حديث الجمعة: تونس بين مطرقة الإرهاب الذهني وسندان الغضب الشعبي
إضراب الأمس يختزل فساد المشهد السياسي الحالي بتونس حيث لم تنفكّ الاحتجاجات الشعبية. ولئن هي أساسا اجتماعية، فهي بصدد الانحياز عن مسارها لاستغلال غضب الشعب من طرف أطراف داخلية وخارجية، همّها مصالحها الضيقة، بما فيها بث الفوضى بالبلاد لإجهاض التوجه الديمقراطي فيها.
هذا هو الإرهاب الذهني الذي يؤجج لا محالة الغضب الشعبي والذي يتوجّب التصدّي إليه، خاصة وأن هناك من الحلول ما لا يصعب اللجوء إليه مع نتائج إيجابية دون تأخير. فإضافة للإرهاب المنتصب على الحدود الشرقية وذاك المرابط بالجبال، تتهدّد البلاد مخاطر تتربص الفرصة السانحة للانقضاض على ما يُعتبر لقمة سائغة نظرا لسلمية الشعب التونسي عموما.
الإرهاب الداخلي هو أيضا عند من يرعاه في ذهنه وعقليته، ممن ينشط سياسيا وله من الخبرة ما يجعله مبدئيا على علم بالمهالك المهدّدة لسلامة مستقبل تونس، بمنأى عن المساهمة في تأجيج الأزمة بدعاوى لا معنى لها بالنسبة لمطالب الشعب الحقيقية، أي حق العمل وكرامة المواطنة في مختلف تجلياتها.
وعي الشعب التونسي :
في تلك الخانة تتنزل لا محالة الأسباب الداعية للإضراب العام الذي شنته المنظمة الشغيلة هذا الخميس؛ فهي تبيّن أن الشعب بوعيه الحاد لم يعد يؤمن لا بنخبه السياسية ولا بأضحوكة الوعود ببلد لا استقلالية لقراره السياسي. الشعب التونسي يعرف اليوم جيّدا أن منظومة الديمقراطية ببلده - بل هي كذلك أيضا حتى بالغرب - ليست إلا هذا الهيكل على المقاس لجن السياسة ترتع فيه كما تريد؛ فالديمقراطية ليست إلا ديموم أو مفازة لمن يتعاطى السياسة كمهنة تجارية؛ تلك هي الديمومقراطية بتونس خاصة، المرتع لجن السياسة Daimoncratie
والشعب التونسي لا يجهل أيضا أن الزمن الذي أظلنا يقتضي المرور من الديمقراطية الهجينة التي ليس للشعب فيها أي نفوذ، تلك الديمومقراطة، إلى أنموذج جديد تكون فيه السلطة للشعب عبر جمعياته ومجتمعه المدني يحكم بحرية ومسؤولية على المستوى المحلي والجهوي في نطاق ما يمكن تسميته بالديملوكية أي سلطة الشعب Démoarchie. ولا شك أن المنظمة الشغيلة تختزل هذه السلطة الشعبية لما لها من تجذر في الواقع المعيش للشعب. فهي المحرار الأفضل لما يشعر به من ظلم وقهر، تعبّر عنه بكل عفوية، وإن تغلّبت أحيانا العاطفة عندها، فكانت في بعض مواقفها متعنّتة أو حتّى مخطئة، كما هي الحال في التعليم أو في القضية الفلسظينية، نظرا لما يمّيز هذا الزمن من لخبطة قيمية فاحشة.
إضراب يوم الخميس يبيّن، دون أدنى شك، أن التونسي أصبح واعيا، شديد الوعي، بحقوق وحرياته، ممّا يجعل الوطأة عليه أكبر من طرف كل من لا يريد أن تصل الأمور بسرعة إلى هذا الحد، أي نجاح الانتقال الديمقراطي بتونس رغم ما في هذا المآل من حتمية، وذلك للمحافظة على دوام المصالح، خاصة المركنتيلية، لأكبر زمن ممكن. من هذه القوى والمصالح ما هو بالداخل وما هو بالخارج، بما فيها الدول التي تخاف العدوى في هذه الزمن الذي تنتشر سائر الأمور فيه بسرعة البرق! إلا أن الشعب التونسي المطالب بحقوقه، الواعي بحتميتها، لم يعد يخفى عليه مثل هذه التلاعب؛ وهو في معظمه يرفضه، إذ أصبح يقدّر حقّ قدره ما هو من حقّه قبل حقّ السلط وما هو من واجب السلط قبل واجب الشعب.
قوانين جائرة تقتضي الإبطال :
لذا، من الأسف أن النخبة الحاكمة إلى اليوم لم تتوصل إلى فهم هذا النضج الشعبي، فتواصل تجاهله، آخذة في تعاطيها للسياسة بوسائل بالية، لا خير فيها لا عاجلا ولا آجلا؛ فهمّ العديد ليس إلا الحفاظ على الكرسي وما يتبعه من امتيازات.
ولإنّه من البديهي، كما لا نفتأ نسمع من هؤلاء الساسة، أن ما يطلبه الشعب لا يمكن توفيره بعصا سحرية؛ إلا أنه بالإمكان، دون أي شك، التوصّل بشيء من الجرأة والحنكة والذكاء إلى البعض من السحر بانتهاج أساليب أخرى في الحكم وللحكم تسهر على الأخذ بعين الاعتبار المتخيل الشعبي واللاوعي الجماعي. فلا شك مثلا أن للحكومة القدرة لا محالة لإبطال البعض من القوانين الجائرة التي تنغص حياة الشباب وهم وقود الاحتجاجات. نعم، هم يطالبون بالشغل، ولكنهم يبتغون خاصة الكرامة؛ وهي أساسا في الحرية والعيش دون مضايقات. فهلا عمدت السلط إلى التوقف عن كل ما من شأنه مضايقة الشبيبة بإبطال السند القانوني لها الذي يسمح للشرط التسلط عليها؟
إنها، في معظم الأحيان، مناط مناشير وآوامر إدارية سالبة للحرية، لا صفة قانونية لها، تمنع من تطبيق حقوق وحريات ثابتة؛ وهذا لا يحتاج إلا لقرار ساسي جريء للإبطال دون حاجة للإجراءات الطويلة والمعقدة التي تفرضها الآلية التشريعية. على أن هذه من شأنها حتما أن تأتي لاحقا لأجل إبطال كل القوانين المخزية واستبدالها بنصوصٍ عادلةٍ للحد من حالة الاحتقان في صفوف الشباب بتمكينهم من حق التمتع بحرياتهك عوض الدفع بهم إلى المهالك لفرض وجودهم. هذا هو القطع مع الإرهاب الذهني الذي تفرزه مثل هذه القوانين، وبعضها يعود لزمن الاحتلال؛ وقد أصبح ضرورة قصوى من المستحيل تجاهلها إذا رغبنا في دعم الأمن بالبلاد وحفظها من انقلاب شعبي آخر يكون هدفها تحقيق ما لم يتم إلى الآن.
واجب الشراكة زمن العولمة :
من بين الشعارات التي ردّدها المضربون الإكراهات الأجنبية وتدخّل السلط الغربية في أمور البلاد الداخلية؛ وهذا، رغم أنه لا محيد عنه في زمن العولمة الذي نعيشه، لا يمنع من العمل على التخفيف من وطأته في نطاق شراكة رابحة للطرفين. فأليس من حق الدولة التونسية مطالبة الغرب، لا بفسخ ديون العهد البائد التي تمنعها من إنجاح نقلة البلاد النوعية، بل بأن تصبح استثمارات ؟ أليس هذا من واجب الدول الغربية التي تستغل البلاد التونسية لمصالحها استغلالا فاحشا منذ زمن طويل؟ إن الحفاظ على هذه المصالح التي تسعى لتنميتها لهو الذي يقتضي دعم نجاح تونس في الخروج من أزمتها وقد حاكت حالها اليوم حال أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية؛ فهل قدرت القارة الأوربية على تجاوز محنتها لوحدها دون المساندة الأمريكية؟
زمن العولمة الحالي يفرض واجبا لا مناص منه يتمثّل في شراكة حقيقية لا مجرد تبعية. وذا يفرض على الاتحاد الأوربي القطع مع سياسته العقيمة في مقاومة الهجرة غير الشرعية، إذ غلق الحدد هو الذي يخلقها. فرفع القيود التي تمنع الشباب التونسي من التنقل من شأنه زرع بذور الأمل فيه ومنعه من الانزلاق نحو الإرهاب بتمكينه من فرصٍ لتحقيق المشاريع التي تزخر بها رؤوس العديد منهم، وليست هي إلا مشاريع تنموية بين أوروبا العجور وإفريقا الشابة فيها الخير للجميع.
إنه لا يوازي تحجّر التفكير عند الغرب في هذه المواضيع إلا تحجّر الفكر عند الساسة بتونس، إذ هم لا يجرؤون على المطالبة بما ليس إلا من حقوق شعبهم، مكتفين بما تدرّه عليهم السلط الغربية من إعانات مشروطة وهبات لا تسمن من جوع. كما إنهم يكتفون من الحزب الإسلامي بوجوده في الحكومة لدعمها وعدم مساندة من يعارضها، قابلين بشرطه عدم المساس بالقوانين الجائرة الموروثة من العهد القديم وحتى من عهد الاستعمار بتعلة أن لها علاقة بالأخلاق والدين،كتلك التي سبق أن ذكرت والتي ثبت أن فيها الشر كلّه لشبيبتنا.
وإنه من الثابت المعلوم، نظرا لهذا التوافق المغشوش من أجل الحفاظ على الحالة التي عليها البلاد والحكم طبق ذلك، أن الأحداث الجارية التي تهز البلاد اليوم لن تقلب الأوضاع رأسا على عقب. إلا أنها، لا محالة، ستكتب صفحة جديدة من نضال الشعب التونسي وتزيده قوة وعزيمة، بل تقرّب أجله، في الحصول على حقوقه المشروعة في ما يفرضه هذا الزمن، وهو زمن الجماهير، من حق التنقل بحرية وقوانين عادلة للحياة حسب هواه، بما في ذلك الحب والجنس، وهي من الحقوق الشخصية للبشر التي يضمنها الدستور ولم يمنعها الدين، بل كرسها عند من يفهمه فهما صحيحيا. فلكل أجل كتاب؛ وكتاب التونسي بيمينه اليوم. فهل يأتي الإضراب الأخير بتغيير جذري في سياسة البلاد، كالجرأة أخيرا من جميع الأطراف المعنية على مطالبة الغرب بتحمّل مسؤولياته في إنجاح انتقال ديمقراطي حقيقي فيه الخير كلّه لسائر دول المتوسّط؟ ولم لا يكون ذلك بطلب انضمام تونس للاتحاد الأوربي، بما أنها تبع له على جميع الأصعدة، عدا صفة العضو؟
نشر على موقع أنباء تونس