حديث الجمعة: بذور التزمت الإسلامي بتونس (1): لائكية الحبيب بورقيبة
الإسلام اليوم في خطر، إذ بذور التزمت، التي لطالما لم تعرفها بلادنا، أصبحت تجارة نافقة فيه، بل ولها قاعدة في الحكم تنمّيها. ولا شك أن المسؤول الأول عن هذا الوضع المزري لا يخطر بسهولة على البال؛ فهو ما ميّز إرث الزعيم الحبيب بورقيبة من لائكية مفرطة باسم الحداثة. فهي، مع مناهضتها للإسلام الشعبي الصوفي، لم تكن إلا انحيازا أعمى لرأسمالية الغرب الفاحشة، كما تتجلى اليوم متحالفة مع التزمت الإسلاموي، ثمرة السياسة البورقيبية.
والخطر الداهم اليوم لأعظم جراء هذه الشراكة الموضوعية في جرم مسخ الإيمان عند من يدّعى الدفاع عن الإسلام ومن يتعلل بمناهضته. فالأول يتمسك بقراءة سلفية لا رورح فيها ولا مقاصد، بينما هي لب الإسلام؛ وهذا ما جعل من الإسلام دين رهبة ونقمة، بل إجرام، كما هي الحال بداعش الذي يطبق بحذافيره الفقه المعمول به في بلادنا. أما الثاني، أي اللائكي، فهو في قناعته الدغمائية لا يفرق ضرورة بين الدين والدنيا، إذ جاء الإسلام الصحيح بتفريقهما فعلا، بقدر ما هو يرفض الدين لأجل الفهم المتزمت الخاطىء لتعاليمه، الشيء الذي يجعل لهذا المسخ للإسلام مشروعية تخدم ما يطمح له أهل التزمت أنفسهم من إكساء تزمتهم صبغة الفهم الوحيد لدين الإسلام.
روح التحرر في الإسلام:
إن كلا أهل التزمت واللائكية ليس همّهما الدفاع عن الفهم الصحيح، سواء للإسلام أو للتفريق بين الدين والدنيا أي اللائكية، بل غايتهما واحدة: هدم صرح هذا الدين المبني على روح من التحرر أساسه حقوق العبد وحرياته، بما أن المؤمن لا يسلم أمره لغير الله الذي يبقى الرحمان الرحيم بكل عباده، أيا كانت مشاربهم واعتقاداتهم، بما أن الإيمان أعلى من الإسلام. فهما في شراكة موضوعية لا غبار عليها. ونحن نعاين اليوم مساوىء هذه الشراكة الفاحشة، إذ هي التي تمنع أي تطور في فهم الإسلام بتفعيل روح التحرر فيه. لقد تجلى ذلك واضحا من خلال الفرصة المهدورة في تقرير لجنة الحقوق الفردية والحريات، بما أنها تجاهلت الإسلام لشرعنة الحقوق والحريات التي طالبت بها، مكتفية بالاعتماد على المنظومة الغربية، كأن البلاد لا دين لها، وكأن الدستور لا يتحدث إلا عن الدولة المدنية ولا يحيل إلى الإسلام وضرورة احترام مبادئه وما يحرّمه. بينما هذا يقتضي، وباسم الدستور أولا، السهر على التدليل على أن كل الحقوق والحريات التي تفرض نفسها في دولة تونس المدنية، مثل المساواة في الميراث أو الحق في شرب الخمرة أو في الجنس بين البالغين، ثابتة ومشروعة من الزواية الدينية، بل إن احترام الإسلام هو الذي يحتمها.
الإسلام في فهمه الصحيح هو دين حقوق العبد وحرياته؛ وهذا يتجلى في مقاصد الشريعة التي لا بد من أن تتناغم مع روح التحرر في الدين الذي أتى بثورة عقلية على معتقدات السلف الجاهلي، فإذا به يكر راجعا إليها بما أن أهل التزمت جعلوا من معتقدات الأولين من أهل الإسلام، أي السلف، جاهلية جديدة برفضهم الاجتهاد في دينهم، نابذين دعوته الملحة لتثوير معانيه والاعتماد فقط على المرجع الوحيد الصحيح، ألا وهو القرآن. بل الأدهى أنهم لا يتردّدون في تغليب السنة على القرآن بما في ذلك ما انتُحل من الأحاديث على الرسول رغم أن الله أراده مبلّغا لا مهيمنا على فكر العباد.
هذا الذي جعل ما ورثناه من فقه، وهو مجرد اجتهاد بشري لا كمال فيه بالضرورة، أهم من القرآن، يحلل ما حرمه ويحرّم ما حلله، بينما ليس له بحال أن يدّعي النفاذ للحكمة الإلهية؛ فهي تبقى الأفق الذي على المسلم التوجه نحوه، إذ لا علم إلا لله، وليس للبشر التقوّل على ربّهم بتعابير واهية مثل قطعية النص، خاصة إذا ناقضت المقاصد الشرعية، مثل رفض المساواة في الإرث بينما المبدأ الإسلامي هو العدل المطلق بين المؤمنين، لا فرق بينهم إلا بالتقوى؛ فهل التقوى في حصص المواريث غير العادلة بين الذكر والأنثى أو في منع الخمر خارج الصلاة ودون بلوغ السكر واختمار العقل، أو في تحريم الجنس بين البالغين، ومنه المثلي، وهو متواجد بالجنة حسب بعض الفقهاء؟
روح التحرر في القرآن:
مسؤولية الحالة المزرية التي عليها الإسلام اليوم بتونس تعود بقدر كبير بدون أدنى شك إلى لائكية مؤسس الدولة الحديثة بها، الحبيب بورقيبة. وهذا ما نعاينه عند من يقدّس له ممن يدّعي التصدّى لأهل التزمت الإسلاموي بينما هو أقرب منهم في رفضه للمساواة في الإرث مثلا. بل إن هؤلاء المتزمتين، رغم عدائهم لبورقيبة وادعاءهم أنه أضر بدين البلاد، لهم من القرب منه بمكان. فهؤلاء الأعداء المزعومون يشاطرونه رفضه للإسلام الشعبي، وهو المصل الواقي من التزمت؛ وقد كان هذا العداء البورقيبي للإسلام الصوفي أفضل تيرب للتزمت للتمكّن في البلاد وزرع بذور جاهليته لها، هذه الجاهلية التي أصبحنا نعيشها اليوم.
إن من يدّعي مقاومة التزمت باسم الإرث البورقيبي، أمثال زعيمة الحزب الدستوري الحر، ليجهل إلى أي مدى ساهم زعيمهم بلائكيته المفرطة في تنميته. كان هذا من خلال خلافه مع زعيم الحزب الدستوري القديم، الشيخ عبد العزيز الثعالبي الذي، بفشله في مشروعه السياسي، فشل في الحين نفسه في سعيه لتطوير فهم الإسلام من الداخل والنهوض به لتحديث فهمه. فقد مثّل انتصار حزب بورقيبة على حزب الثعالبي انتصار اللائكية المتعجرفة (إذ كان الثعالبي لائكيا دون معاداة للإسلام) على بوادر الفكر التنويري للإسلام في تونس، ما أدّى إلى إجهاض ولادة لعلها كانت تأتي بثمرتها، مانعة ترعرع التزمت في حضن اللائكية البورقيبية.
اليوم لم يعد هناك أي شك في أن حاضنة التزمت الإسلاموي بتونس هي هذا الانبتات اللائكي الذي تجاهل ويتجاهل ما في الإسلام من تحرر ليحكم عليه بالتحجر انتصارا للعلمانية الغربية الرأسمالية التي أناخت بكلكلها على البلاد بعد تحالفها مع زعماء الإسلام المتوحش، إسلام التزمت، الجاهلية الجديدة في دين ممسوخ. لذا، من الواجب بتونس إعادة الاعتبار للشيخ الثعالبي بالتذكير أنه كان مشبعا، تماما مثل الحبيب بورقيبة، بمبادئ التحرّر التي أطلقتها الثورة الفرنسيّة؛ إلا أنه لم يكن منحازا للغرب، إذ كانت له العديد من أفكار مؤسسي مدرسة المنار، ما جعله ينادي بتأويل القرآن تأويلاً متحرراً وفق مبادئ الثورة الفرنسية، ومنها الجرأة على الدعوة إلى وحدة اتباع الديانات السماوية الثلاث.
دوّن الشيخ أفكاره الثورية في كتابه «روح التحرّر في القرآن» الذي أصدره بالفرنسية قبل أن يقع تعريبه لاحقا، وهو بحق من الأصول المبكّرة للفكر الحداثي بتونس. لذلك سارعت فرنسا بالانتصار للحبيب بورقيبة، وحرص هذا الأخير على مقاومة فكر الثعالبي رغم ما كان فيه من جذور لتحرير البلاد، لا من الاستعمار فقط، بل وأيضا من بذور التزمت التي لازمت الفكر البورقيبي في نظرته المقزمة للإسلام كدين متخلف لا كإيمان حقوق وحريات أولا. فهل ننسى دفاع بورقيبة في تلك الحقبة عن السفساري، أي نقاب اليوم، وعن رفض دفن المتجنسين بمقابر المسلمين؟
نذكر في الحديث الموالي كتاب شيخ الإصلاح الإسلامي بتونس لأهميته ولقيمة فكره العلماني الصحيح، لما فيه من تجذر حيوي في واقع البلاد، إذ لو قدّر له النجاح لكان له إجهاض جنين التزمت المتغطرس اليوم والذي بدأ نشأته، خلافا للاعتقاد السائد، بالزيتونة في ثنايا الإسلام الرسمي، فهي تقاسم بورقيبة مسؤولية رعاية بذور التزمت.
نشر على موقع أنباء تونس