حديث الجمعة: أي ثورة تونسية وأي ثورة على الإرهاب بها؟
لئن فرض مسمّي الثورة نفسه بتونس، فليس هذا إلا من التدجيل أو، في أفضل الظروف، من باب الأمل في المرور من ثورة افتراضية إلى ثورة حقيقية فيها إعادة الكرامة للشعب؛ وهذا يقتضي أولاوقبل كل شيء ثورة ذهنية، لأن الإرهاب الذي تقاسي منه البلاد يعشعش في الأذهان. فأي ثورة بتونس وأي ثورة على الإرهاب الذهني بها؟
تحتفل تونس في بداية هذه السنة بالعيد الثامن لما سمّي ثورة، بينما ثبت اليوم أنها ليست إلا ما نعتّه منذ البداية بالانقلاب الشعبي coup du peuple، أي الانقلاب على نظام باسم الشعب وبدعوى تلبية تطلعاتها المشروعة للحقوق والحريات، إذ هي التي تختزل حقّه في الكرامة. وهذه الحريات، لئن وقع إقرارها بالدستور، لا تزال حبرا على ورق لرفض النخب لها رغم علمها بأنه لا مناص من تفعيلها في أقرب الآجال بما أنّ زمننا المابعد حداثي هو زمن الجماهير، فلا شيء يمنعها من افتكاك حقها في آخر المطاف ولو بالقوة. ولا شك أن ما يحدث في أقرب البلاد إلينا من بين تلك التي تمثّل القدوة لنخبنا، أي فرنسا، لأكبر الدليل على ضرورة الكف عن تجاهل تطلعات شعبنا. فهل نسارع بالأخذ بها والكف عن المرواغة قبل أن تتأزّم الأمور أكثر؟ هذا ما ننتظره من ساسة لا تسعى إلا لمصالحها الضيقة!
لقد تغنّى شاعر تونس الخالد بإرادة شعبها في الحياة، ولعل شعره اليوم أفضل ما يساعد البلاد على مجابهة ما يهدّد أمنها واستقرارها، ساعيا إلى تقويض نموذجها الذي لا مثال له اليوم في العالم العربي. فبالتشبث بهذا النموذج خلاص تونس ونجاحها في مواجهة الإرهاب والقضاء عليه. إلا أن ذلك لا يكون بقوانين جزرية إضافية تمعن في انتهاك الحريات والحقوق، بما أن التونسي لا يزال يعاني من مثل تلك القوانين المخزية التي ورثتها البلاد عن النظام الهالك ولم يبطلها النظام الجديد بعد؛ فلا خير من دعمها بقوانين من نفس النمط.
هذا، ولا شك أن الغاية القصوى للإرهاب الحقيقي، وهو ذهني قبل كل شيء، هو بقاء الديكتاتورية بتونس، إذ هدف كل من يسعى لسوء تونس اليوم - أي من عقليته إرهابية، وهي المغذّي الحقيقي للإرهاب المادي - هو دعم القمع والتسلّط المادّي العلوي بتسلط أعلى معنوي باسم قراءة خاطئة للدين، بينما الدين الصحيح منها براء.
التصدّي للإرهاب بفكر تنويري ثوري:
لعله من المفيد هنا التذكير بما يقوله أيضا شاعر تونس الأعظم في فلسفة الثعبان المقدس:
لا عدل إلا إذا تعادلت القوى | وتصادم الإرهاب بالإرهاب.
ولا شك أن مجابهة الإرهاب بالإرهاب تكون بالتصدي للظلم والتسلط والتزمت بفكر تنويري ثوري يكون إرهابيا في جدّته وجرأته. هذا ما ينقص اليوم تونس، أي المزيد من العدل؛ ولا يكون ذلك إلا بتفعيل ما جاء بدستورها الجديد من حقوق وحريات في نطاق دولة مدنية.
إنه لا مجال بعد اليوم للإبقاء على كل ما يُنقص من حرّيات الشعب وحقوقه، وهو الذي يدفع الثمن غاليا للحفاظ على حقّه في العيش حرّا كريما ! لقد حان الوقت لإبطال كل ما بقي من عهد الدكتاتورية البغيض في قوانين البلاد التي تتجنّى على حق الشعب في الحياة بحرية دون أيّ تسلط بغيض من سلطات البلاد. لم لا يتمّ هذا احتفاءً بالذكرى الثامنة للرابع عشر من جانفي؟ فلقد دقّت، من زمان، ساعة مقاومة الإرهاب بإرهابٍ فكريٍ يتمثل في قوانين جريئة تبطل كل ما يمسّ بالحريات الشخصية في تونس الدولة المدنية. إنّه لا يمكن بعد اليوم، دون التعرّض لأخطار مهولة لا تُقدّر، القبول بأي قمع لحرية المواطنة والمواطن التونسي في نطاق معتقده وتصرّفه الشخصي ما دام الأمر لا يهم إلا حياته الخصوصية.
إنّ مقاومة الإرهاب، دون أدنى شك، تقتضي إبطال كل القوانين المخزية التي تحدّ من الحريات الخاصة والتي تدّعى باطلا مرجعية إسلامية، بينما لا أخلاق إسلامية فيها. من هذه القوانين تلك التي لا تعترف بحرية الفكر والمعتقد فتنقصها باسم المقدّس، أو تلك التي ترفض تمام المساواة بين الذكر والأنثى في الميراث، أو التي تجرّم المثلية؛ ونحن لا نتكلّم هنا إلا في أهم المسكوت عنه. ثم إنّ كلامنا في هذه الأمثلة، وغيرها كثير، ليس إلا من باب القراءة الصحيحة للإسلام، أي القراءة الثورية التنويرية التي لا تكتفي بالأخذ بحرف النص الديني وظاهره فقط، بل تغوص إلى مقاصد الشريعة. وهي في إعلاء قدر الإنسان والمساواة التامة بين خلق الله، أيّا كان جنسه ومعتقده.
لذا، فالتوجّه الحالي في تحقيق المساواة في الميراث، لئن وجب تثمينه، لا يكفي البتّة، إذ يتمّ استغلاله سياسيا من طرف رئاسة الجمهورية في نطاق مناوراته الخاصة؛ كما أنه لا ينطلق من المبدأ الأفضل للإصلاح، ألا وهو أن يتمّ باسم القراءة المتوجّبة للدين؛ ذلك لأنّه لا مجال، باسم مقاصد الشريعة، من رفض المساواة في دين العدل بتعلة واهية متهافتة مثل تعلة النص القطعي؛ بل من القطعي في دين العدل تحقيق المساواة دون تأخير.
الفكر التنويري خير إرهاب للإرهاب :
نعم، إن مثل هذه القراءة الصحيحة للدين الإسلامي تخالف ما يراه العديد من المدّعين الإسلام، ممن يأخذ بالرسم ويتجاهل روح النص ولبّه. ولهي، بالنسبة لهؤلاء الذي يرعون الإرهاب في أمخاخهم، من الفكر الإرهابي، الفكر الثوري الحقيقي والتثويري للدين، إذ هذا الذي من شأنه أن يعيد للإسلام سماحته ورونقه وقد دنّسه دعاة الرهبوت والنقموت بينما إسلامنا أولا وقبل كل شيء سلام ورحموت.
إن الإرهاب اليوم ينشأ ويترعرع لما يجده من تعاطفٍ لدى الحاضنة الشعبية التي فيها الكثير ممن لا يعرف من دينه إلا اللمم، فينحى باللائمة على الدولة وممثليها لما يرى عندهم من كبت لحرياته وحقوقه. لذا ترى هذه الأطراف من الشعب، الجاهلة لدينها، ولكنها عارفة حق المعرفة بحقوقها في الحياة الكريمة، تنجذب للعمل الإرهابي، لا لشيء إلا لأنها ترى فيه الرد اللازم للعنف السلطوي ولفهم للدين تعتقد غلطا أنه الصحيح عند الإرهابيين لا لشيء إلا لأنه يجابه منظومة سياسية متسلطة تقمع حريات الشعب.
فالشعب يتألم عندما يرى البعض من أبنائه يُظلم لمجرد أنه تعاطى من شدة القهر مخدرا أو كانت له علاقة جنسية خارج الزواج أو شاذة لأجل الطبيعة التي جعلها الله فيه، فإذا مستقبله ينهار في سجون البلاد التي أصبحت مصنعا للإجرام وتنمية الإرهاب. والشعب يتألم أيضا لما يراه من تجاهلٍ لحقّ أبنائه في التنقل بحرية خارج حدود بلادهم، وهو أول حق من حقوق الإنسان وأوكدها، فيتفطر كبده للذين يرمون بأنفسهم في عرض البحر ابتغاءً لحياةٍ أفضلٍ انعدمت في بلادهم، فلا ترى للساسة أي تجاوب لفاجعهتم، بل إمعانٍ في التعامل مع سلطات أجنبية ظالمة لا تسعى إلا لمصالحها الضيقة. لذا، يتعاطف العديد من شعبنا مع كل من يرفض النظام الذي يقبل بمثل هذه الإهانات لأبنائه، ولا يتردد في ذلك حتى وإن كان هذا الرفض جائرا من طرف أبناءٍ غووا وغُرّر بهم. فالإرهاب يؤدّى إلى الإرهاب.
الحاجة ماسة اليوم في تونس لإرهاب فكري يقوّض كل ما فسد في قراءتنا لديننا وتصرفاتنا السياسية والأخلاقية حتى يكون النموذج التونسي حقا وحقيقة نموذجا يُحتذى به. فلتعمل السلطات الحالية، من ساسة البلاد وأهل الفكر وخاصة المال بها، على إعادة الحكم للشعب بتفعيل حقوقه كاملة وحرياته بلا نقص ولا حيف في نطاق دولة تونس المدنية ! وليحكم بحكمة شعب تونس بتنقية منظومة البلاد القضائية مُبطلا ما فسد فيها ممّا يُنافي الحقوق والحريات الفردية مفعّلا أخيرا ما كرّسه دستورها من مستحقّات في جميع ميادين حقوق الإنسان والدولة المدنية. وليبدأ بإبطال أبسط النصوص رغم خطورتها، وهي المناشير السالبة للحريات.
ذلك هو الدواء الناجع لمرض الإرهاب، إذ يعالج لا فقط ظواهره ومسبّباته، بل يقضى أيضا عليه في الأذهان خاصة. بذلك يحكم الحاكم التونسي حقا باسم الشعب، فيكون معنىً لمقولة شاعر تونس المبدع الآخر، ابن هانيء، مع توجيه كلامه للشعب :
إنه لا مجال بعد اليوم للإبقاء على كل ما يُنقص من حرّيات الشعب وحقوقه، وهو الذي يدفع الثمن غاليا للحفاظ على حقّه في العيش حرّا كريما ! لقد حان الوقت لإبطال كل ما بقي من عهد الدكتاتورية البغيض في قوانين البلاد التي تتجنّى على حق الشعب في الحياة بحرية دون أيّ تسلط بغيض من سلطات البلاد. لم لا يتمّ هذا احتفاءً بالذكرى الثامنة للرابع عشر من جانفي؟ فلقد دقّت، من زمان، ساعة مقاومة الإرهاب بإرهابٍ فكريٍ يتمثل في قوانين جريئة تبطل كل ما يمسّ بالحريات الشخصية في تونس الدولة المدنية. إنّه لا يمكن بعد اليوم، دون التعرّض لأخطار مهولة لا تُقدّر، القبول بأي قمع لحرية المواطنة والمواطن التونسي في نطاق معتقده وتصرّفه الشخصي ما دام الأمر لا يهم إلا حياته الخصوصية.
إنّ مقاومة الإرهاب، دون أدنى شك، تقتضي إبطال كل القوانين المخزية التي تحدّ من الحريات الخاصة والتي تدّعى باطلا مرجعية إسلامية، بينما لا أخلاق إسلامية فيها. من هذه القوانين تلك التي لا تعترف بحرية الفكر والمعتقد فتنقصها باسم المقدّس، أو تلك التي ترفض تمام المساواة بين الذكر والأنثى في الميراث، أو التي تجرّم المثلية؛ ونحن لا نتكلّم هنا إلا في أهم المسكوت عنه. ثم إنّ كلامنا في هذه الأمثلة، وغيرها كثير، ليس إلا من باب القراءة الصحيحة للإسلام، أي القراءة الثورية التنويرية التي لا تكتفي بالأخذ بحرف النص الديني وظاهره فقط، بل تغوص إلى مقاصد الشريعة. وهي في إعلاء قدر الإنسان والمساواة التامة بين خلق الله، أيّا كان جنسه ومعتقده.
لذا، فالتوجّه الحالي في تحقيق المساواة في الميراث، لئن وجب تثمينه، لا يكفي البتّة، إذ يتمّ استغلاله سياسيا من طرف رئاسة الجمهورية في نطاق مناوراته الخاصة؛ كما أنه لا ينطلق من المبدأ الأفضل للإصلاح، ألا وهو أن يتمّ باسم القراءة المتوجّبة للدين؛ ذلك لأنّه لا مجال، باسم مقاصد الشريعة، من رفض المساواة في دين العدل بتعلة واهية متهافتة مثل تعلة النص القطعي؛ بل من القطعي في دين العدل تحقيق المساواة دون تأخير.
الفكر التنويري خير إرهاب للإرهاب :
نعم، إن مثل هذه القراءة الصحيحة للدين الإسلامي تخالف ما يراه العديد من المدّعين الإسلام، ممن يأخذ بالرسم ويتجاهل روح النص ولبّه. ولهي، بالنسبة لهؤلاء الذي يرعون الإرهاب في أمخاخهم، من الفكر الإرهابي، الفكر الثوري الحقيقي والتثويري للدين، إذ هذا الذي من شأنه أن يعيد للإسلام سماحته ورونقه وقد دنّسه دعاة الرهبوت والنقموت بينما إسلامنا أولا وقبل كل شيء سلام ورحموت.
إن الإرهاب اليوم ينشأ ويترعرع لما يجده من تعاطفٍ لدى الحاضنة الشعبية التي فيها الكثير ممن لا يعرف من دينه إلا اللمم، فينحى باللائمة على الدولة وممثليها لما يرى عندهم من كبت لحرياته وحقوقه. لذا ترى هذه الأطراف من الشعب، الجاهلة لدينها، ولكنها عارفة حق المعرفة بحقوقها في الحياة الكريمة، تنجذب للعمل الإرهابي، لا لشيء إلا لأنها ترى فيه الرد اللازم للعنف السلطوي ولفهم للدين تعتقد غلطا أنه الصحيح عند الإرهابيين لا لشيء إلا لأنه يجابه منظومة سياسية متسلطة تقمع حريات الشعب.
فالشعب يتألم عندما يرى البعض من أبنائه يُظلم لمجرد أنه تعاطى من شدة القهر مخدرا أو كانت له علاقة جنسية خارج الزواج أو شاذة لأجل الطبيعة التي جعلها الله فيه، فإذا مستقبله ينهار في سجون البلاد التي أصبحت مصنعا للإجرام وتنمية الإرهاب. والشعب يتألم أيضا لما يراه من تجاهلٍ لحقّ أبنائه في التنقل بحرية خارج حدود بلادهم، وهو أول حق من حقوق الإنسان وأوكدها، فيتفطر كبده للذين يرمون بأنفسهم في عرض البحر ابتغاءً لحياةٍ أفضلٍ انعدمت في بلادهم، فلا ترى للساسة أي تجاوب لفاجعهتم، بل إمعانٍ في التعامل مع سلطات أجنبية ظالمة لا تسعى إلا لمصالحها الضيقة. لذا، يتعاطف العديد من شعبنا مع كل من يرفض النظام الذي يقبل بمثل هذه الإهانات لأبنائه، ولا يتردد في ذلك حتى وإن كان هذا الرفض جائرا من طرف أبناءٍ غووا وغُرّر بهم. فالإرهاب يؤدّى إلى الإرهاب.
الحاجة ماسة اليوم في تونس لإرهاب فكري يقوّض كل ما فسد في قراءتنا لديننا وتصرفاتنا السياسية والأخلاقية حتى يكون النموذج التونسي حقا وحقيقة نموذجا يُحتذى به. فلتعمل السلطات الحالية، من ساسة البلاد وأهل الفكر وخاصة المال بها، على إعادة الحكم للشعب بتفعيل حقوقه كاملة وحرياته بلا نقص ولا حيف في نطاق دولة تونس المدنية ! وليحكم بحكمة شعب تونس بتنقية منظومة البلاد القضائية مُبطلا ما فسد فيها ممّا يُنافي الحقوق والحريات الفردية مفعّلا أخيرا ما كرّسه دستورها من مستحقّات في جميع ميادين حقوق الإنسان والدولة المدنية. وليبدأ بإبطال أبسط النصوص رغم خطورتها، وهي المناشير السالبة للحريات.
ذلك هو الدواء الناجع لمرض الإرهاب، إذ يعالج لا فقط ظواهره ومسبّباته، بل يقضى أيضا عليه في الأذهان خاصة. بذلك يحكم الحاكم التونسي حقا باسم الشعب، فيكون معنىً لمقولة شاعر تونس المبدع الآخر، ابن هانيء، مع توجيه كلامه للشعب :
ما شئت لا ماشاءت الأقدار | فاحكم فأنت الواحد القهار
نشرت على موقع أنباء تونس