من المعلوم المشهور أن رئيس الجمهورية قيس سعيد يقتدي بالفاروق عمر في أدنى تصرفاته؛ علما وأن خليفة الرسول الثاني، أو بالأحرى أمير المؤمنين، كانت له جميع الآليات ليفرض سعيه وكسبه لصالح العدل في رعيته. ورغم كل ما بذله، فقد فارق الحياة وهو مهموم بمصيره عند الله إذ اعتقد تقصيره في واجباته.
هذا هو المثال الأعلى الذي يشرّف تونس أن يتعلق به رئيس الدوله بها، على أمل أن يكون له الاعتقاد عند نهاية مهمته أنه نجح فيها تمام النجاح، فلا يشك لحظة في فشله في البعض من جوانبها كما كانت الحال مع عمر بن الخطاب.
ولعله من أبلغ المقولات عن عمر التي تداولتها ألسن العرب والمسلمين أبا عن جد فأصبحت مثلا سائرا مقولته في العبودية إذ اشتهر بقيله «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أنهاتهم أحرارا؟».
ولنسارع بالملاحظة أنها قولة عُممت في صالح نزعة الفاروق الإناسية رغم أنها لم تكن تخص إلا العبودية للعرب بين أنفسهم؛ فما حرّم الخليفة الثاني الرق في الإسلام وإن منعها بين المسلمين. على أن هذا لا ينتقص من شأنه ومن قيمة موقفه في ظروف لم تكن فيها لحقوق الإنسان الكعب العالي الذي أصبح لها. كما أن الحقوق التي دعا عمر لاحترامها والتمسك بها ليست بالطبع مقصورة على الاستعباد المادي، فهي اليوم تمتد لكل استعباد، خاصة الرق المعنوي.
هذا ما يهمنا أن نرى الرئيس سعيد ينتهج منهج الفاروق في التصدي له، أي لكل القوانين التي تستعبد الناس بمنع حقوقهم الشخصية وحوياتهم الفردية فيبطلها قائلا كما قالها مثله الأعلى: «متى استعبد القانون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟»
إن رئيس الجمهورية، لصفته المتميزة في القانون الدستوري، لأدرى من أي أحد مدى تسلط النصوص القانونية بالبلاد التونسية على حقوق الناس وحرياتهم، ما جعلهم يثورون على النظام السابق ويطيحون به. لذا، كان شعاره في الانتخابات والذي لاقى الصدى الأوفر عند الشعب وخاصة الشباب: «الشعب يُريد». فماذا يُيد الشعب، يا سيدى الرئيس؟
نعم، هو يريد الكرامة بالشغل الذي يمكنه من عيش كريم واحترام لذاته اليوم مفقود. ولكننا نعلم جميعا أن الوضع الاقتصادي والمالي لبلادنا وارتباطاتها بمجالها الجيوجستراتيجي لا يسمح لها بتلبية ما يتمناه شعبها؛ وعلى الأقل بالسرعة المرجوة وفي أجل غير طويل.
لكننا نعلم أيضا أن الكرامة هي أولا وأساسا هذا الشعور بالمواطنة التي دون أدنى شك وقبل كل شيء في التمتع بالحقوق الذاتية والحريات الفردية تامة بلا شيء ينغصها. وهذا مما من شأن السلط تحقيقه دون إبطاء إلا إذا تلكأت كما هي تفعل إلى اليوم. فهل من المعقول ومن المقبول لرجل قانون مبرّز مثلك، يا سيدي الرئيس، القبول بقوانين لاغية، أبطلها الدستور ولكن القضاء يطبقها رغم ذلك، ناهيك عن النصوص التي تشرع لتسلط الإدارات على حقوق الناس من خلال أوامر ومناشير لا صفة قانونية لها؟
نعم، لا يريد البعض في البرلمان إرساء المحكمة الدستورية للتكلف بمهمة الإصلاح التشريعي الشامل، لكن هل نقبل بذلك دون ردّ حاسم وساحق؟
فلم لا يتم تجاوز مرحلة التسمية الأولى الخاصة بالبرلمان لأعضاء المحكمة الدستورية إلى التسمية من طرف رئيس الجمهورية والمجلس الأعلى للقضاء، إذ لا مانع من تأويل الدستور بهذه الصفة حتى يكف خرقه من طرف البرلمان وقد أصبح سافرا للعموم؟ فبذلك تجتمع المحكمة الدستورية بأعضآئها الستة أو السبعة (ما دام البرلمان كان توصل إلى اختيار عضوا بعد) وبما أن النصاب القانوني متوفر بهذه التركيبة؟ أليس من شأن مثل هذه الجرأة حمل البرلمان على الكف عن صبيانياته أو قل عبثه الإجرامي في حق البلاد؟
ثم هل من الضروري انتظار المحكمة الدستورية لأخذ القرار في تجميد تطبيق كل القرانين اللاغية، وأيضا الشروع في إبطال كل النصوص الإدارية، وخاصة المناشيري غير القانونينة التي تتحكم في رقاب الناس بلا قانون ولا عدل ولا إنصاف طبعا؟
هي ذي ذكري عيد الجمهوررية التي كانت السنة الماضية مأتما بوفاة المغفور له الرئيس الباجي قائد السبسي الذي لم يخدم حقوق الناس وحرياتهم كما كان بإمكانه أن يفعل ومن واجبه ألا يتوانى عن ذلك؛ فهلا كانت ذكرى هذا اليوم من تاريخ تونس الحديث المناسبة للاحتفال بحق بالجمهورية الجديدة التونسية هذه السنة بإبطال القوانين الباطلة والاعتراف بحقوق الناس وحوياتهم كلها بلا استثناء! أليس هكذا يتم الاحتفال بالجمورية عندما هي حقا ما يعتد به الجمهور أي في بحقوقها وحرياتها؟
عندها، وعندها فقط، من الممكن تشبيهكم حقا، يا سيدة الرئيس، بالفاروق عمر، إذ تفعلون عندها بقيله الشهير بتصرف لا كسؤال بل كتأكيد بالدليل القاطع : متى استعبدت القوانين الناس بتونس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا!