حديث الجمعة: فاجعة الرضّع بمستشفى الرابطة نتيجة عقلية الغنيمة، مأساة البلاد الحالية
ليست فاجعة الرضع إلا صورة مصغّرة عما ينتظر البلاد من مآسي، وهي قادمة لا محالة لخطورتها وتغافل الساسة عنها، بل وامتناعهم عن السعي للحد منها ومعالجتها. إنها نتيجة منطقية لعقلية الغنيمة، مأساة البلاد الحالية، هذا الوباء الفتاك الذي لا يبقي ولا يذر، إذ يهوّن كل شيء لأجل التكالب على المصالح، أيّا كانت، خدمة لنظرة مادية مركنتيلية للحياة.
هذه النظرة التكسبية للبلاد، وللأمور فيها كغنيمة لا بد من حيازتها، أصبحت طاغية بتونس، وفيها الشر كله لشعب فقير في غالبيته، رزح دوما تحت نير قوانين الاحتلال والديكتاتورية، ولا يزال بلا حقوق له ولا حريات، بينما من شأنها أن تكون العوض اليسير للتخفيف من معاناته وتعويض ما لا يقدر عليه من ماديات. وهو وباء، بلا شك، من أفحش الأوبئة، فيه التنمية الدائمة للفساد بكل أنواعه، لا مانع يمنعه، ما يؤشر للفواجع المرتقبة في جميع ميادين الحياة بالبلاد.
وباء عقلية الغنيمة:
عقلية الغنيمة، كمرض نفسي وذهني، هي التي تشجع البعض على السعي المتواصل لإفساد المصالح العمومية، ومنها منظومة الصحة التي كانت من بين أفضل ما أنتجه النظام بعد الاستقلال. فأهل المال الفاسد، باسم الخوصصة مثلا، يسعون منذ مدة إلى بعث المشاريع المزاحمة للمؤسسات العمومية، لا مزاحمة شريفة لا بأس منها، بل شرسة، لا تمتنع عن أي فحش. وها نحن نرى ازدياد عدد المصحات الخاصة في كل مكان، ما أدّى ويؤدى، لا لإفراغ المستشفيات العمومية من أهل الجدارة بها فقط، بل ودعم سعي البعض من الداخل لهدم المنظومة بأكملها. فمن يتعاطى فيها مثلا نشاطا نقابيا دعيا، لا علاقة له البتة بالمصلحة الشغيلة وحقوق العامل، لا يفتأ يسعى جاهدا للعمل على إفلاس نظام الصحة العمومية، كما يتم ذلك أيضا في ميدان التعليم، لتتأزم الأوضاع أكثر وتنعدم الثقة، فيتجه المواطن للمجال الخاص للحفاظ على صحته.
لهذا، لا مناص من القول أن ضياع البلاد وارد ما دام التعاطي السياسي للأمور لا يعدو أن يكون سلبيا، يعتمد على استبلاه الشعب بالشعارات الجوفاء والمواضيع الثانوية مع دوام انعدام المسؤولية، وخاصة تشجيع عقلية الغنيمة باسم تشجيع الاسثمار الخاص. هذا من باب اللخبطة القيمية، ولا يمنع من أن الحل الأول والآخر هو ضرورة وحتمية إيجاد المسؤول المناسب بمكان المسؤولية المتحتّم مع الحرص عليها بكل صدق نية، وبالفعل المحسوس والقانون العادل، دون اعتبار مبدئي لطبيعة العمل، خاصا كان أو عاما؛ فالمهم أن تكون مواصفاته عادلة لغالبية الشعب، لا لحفنة من أهل المصالح والمال.
ضرورة صدق النية بلا لغة حطبية:
إن من أهم مشاكل تونس اليوم انعدام صدق النية في السعي لخير شعبها، إذ أفضل النية عند البعض هو السعي لأسلمة البلاد عبر تركيعها لرأس المال أو التصدي نظريا للأسلمة دون طرح علاقتها المتينة مع الليبيرالية المتوحشة. هذا صراع أيديولوجي لا يهم بتاتا شعبا يكاد لا يجد ما يقتاته؛ رغم ذلك هو الموضوع الغالب بالساحة السياسية على كا ما عداه من أمور هامة، تُعتبر ثانوية أو من باب التلهية والدعابة. طبعا، يتم هذا الصراع في قالب بديع من الخزعبلات، بما أن الجانب المتحمس للدين ينبري للكلام عن الهوية والتجذر في العادات والدين، معتمدا على مسمار جحا الدستوري ومقتضيات قوانين العهد البائد المحتّمة لضرورة احترام مباديء الدين الإسلامي في فهمها الخاطىء حسب فقه بار، أكل عليه الدهر وشرب. هذا من جانب المتزمتين الدينيين؛ أما الجانب الآخر، فهمّه دحض صحة ذا الكلام لا بأدلة منطقية، كانعدام الحس المتزمت لدى الشعب وعدم غلبة الشعائرية عنده، بل باسم شعارات واهية، مثل اللائكية المنعدمة حتى في البلاد الغربية المنادية بها. خاصة وأنه بالإمكان الحصول على النتيجة نفسها باسم الدين، وذلك بالتذكير أنه يفصل فصلا تاما بين المجالين الخاص الذي لا دخل للسياسة فيه، والعام الذي لا دخل فيه للدين. أليست هذه لائكية إسلامية؟ فهلا أخذ بها من ينافح عن فصل الدين والسياسة إذا كان همه حقا الفصل بينهما، لا مقاومة خفيّة للإسلام؟
الحقيقة أن النية الصادقة تنعدم عند ساستنا بكل أطيافهم، فيعتقد الصادق منهم، خطأ في أفضل الحالات، أنه لا مناص من القبول بمثل هذا الصراع حتى لا تتأزم الأمور أكثر، بينما النتيجة هي في ازدياد التأزم لا محالة بعدم التصدي بحنكة وجراءة لدوام الوضع الراهن المخزي. فمن الخور مواصلة الاعتقاد أن المجتمع التونسي غير مستعد للنقلة النوعية المتحتمة في فهم دينه وتفعيل جميع الحقوق والحريات التي يضمنها له بالتخلص من قراءتنا الفاسدة له. وللثتبت من مثل هذا الاستعداد التام لدى الأغلبية الشعبية، خلافا لخرافة المجتمع المحافظ، يكفي المرور من الظن للفعل الملموس في المواضيع الحسّاسة.
حتمية الفعل المحسوس في المسكوت عنه:
أكبر الدليل على أن المجتمع التونسي في غالبيته مستعد للثورة العقلية التي يحتمها ما يجري ببلاده ما كان يُقال عن الثورة التي أحدثها بورقيبة في زمن لم يكن الشعب في نفس الوعي والنضج. لقد تردد التحذير من مغبة منع تعدد الزوجات أو الحق في التبني، فلم يقع أي شيء من ذلك، وتم الإصلاح وكأن شيئا لم يكن. وهذا ما سيحدث بتونس إذا كانت للساسة الجرأة على تمرير القوانين الضرورية لإصلاح المنظومة التشريعية الجائرة في المواضيع المسكوت عنها، تلك التي تدّعي الإسلام بينما هي تنقضه من أساسه لتعدّيها على ما فيه من عدل وعلى مقاصده في المساواة التامة بين المؤمنين.
إن النية الصادقة، وهي أساس كل شيء، بما في ذلك السياسة، علاوة على الأخلاق والدين، تحتّم نبذ السياسة الحالية، هذا الهراء الذي هو من الكلام في النافخات زمرا، لا فائدة فيه إلا التشجيع على القصف والمجون. فكيف نلوم الشعب على العربدة وأهل المسؤولية في بلاده المثل الأول في ذلك؟ ثقافة اللامسؤولية هذه لا بد لها أن تنتهي قبل تكرر وتعدد الفواجع، لأنه إذا كان رب البيت بالدف ضاربا فشيمة أهل البيت كلهم الرقص؛ ولعمري، إنه لرقص النائحات الناحبات الذي ينتظرنا! فحال تونس تعيسة، فيها الكل يتكلم، ولا يفعل، يغنّي لليلاه ويرقص لها، إلا أن ليلى هذا الزمن هي حليمة، تلك التي العائدة دوما لعادتها القديمة نظرا لانعدام الفعل المحسوس للإصلاح الحقيقي الملموس.
مقاومة عقلية الغنيمة بالقانون العادل:
من المستحيل أن تتواصل الحالة الراهنة للبلاد الرازحة تحت نير القوانين الظالمة التي سمحت للديكتاتورية أن تعمّر طويلا. لا بد من إصلاح تشريعي عاجل لقوانين أبطلها الدستور، إذ لا مجال لمواصلة القبول بأحكام قضاء يطبق قوانين باطلة بدون حياء. ثم إنه لفي القانون الشرعي العادل أفضل الوسيلة لتثمين سعي من لا يزال على حسن النية من الساسة ممن حاول ويحاول الإصلاح، فلا ينجح، لانعدام السند الكافي والدعم الحاسم في منظومة قانونية جائرة تمنع محاولاته وتعرقلها. فهمّ الفاسدين المفسدين بالبلاد منع أي تغيير للقوانين المخزية، بما أن في تغييرها إضعاف مردود عملهم التخريبي بتفعيل آليات تغيير العقلية. وهو الواجب الأكيد، خاصة قرب من لا تهمّه مصلحة الوطن أمام مصلحته أو مصلحة رب نعمته من القوى الأجنبية التي تسعى لبقاء تونس تحت وصايتها، تخدم نواياها؛ وهو اليوم في مزيدٍ من تحرير البلاد أمام تخمة المجال الخاص في التهام كل المصالح العمومية لربح أوفر باسم خوصصة يُراد لها أن تكون أفضل السبيل لانعتاق البلاد. وهذا غير صحيح في بلاد فقيرة، فيها قلة من أصحاب الثروات الضخمة تضمن مزيد الثراء بالخوصصة على حساب الأغلبية.
وبعد، ليس المشكل في القبول بالمبادرات الخاصة أوالتشجيع عليها، بل في أن ذا يتم على حساب التفريط في المجال العام وما ثبتت ضرورته لصالح الشعب عموما. ثم إنه، خاصة، في انعدام منطق تحرير المبادرات الخاصة لذوي المال والنفوذ بينما عموم الشعب مكبّل بقوانين تمنعه حتى من التصرف في حياته الخصوصية بكل حرية. فمن غير المنطقي تشجيع المبادرة الخاصة قبل تحرير الشعب من كل قيوده، إذ لحقّ المبادرة الخاصة أن يكون مشاعا للجميع، لا حكرا على الخاصة من أهل الجاه والمال. فلئن قبلنا بالخوصصة والتحرر في المجالات الاقتصادية، لا بد أن نبدأ بتحرير المجال الأهم، ما يخص العيش اليومي للشعب؛ عندها يأتي التوجه التحرري الاقتصادي بطبيعته كنتاج تحرّر عام لمظاهر الحياة في البلاد، فتكون الفائدة للجميع لا لفئة محظوظة. وفي هذا، لا محالة، بداية الخلاص من عقلية الغنيمة التي تستشري مع انعدام الحريات والحقوق الفردية، وبالأخص في المواضيع المسكوت عنها لما لها من تداعيات في اللاوعي الجمعي والمتخيل الشعبي.
نشر على موقع أنباء تونس