومية، إلا أن
البعض ممن يتهور فيريد الإساءة بها ببني
بجدته.
ومن
هؤلاء من يأتي ضيفا علينا من الشرق الغارق
في غفوته الحضارية، فيستعمله للعتف
والتعنيف على هذه الأرض المسالمة وذلك
باسم الدين؛ وما جاء ولا قال به ديننا
الحنيف.
إن
الفتوى في الإسلام مجرد رأي يأتيه المسلم
الذي علم حقا شؤون دينه وتفقه فيه ليبدي
وجهة نظر ورأي يفيد بهما عامة أخوته
المسلمين.
فما
الفتوى بالأمر ولا القانون ولا الحكم
الإلاهي؛ لأنه لا حكم إلا في القرآن، ولا
تفسير وتأويل للقرآن من الواجب التقيد
بهما إلا في سنة الرسول الأكرم الذي يجب
فهمها والتمعن من صحتها وخاصة معناها،
إذ قد يخفى على البعض ممن سها عن بلاغة
ديننا الثقافية وحكمته الإلاهية.
هذه
حقيقة الفتوى في الإسلام وقد أصبحت اليوم
ذلك السلاح الذي يستعمله من قام يتكلم
باسم الدين وهو لا يقول إلا برأيه وجهل
أن الرأي الحقيقي الحر يحتمل الرأي
المخالف، وأن لا مجال لكلام يتقمص صورة
الحقيقة الأزلية فيتنزل بمنزلة الكلام
الإلاهي.
فالحقيقة
الواحدة الوحيدة هي في المصحف الشريف،
وهي ليست في حرفه فحسب بل وأساسا في مقاصده
التي نجدها أساسا في روح النص.
إن
البعض من فقهاء الإسلام اليوم، أو من
يدّعى ذلك، لم يتبوأ مثل هذا المقعد إلا
أصالة عن نفسه وبالأصالة عن غرورها خاصة؛
فلقد رأينا الفقهاء الذين حُق لهم الاعتداد
بهذا المسمى ينكفون عن ادعائه، فلا يُدلون
بحكمة أو معرفة، بل يؤكدون صراحة أنهم من
عموم المسلمين، لا يختلفون عنهم إلا في
الإجتهاد وإعمال الرأى، وذلك مما دعا
إليه الإسلام وحض عليه.
بل
إن فقهاء هذا الزمان، و قد انتصبوا هكذا
لغسل دماغ المسلمين، ليتصرفون كأحبار
يهود وباباوات النصارى؛ فقد نسوا أو
تناسوا أن لا كنيسة ولا بيعة في ديننا
الحنيف الذي جاء بثورة عارمة وشاملة، هي
عقلية بالأساس، فجعل العلاقة بين العبد
وربه مباشرة بلا واسطة.
فلا
حاجة للمسلم البتة لفقيه، وبالأخص من نوع
هؤلاء؛ فإذا أراد التفقه في دينه، فله
ذلك مع ضرورة معرفة لغته وقواعد دينه بلا
أدني شك، وليس هذا بالمستحيل اليوم.
إن
هؤلاء الفقهاء الصيادون الذين يعتدّون
بعلمهم ويتبجحون بفقههم لَينتصبون على
رؤوس الملأ كتلك الأصنام التي جاء بهدمها
الإسلام.
فهم
يتكلمون كما كان يفعل الكهان ووسطاء
الوحي في عهود غبرت، كأن الحقيقة لا تخرج
إلا من أفواههم، وغاب عنهم أنها ليست إلا
في كتاب الله وسنته.
والذي
وغاب خاصة عن عقولهم، ولا عجب في ذلك وهي
كأحلام العصافير، أن الحقيقة الإلاهية
هي حكمة سنية ليس في قدرة العقل البشري
فهم مكنونها الفهم النهائي، إذ عليه أن
يحكّم عقله فيجتهد دوما، لا للوصول إليها،
إذ هذا من فرض المحال، بل للقرب منها،
وذلك بالأخذ بكل ما يأتيه به العلم وتوفر
له كل وسائل المعرفة؛ فالإسلام دين عقل
وعلم ومعرفة.
وهو
بالأخص هذا الدين الكوني الذي لا يستقيم
إلا إذا كانت تعاليمه للبشرية جمعاء، فلا
تختص بعنصر أو جنس بشري أو بعادات وتقاليد
معينة.
فما
يتقوله بعض هؤلاء الدعاة القادمين لنا
من قاع التاريخ وقد أكل الدهر على فكرهم
وشرب إلى الثمالة، ما يتقولونه لا يمت
بصلة بديننا الأغر.
فكلامهم
مجرد تمسك بظاهر نص ينفي روحه، والروح
أعلى وأجل من أن تلخصها فتواهم التي ترشح
بالكره للعنصر البشري، بل ولكل ما علا به
الإسلام من محبة وتسامح وعدل وإنصاف.
إنهم
في أقوالهم لا يمررون، دون أن يشعروا،
إلا نظرتهم الشخصية للحياة ونمطها، فهم
دعاة لنظام إجتماعي معين ومنظومة سياسية
توظف الدين لأغراضها ومصالح الساهرين
على حظوظها، فلا تحترم روح القسطاس فيه
ولا صبغته الإنسانية وضرورة خدمته لحقوق
كل المستضعفين في الأرض.
فليعلم
المسلم الحق ذلك وليتنبه إلى أن فتاوى
هؤلاء المرتزقة هي فتاوى لنمط حياة ولفكر
ظلامي، وليست بالمرة هذا الدرس التطبيقي
والفعلي للإسلام كما يدّعون.
فالإسلام
أولا وقبل كل شيء دين رحمة وسلام، لا دين
بغض وكراهية؛ فلا إسلام بلا سلام ولا
إسلام بلا تسليم لله ولرسالته الأزلية
في المحبة لخلقه، وقد أحسن خلقه، بلا قيد
ولا شرط.
إن
المسلم الحق اليوم والبارحة وغدا أيضا
لهو من سلم الناس من يده ولسانه، والمؤمن
الصحيح الإيمان هو الذي يدعو إلى الإسلام
بالتي هي أحسن، بأن يكون دوما، حتى وإن
لم يأخذ بشعائره، القدوة والمثل الأْعلى
في كل شيء مع أخيه الإنسان، لأن إسلامنا
أكثر من دين.
فالإسلام
ثقافة أيضا، بل وهو أساسا كذلك، لأن الدين
من الثقافة؛ وهو ثقافة عالمية قبل أن يكون
مجرد شعائر؛ إذ الشعائر أيضا من الثقافة،
فتأتي الثقافة بالشعائر ولا تأتي الشعائر
بالثقافة!
لذا،
ليس المسلم ضرورة من صام وصلى ثم تجند
للبلاء فأفنى فيه حياته وأفتى، بل هو من
صام أولا عن القول البذيءوعن العيي من
الكلام، وتلك صفة الأغبياء والزعار الذين
لا يعرفون البيان والتبيين وجوامع الكلم،
وقد جاء رسولنا الأكرم بكل ذلك.
وهوأيضا
من صلى بعمله الخيّر وكسبه النابذ لكل
تظاهر وتصلف وعنف ولأبسط مظاهر البغض
والكراهة، فكانت صلاته في كل لحظة وآن
بالتزامه في نفسه قبل كل شيء مباديء
شريعتنا.
هذا
هو الإسلام الذي عرفناه ونعرفه في تونس
وقد مدحه ابن عاشر بأن تغنى بمثل الجنيد
السالك.
وهذا
هو الدين الذي نأصّل له ونريده في تونس
الثورة!
فليكن
التونسي، في بلادنا الجميلة، ذاك المسلم
الحقيقي الآخذ بحقيقة الدين في روحه
النيرة لا في حرفه، خاصة كما يحرّفه أحبار
اليوم ممن امتهن سياسة الفقه والإفتاء
بجهالة؛ فقد عرفوا النزر القليل من دينهم
وغابت عنهم منه أشياء على أهميتها، وخاصة
حكمة الله في خلقه وعلاقته المباشرة معهم
ورحمته التي لا حدود لها، علاوة على عالمية
تعاليمه وعلميتها.
ألا
لقد حان الوقت، أيها المسلم الضال عن دينك
الحق، للخروج من دهاليز الفكر التي ألزمك
العدو ولوجها، فالتزمتها وبقيت قابعا
بها وقد زال اليوم عنك القيد وتحررت!
عليك
الخروج من هذه المغاور إلى وجه الأرض؛
فكيف العيش بين الحفر وعندك الإسلام، دين
الحرية، وهو كبساط الريح يحملك على أجنحته
أين شئت وأنى أردت؟
إن
ديننا بتعاليمه المتسامية تسامي العقاب
على قلال الجبال والنار على رؤوس الأعلام
يقتضي منك اليوم التعالي لبلوغ السماوات،
وأنت تعرف أن همة بني آدم، إذا صدقت النية
عنده وحسنت، من شأنها أن تجعله يدرك ما
وراء العرش فيناله بقدرة الله العلي
العظيم!
فارفض
دعاوى الكره وفتاوى الجاهلية من هؤلاء
القناصة لنظم ديكتاتورية، وقد أطحت
بإحداها، وقل لهم بكل فخر :
أنا
مسلم تونسي، أرفع رأس بلدي عاليا بين
الأمم بأن أعيد لرسالة الإسلام كونيتها
وعلمية تعاليمها!
وليحتفظ
من زارنا فادعى وعظك بعلمه ووعظه، وقد
غاب عنهم أنك بالغ راشد فطن وأن إسلامنا
وما فيه من عظمة وعلو كعب لا تطاله عقولهم
التي دأبت على حياة المغاور والدهاليز
فهابوا صعود الجبال وارتضوا العيش بين
الحفر.
فأنت
اليوم، أيها التونسي الحر، المنارة التي
من شأنهم أن يهتدوا بها، لا العكس.
ثم
ذكّرهم بإسلامهم النيّر العذب المنابع،
وقل لهم بكل لطف ودعة وصدق سريرة ،كما عهد
منك ذلك تاريخ البشرية :
من
يكذب على الدين الإسلامي الحنيف، دين
البشرية جمعاء، فمقعده في النار؛ هداكم
الله، يا أصحاب الجاهلية الجهلاء، لمحجته
وكفاكم عذاب سقرَ!
نشرالمقال على موقع نواة