في
ذكرى استشهاد الزعيم المناضل فرحات حشاد،
لعل خير تحية لروحه هي إعادة نشر مقالته
الرائعة التي صرّح فيها بحبه لهذا الشعب
التونسي العظيم؛ وقد نشرت بصحيفة الحرية
في عددها الصادر يوم 21
ديسمبر
1951 وذلك
قبل ما يناهز سنة من اغتياله في مثل هذا
اليوم من شهر ديسمبر 1952.
ومن
المفيد الإشارة، وذلك حقا من المفارقات
التاريخية التي لا مجال لتجاهلها، إلى
أن فرحات حشاد كتب مقاله هذا بعد شهر من
حادثة النفيضة التي يشير إليها بالمقال.
وللتذكير،
تعود هذه الحادثة إلى يوم 21
نوفمبر
1951،
وهي تتمثل في اضراب عن العمل لعمال هنشير
النفيضة، ولكن السلطة الاستعمارية رفضت
إضرابهم وقاومته بقساوة مما أودى بحياة
خمسة من العمال، منهم امرأة حبلى بتوأمين،
فكانت هذه الحادثة صدمة عنيفة للتونسيين
كافة.
وفي
اليوم ذاته، أي يوم 21
نوفمبر
من العام المذكور، ألقى فرحات حشاد خطابا
ندد فيه بقوة بالمجزرة الرهيبة، معتبرا
ذلك اليوم يوم حزن وحداد وفي نفس الوقت
يوم اتحاد وفرح لأنه قدّم للتونسيين جميعا
الدليل على أن القوة تواجه بالقوة، وأن
خلاص تونس وشعبها في بالنضال المستمر
لأجل الحرية.
وقد
صدق شاعرنا الشابي إذ قال في فلسفة الثعبان
المقدس :
لا
عَدْلَ، إلا إنْ تعَادَلَتِ القوَى
وتَصَادَمَ الإرهابُ بالإرهاب
ولعل
الشأن اليوم هو نفسه في أبعاده المأساوية
مع حادثة سليانة وتبعياتها، مثل الهجوم
على مقر الإتحاد العام التونسي للشغل.
ولا
شك أنه ليس بإمكان الحكومة الحالية غير
العمل بنزاهة وجدية حتى لا تبقى الأمور
كما هي عليه، فلا يعيد التاريخ نفسه على
بضعة أيام من ذكرى انبعاث الثورة التونسية،
هذا الإنقلاب الشعبي المجيد، ذلك الشعب
الذي أحبه فرحات، فأحب الشعب حشاد.
وإليكم
المقال الذي استسمحت فيه روح مناضلنا
العظيم إضافة فقرة وحيدة إليه جاءت بعد
ذكره حادثة النفيضة، حتى يتلاءم الماضي
مع أحداث اليوم، فيتناغم الحاضر مع ما
اندثر وهما على شديد الوصال والاتصال،
خاصة والبعض يعمل على العودة بنا إلى
الوراء، والشعب لهم بالمرصاد!
وقد
حصلت لي رؤيا حق مع روح المناضل النزيه
كان فيها ردها أن فرحات لا يزال بيننا،
إذ هو يناضل مع كل تونسي تواق للعزة والحرية
والكرامة.
ذلك
أن بلادنا تعيش فترة حاسمة في تحررها من
الماضي المقيت، وكل تونسي أبيّ، كما أحبه
فرحات، لهو فداء لحريتها من ربقة كل أنواع
الاستعمار، خارجيا كان أو داخليا، وباسم
أية سلطة مفارقة كانت.
وهي
ذي مقالة فرحات حشاد العظيم كما أثبتها
التاريخ مع إضافة الفقرة المستلهمة من
روحه، وهي السابقة لما قبل الفقرة الأخيرة،
ألمعت فيها لأحداث سليانة المناضلة :
أحبك
يا شعب تونس الذي امتحنك الدهر وامتحنته
فعرف فيك الشجاعة مع الاخلاص وعرف فيك
الصبر مع المثابرة .
أحبك
لما فيك من شعور فيّاض وإحساس نبيل، ولما
تكنّه من عواطف عند النكبات ومن تآخي عند
المحن، وأحب فيك الإقدام عند اقتحام
الشدائد وبذل جهد المستطاع لانتشال الضعيف
عند الحاجة .
أحبك
في وحدتك عند المصائب وتكتلك أمام الخصم
وصمودك أمام العدوان.
أحبك
بما اشتمل فيك من خصال تفاخر بها، وصفات
حميدة ترفع رأسك، وأحبّك لحبّك للعمل
واعتصامك بمبادئك المقدّسة، وأحبّك
لمشاطرتك أفراح المظلوم عند انتصاره على
الظلم ومساهمتك لأتراح المغلوب ومساعدته،
فإذا ما شعرت بخطر يهدد فردا أو قسما من
هيكلك دق قلبك دقة واحدة واتجهت مهجتك
كلها لدفع الضرر.
لقد
أصبحت، أيها الشعب التونسي النبيل، مثال
الوحدة الصادقة يعسر على خصمك تفكيكها
مهما حاول ومهما سعى وتفنّن في بث الخبث
والدسائس، وليست هاته الوحدة مصطنعة أو
ملفّقة، بل هي وحدة متينة حقيقية واقعية
ملموسة تتجلى في أبهى مظاهرها.
فأحبّك
حين تبحث وتُكثر من البحث عن مجرى أمور
بلادك وسير قضيّتك، وحين تنتقد، وحين
تصيح، وحين تغضب، وحين تدبّر؛ وأحبّك حين
تدافع عن مختلف النظريات التي تخطر ببالك
في سلوك السياسة العامة، وحين تستفسر
وتستجوب وتناقش وتحاسب؛ ولكنك تترك
النزاعات جانبا عند الشدائد وتنسى التشاكس
عند العواطف، فتهب من كل صوب ومكان، وتتخلى
عن شغلك ومصنعك، وتندفع بكل قوتك حيث
تتلاقى ببعضك بعضا في صف واحد، صف الشعب
الموحد الهدف والكلمة، صف الأمة المكافحة،
صف الحق المدافع عن كيانه والمناضل في
سبيل تحريره.
فأميرك
ووزيرك وقائدك وفلاّحك وتاجرك وعاملك
ومتوظفك وصانعك وطالبك وكبيرك وصغيرك
ورجالك ونساؤك وطبيبك وأستاذك وجاهلك
وعالمك وشيخك وشبابك وغنيّك وفقيرك.
و
تقف بجميع أفرادك وطبقاتك جنبا لجنب
مستعدّا للطوارئ، صارخا في صمتك في وجه
العدو بما فيك من إيمان وثقة في نفسك،
صرخة تذهل النفوس المعتدية وتزعزع أركان
الظلم والجبروت، فيتقهقر الخصم وهو محتار
ولا يميز طريق النجاة من سبيل الهلاك.
فبتضامنك
فرضتَ احترامك، وبوحدتك ذلّلت الصعاب،
وبتضحيتك عبّدت طريق النصر، وبمثابرتك
خذلت العدوّ وصيّرته فاقد الرشد والصواب،
لا يدري أين المصير؛ فلقد انقضى ذلك العصر
الذي تنقسم فيه الأمّة عند الكوارث، فيردع
الخصم ويرتاح باله ويكيل الوعود لمن يريد
التقرّب، ويدوس اخوانه في محنتهم لينال
رضى الطاغي المتجبّر.
لقد
انقضى ذلك العصر الذي لا يحسّ فيه التونسي
آلام غيره ولا يهمّه من أمر الدنيا إلا
ما يعود على شخصه بالغنيمة مهما كان
مأتاها.
فلقد
استبدل شعبنا ذلك العصر بحياة مشتركة في
السرّاء والضرّاء، وأصبح يشعر بأن نجاح
الفرد وسعادته في سعادة الجميع وعزّته
الشخصيّة في عزة بلاده ووطنه، وكرامته
البشرية في كرامة أمته واحترام كيانها
وسيادتها، وأصبح الأمير يلتقي مع أبسط
الأجراء عند المصاب لأن السهم موجّه في
الحقيقة لجميعنا، فنجابه الخطر في وحدة
شاملة، حيث أن الذي أصابه السهم هو أحدنا.
تلك
هي العبر التي أملتها علينا مشاهدة الوحدة
القومية التي تجلت بمناسبة كارثة النفيضة،
وقد كانت عنوانا للتضامن الفعّال وعربونا
للفوز القريب .
سقط
المضربون بالنفيضة فوقفت الأمة بأكملها
منادية بالقصاص، فتجاوبت الأصداء من كل
ناحية، واعتقل المضربون بزغوان والنفيضة
أيضا، فصرخت الطبقة الشغيلة كلها، والشعب
التونسي معها، كرجل واحد في يوم يشهد به
التاريخ أنه من أيام الفخر والذكريات
التي لا تمحى.
وسقط
أبناء تونس الأبية في سليانة على أيدي
إخوانهم الظلمة وما كان ذنبهم غير المطالبة
بسماع صوتهم لأن كلمة الشعب هي دوما
الأعلى، ولا مجال لمن يتجاهلها من كل
سلطان مفارق، فالسلطة والسيادة بيد كل
أبناء هذا الشعب الذي أحبه، لا بمن يدعي
تمثيله وليس هواه إلا حب أسرّة النفوذ
وأبهة الحكم الزائف.
فأحبك
وأخلص لك العمل .
وإن دمت هكذا متّحدا فوالله لن تُغلب أبدا!
فرحات
نشرت المقالة على موقع نواة